نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

 

هناك صنف من الكتاب يعتمد طريقة الحقائق العرجاء أسلوباً ومنهجاً عند تناول القضايا في دولة أو نظام ما من النظم السياسية التي تجد لها واقعاً في التطبيق .
وأقصد بالحقائق العرجاء تلك الحقائق التي لا تقدم للجمهور المخاطب بها كاملة ، وإنما تقدم نصف الحقيقة أو ربعها ـ سواء سلباً أو إيجابا ـ باعتبارها الحقيقة الكاملة . وغالباً ما يلتجيء الكتاب الذين ينتمون لحزب سياسي ما ، أو توجه ايديلوجي معين لهذا الأسلوب أو المنهج انتصاراً لإنتمائهم وتوجههم . وغالباً ما تتسم أفكارهم بالطابع الدعائي الترويجي ، الذي يصعب تصنيفه باعتباره فكراً. 
ولدينا في مصر هذا النموذج من الكتاب ينقسم إلي قسمين :
الأول ـ وهو هؤلاء الكتاب الذين يدافعون عن النظام القائم عمال علي بطال . فهم يقدمون الحقائق الإيجابية وحدها كاملة ، ويخفون وسع الطاقة أو يتجاهلون الحقائق السلبية . أو يقدمون نصف أو ربع الحقيقة في جانبها الإيجابي علي أنها الحقيقة الكاملة ، ويخفون أو يتجاهلون نصفها أو ربعها السلبي .
وهناك نماذج من هؤلاء الكتاب تجدهم في الصحف المسماة قومية ـ وهي الصحف المملوكة للدولة ـ وبعضهم يعمل في برامج إذاعية ، أو برامج متلفزة . وقد يطلق عليهم البعض أوصاف وصفات تلخص حالهم ، كوصف : المصفقين أو المطبلين للنظام .
الثاني ـ وهو هؤلاء الكتاب الذين يهاجمون النظام عمال علي بطال ، وحاله هو عكس حال كتاب القسم الأول ، علي نحو أو آخر .
وأيضاً يطلق عليهم البعض أوصاف تلخص حالهم ، من قبيل : العمالة وغيرها التي تحط من قدرهم ، وتطعن علي نحو أو آخر في شرفهم المهني .
وفي المجتمعات السوية التي تعيش ظروفاً طبيعية لابد وأن تجد ذلك القسم الثالث من الكتاب الذي يعتمد منهج عرض الحقيقة الكاملة ، سواء كانت حقيقة إيجابية ، أو حقيقة سلبية ، أو حقيقة بين بين .
ومن هنا ، ومن خلال الثلاثة أقسام يستطيع الجمهور أن يستخلص الحقيقة كاملة كما هي دون كبير جهد يبذله من أجل ذلك . 
وفي غياب هذا القسم تحدث حالة الإستقطاب الحاد ما بين السلبي والإيجابي دون إدراك الحقيقة كاملة . إنما يجري تقديم حقائق عرجاء شائهة ، لا تستقيم لها خطوة ، وهذا الإنقسام والإستقطاب ، وكم الحقائق العرجاء المقدمة ، يضر بالمجتمع ولا ينفعه ، وإن ادعي البعض عكس ذلك بدعوي أن ممارسة الحق في حرية التعبير عن الرأي المكفولة للجميع هي أنفع للمجتمع وأجدي .
وتتبدي خطورة القسم الثاني عن القسم الأول ، في أن القسم الأول يسهل انكشافه واكتشافه من الجمهور نفسه علي نحو مباشر ، بالمقارنة البسيطة بين المقال ، ومقتضي الحال المحس المعاش . ومن ثم يكون تأثيره محدوداً ، فكريا ، ونفسياً ، ومكانياً ، وزمانياً .
أما القسم الثاني فخطورته بالغة ، وتتبدي في أنه يدخل علي تربة نفسية وفكرية وحياتية مهيأة لاستقبال أفكاره . وأن الحرث في مثل هذه التربة الهشة بمحاريث الشر أمر سهل وميسور ، فالقابلية للإستهواء في ظل الظروف المواتية تكون أشد وأعلي .
وليت هذا القسم يكتفي بعرض الحقائق كما يراها فعلياً ، أي يكتفي بعرض جوانب الشر فيها ، وإن سكت عن الجوانب الخيرة . وإنما يسعي إلي تشويه الجوانب الخيرة في الحقيقة بحيث تبدو شريرة ، أي يسعي إلي شيطنة الحقائق .
والأمثلة علي ما يقوم به هذه القسم فوق الحصر . 
منها : القول بعسكرة الدولة في مصر ، أي سعي النظام الحالي بحكم خلفيته العسكرية ، إلي الإستعانة بالعسكريين في الأعمال المدنية .
