جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لقد أثار قانون جاستا الأمريكي ، الذي أقره الكونجرس الأمريكي بغرفتيه ، بأغلبية ساحقة ، رغم الإعتراض الذي أبداه أوباما في مواجهته " الفيتو الرئاسي " ، الكثير من اللغط والجدل ، حول أسباب إصداره ، وتوقيته ، والنتائج المترتبة عليه . وقانون جاستا هو قانون العدالة في مواجهة رعاة الإرهاب . وقد صدر هذا القانون لمقاضاة السعودية بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر . ومن الأهمية بمكان الإشارة إلي أن أمريكا قد أزالت دولتين من الوجود علي خلفية هذه الأحداث ، وهما دولتي أفغانستان والعراق . وقسمت العالم قسمين علي ذات الخلفية ، حين أعلنت أن من ليس معها ، فهو ضدها ، في مسألة الحرب العالمية علي الإرهاب . وقد كان المستهدف من كل ذلك ، صناعة الفتوة الأمريكي الأوحد ، الذي يبلطج علي العالم ، نتيجة انفراده بقطبية أحادية ، بعد انهيار القطب الآخر ـ الإتحاد السوفيتي ـ الذي كان يحافظ علي توازن القوي ، نتيجة توازن الرعب ، الذي كان قائماً بين الدولتين . وقد داست أمريكا في سبيل ذلك علي كل القيم الأخلاقية التي ورثتها عن عصر النهضة الأوربية ، وما تلاه ، سواء عن قيم الديمقراطية ، أو حقوق الإنسان أو غيرها . كما أنها ضربت بالقانون الدولي ، عرض الحائط ، بسنها قانون محلي داخلي ، يتخطي الحدود ، ويتجاوز المحلية ، ليمس سيادة دول أخري ، ويعتدي عليها ، دون اعتبار لقواعد القانون الدولي ، وهو ما يخالف مبدأ الحصانة السيادية للدول ، ويخلق نوعاً من الفوضي العالمية . والسؤال : هل غاب عن المشرع الأمريكي الأمر الذي يتردد علي ألسنة الخبراء والساسة ، وهو إمكانية معاملة الدول الأخري لأمريكا بالمثل ؟ . بالقطع لم يغب عن أذهانهم ذلك . ولكنهم تعاملوا مع الموقف بمنطق من يملك القوة العسكرية ، والإقتصادية ، والنفوذ السياسي الأعظم في العالم . ومن ثم لن تجرؤ دولة علي التعامل معها بالمثل . فلا السعودية ، ولا العراق ، ولا سوريا ، ولا اليمن ، ولا أفغانستان ، ولا ما يستجد من دول علي الأجندة الأمريكية ، تملك القدرة أو الجرأة ـ مهما بلغ التهور من مدي ـ إلي سن قانون جاستا في مواجهة جاستا الأمريكي ، رغم الكوارث التي أحدثتها أمريكا في العالم . والتدليل علي السقوط الأخلاقي لإمبراطورية الشر ـ أمريكا ـ لا يحتاج إلي جهد جهيد . فرغم أن بوب جراهام ، السيناتور الديمقراطي السابق ، وعضو لجنة تقصي الحقائق ، قد أعرب عن اعتقاده ، بأن المجموعة التي نفذت الهجمات ، قد تلقت دعماً واسعاً من السعودية ، وأن الملف يتضمن ضلوع سعوديين ، بما في ذلك دبلوماسيين ، في علاقات مع المجموعة المنفذة . إلا أن هذا الإعتقاد يدحضه جون برينان رئيس وكالة الإستخبارات الأمريكية ، بقوله : أن الجزء السري من تقرير لجنة تقصي الحقائق قد أثبت عدم تورط السعودية في الأحداث . وأن الصفحات الثماني والعشرين السرية كانت مجرد مراجعة أولية ، تبين بعدها عدم وجود ارتباط بين السعودية والأحداث . ومع ذلك وجه القانون بشكل مباشر الإتهام للسعودية . إذن ثمة تهمة بغير جريمة . وتتصدر السعودية الدول التي سيتم مقاضاتها باعتبارها داعمة للإرهاب . ثم نأتي علي الوجه الآخر للعملة ، لنري المدي الذي بلغه السقوط الأخلاقي لإمبراطورية الشر ، التي نبتت جذورها علي