وتلك حقيقة ، ولكنها ليست الحقيقة الكاملة ، إذ ينبغي لاستكمال جوانب الحقيقة أن تسأل عن العلة وراء ذلك . فإذا عرف السبب بطل العجب كما يقولون . 
قد يقول قائل بأن العلة وراء ذلك هي مكافأة العسكريين ، والترفيه عنهم ، وضمان ولائهم ، حماية للنظام وصيانة له . وهو قول مردود لأنه يصح فقط في الظروف الطبيعية للدول ، أما الظروف الإستثنائية التي تتطلب فيها الدولة عملاً جاداً دؤوباً من المدني والعسكري ، فإن المحك هنا هو العمل ، وهو الكاشف لمدي كفاءة وفاعلية الآداء لهذا أو لذاك . هذا لو كان ثمة محلاً للإختيار والمفاضلة بينهما . وفي مصر لا محل لهذه المفاضلة ، لأن الأصل في قيادة الشق المدني من الدولة هو المدنيين ، والعسكريين طارئين علي الموقف ، وليسوا أصلاء فيه .
فإذا أتينا للظرف الإستثنائي الذي تعيشه الدولة ، ويعيشه المجتمع في مصر ، فلابد من النظر إلي كفاءة وفاعلية الأداء ، التي ستنجز الأعمال بأقل تكلفة ، وأعلي جودة ، وأقل سعر ، وفي أقصر وقت ، لأن مصر لم تعد تمتلك رفاهية التراخي في تنفيذ هذه الأعمال ، وليس أمامها متسعاً من الوقت ، ولم يعد في قوس الصبر منزع علي ما تعانيه مصر من مشكلات .
فهل هناك من المدنيين الحاليين من لديه القدرة والكفاءة والفاعلية علي الإلتزام بذلك ؟ .
أظن أن التجربة تنضح بالحقيقة المُرة ، التي لايصح معها جدال ، وهي أن المدنيين ثبت عجزهم وفشلهم وفسادهم ، لأنهم في الأصل نتاج مجتمع فاسد . 
وهنا يتبادر إلي الذهن تساؤل منطقي عن المخرج من هذا المأزق ، ولنترك الإجابة لفطنة القاريء الكريم . ليس هذا تنظيراً للعسكرة ، ولا دفاعاً عنها ، ولا دعوة لها ، وإنما طرح للمسألة علي بساط البحث .
تلك هي الحقيقة كاملة بلا استحياء ولا خوف ولا وجل ، فهل جري عرضها علي الجمهور علي هذا النحو ؟ . أم أن ما يجري الترويج له هو التنديد بعسكرة الدولة ، والدعوة إلي سقوط الدولة العسكرية ، وتسيير المظاهرات ـ باسم الحق في التظاهر ـ للهتاف ضد الدولة . 
ومن هذه الأمثلة أيضاً : الدعوة إلي الإفراج عن المعتقلين . وهي دعوة باطلة من الأساس ، لأنه لا يوجد معتقلين ، وإنما أناس خالفوا قوانين ، تمثل مخالفتها جرائم معاقب عليها ، جري القبض عليهم ، وتقديمهم للنيابة العامة ، التي تحقق في الأمر ، وتقضي إما بالإفراج لعدم ثبوت التهمة المنسوبة إليهم ، أو تحرك دعوي عمومية ضدهم ، أمام المحاكم المصرية . والتي تقضي بدورها إما بالبراءة ، أو بالعقوبة المقررة . وقد صدرت بالفعل أحكام ضد بعضهم ، بعضها قابل للإستئناف أو النقض ، والبعض الآخر نهائي بات . 
ثم نأت لنضرب بهؤلاء مثلاً في الإعتقال ، والتنكيل بالمعارضين ، وتكميم الأفواه ، ونعد استمرارهم في الحبس فرصة للنهش في النظام والتكالب عليه . فإما أن يصدر الرئيس قراراً بالعفو عنهم ، أو يكون مستبداً متسلطاً . علماً بأن الرئيس لا يملك العفو قانوناً ، إلا بعد صدور أحكام نهائية باتة في القضايا المنظورة ، ولا يملك سحب ملف القضية من أمام القضاء . 
ثم تجدهم في ذات الوقت ينادون بدولة القانون والعدل والمساواة . ويتهمون النظام بقمع المعارضين ، وتكميم الأفواه ، وهم يمارسون كل هذه الرذائل الفكرية ، دون أن يمسسهم أحد بسوء .
هذان مثالان لبعض الحقائق العرجاء ، التي تقدمها النخبة لجمهور الشعب ، ويسعون من خلالها لتحقيق مآرب جاهلة أو متآمرة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 24 مشاهدة
نشرت فى 29 سبتمبر 2016 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,897