جمام البشر . فلو فرضنا ـ جدلاً ـ أن السعودية متهمة ، فهي طرف ضمن أطراف تضم إيران ، وحزب الله . وقد تضمنت وثائق محكمة أمريكية ، وفقاً لمصادر صحفية ، اتهامات لإيران وحزب الله ، بضلوعهما في تقديم الدعم المادي لتنظيم القاعدة ، بخلاف تسهيل سفر المتورطين في الهجمات ، ووجود تعاون وثيق بين إيران ، وحزب الله ، والقاعدة في مجال تدريب الكوادر الإرهابية . ومع ذلك ضرب القانون عنهم صفحاً ، بعد الإتفاق النووي مع إيران ، مما يدل علي وجود صفقة قذرة في الأمر ، دفعت بطهران إلي خارج المعادلة . وهنا تتبدي الإزذواجية الفجة في المعايير . والأمر لا ينطوي بحال علي دفاع عن الإرهاب ، أو التحريض ضد أنظمة دون أنظمة أخري . وإنما بيان السقوط الأخلاقي لإمبراطورية الشر الأمريكية . وفي ذات السياق نذكر أن واشنطن خاضت مفاوضات شاقة مع الجانب العراقي بشأن استمرار منح الحصانة من الملاحقة القانونية القضائية لجنودها بعد الإنسحاب من العراق . فالجنود الذين يرتكبون بتعليمات رسمية أشد الجرائم خطورة ، يتم إحالتهم للقضاء الأمريكي ، وليس العراقي . وقد شهدنا محاكمات صورية هزلية لجنود أمريكيين ارتكبوا من الجرائم ما يندي له جبين الإنسانية . بل إن الأمر يرجع إلي تسعينيات القرن الماضي ، حيث عبثت أمريكا بنظام المحكمة الجنائية الدولية ، بخلط السياسي بالقانوني في نظامها ، حيث استحدثت دور لمجلس الأمن ً يتلاعب به في المحكمة بحسب التطورات السياسية ،حيث جعلت من سلطته إحالة قضية جنائية من عدمه للمحكمة بحسب تهديدها للسلم والأمن الدوليين . وفي أوائل الألفية الثالثة أعلنت أمريكا عزمها علي عدم التصديق علي اتفاقية إنشاء المحكمة الجنايئة الدولية ، لأن التصديق سيمكن الأخيرة من مراجعة أحكام المحاكم الأمريكية ، ويعرض الجنود والمسئولين الأمريكيين للمحاكمة . وقد اتخذت واشنطن ثلاث إجراءات تضمن إفلات جنودها ومسئوليها من المحاكمة الجنائية الدولية : الإجراء الأول ـ استصدار قرار مجلس الأمن رقم 1422 في 12 / 7 / 2002 م بإعفاء الجنود الأمريكيين العاملين في قوات حفظ السلام في البوسنة من الملاحقة القضائية وفقاً لنظام المحكمة الجنائية الدولية . وهو قرار يمثل انتهاكاً صارخاً لنظام المحكمة ، وميثاق الأمم المتحدة . الإجراء الثاني ـ إصدار قانون في 3/8/2002م يقضي بسحب الدعم العسكري والإقتصادي من أي دولة تدعم المحكمة الجنائية الدولية . الإجراء الثالث ـ إجبار أكثر من مائة دولة ـ من بينها أطراف في المحكمة ـ علي توقيع اتفاقيات ثنائية تقضي بعدم تحريك دعاوي جنائية ضد الجنود الأمريكيين أمام المحكمة الجنائية الدولية . وهذه الإجراءات من شأنها الحيلولة دون المعاملة بالمثل في هذا الشأن . فأمريكا سعت لحماية جنودها ومسئوليها من الملاحقة القانونية والقضائية ، في ذات الوقت تعدت حدودها الجغرافية ، وأعطت لنفسها الحق في ملاحقة الدول الأخري مما اعفت نفسها منه. وهذا كله يدور في فلك قضية ، وقعت أحداثها منذ خمسة عشر عاماً ، وهناك شهود ودلائل وكتب تشير إلي تورط عناصر استخباراتية أمريكية في العملية ، بخلاف أن التنظيم المتهم هو صنيعة أمريكية . تلك هي المسألة . ولا ريب أن سقوط الأمم يبدأ بسقوطها الأخلاقي ، وأن أمريكا بقانون جاستا قد دقت مسماراً آخر من مسامير عدة في نعش إمبراطورية الشر " أمريكا "