جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
هناك صنف من الكتاب يعتمد طريقة الحقائق العرجاء أسلوباً ومنهجاً عند تناول القضايا في دولة أو نظام ما من النظم السياسية التي تجد لها واقعاً في التطبيق .
وأقصد بالحقائق العرجاء تلك الحقائق التي لا تقدم للجمهور المخاطب بها كاملة ، وإنما تقدم نصف الحقيقة أو ربعها ـ سواء سلباً أو إيجابا ـ باعتبارها الحقيقة الكاملة . وغالباً ما يلتجيء الكتاب الذين ينتمون لحزب سياسي ما ، أو توجه ايديلوجي معين لهذا الأسلوب أو المنهج انتصاراً لإنتمائهم وتوجههم . وغالباً ما تتسم أفكارهم بالطابع الدعائي الترويجي ، الذي يصعب تصنيفه باعتباره فكراً.
ولدينا في مصر هذا النموذج من الكتاب ينقسم إلي قسمين :
الأول ـ وهو هؤلاء الكتاب الذين يدافعون عن النظام القائم عمال علي بطال . فهم يقدمون الحقائق الإيجابية وحدها كاملة ، ويخفون وسع الطاقة أو يتجاهلون الحقائق السلبية . أو يقدمون نصف أو ربع الحقيقة في جانبها الإيجابي علي أنها الحقيقة الكاملة ، ويخفون أو يتجاهلون نصفها أو ربعها السلبي .
وهناك نماذج من هؤلاء الكتاب تجدهم في الصحف المسماة قومية ـ وهي الصحف المملوكة للدولة ـ وبعضهم يعمل في برامج إذاعية ، أو برامج متلفزة . وقد يطلق عليهم البعض أوصاف وصفات تلخص حالهم ، كوصف : المصفقين أو المطبلين للنظام .
الثاني ـ وهو هؤلاء الكتاب الذين يهاجمون النظام عمال علي بطال ، وحاله هو عكس حال كتاب القسم الأول ، علي نحو أو آخر .
وأيضاً يطلق عليهم البعض أوصاف تلخص حالهم ، من قبيل : العمالة وغيرها التي تحط من قدرهم ، وتطعن علي نحو أو آخر في شرفهم المهني .
وفي المجتمعات السوية التي تعيش ظروفاً طبيعية لابد وأن تجد ذلك القسم الثالث من الكتاب الذي يعتمد منهج عرض الحقيقة الكاملة ، سواء كانت حقيقة إيجابية ، أو حقيقة سلبية ، أو حقيقة بين بين .
ومن هنا ، ومن خلال الثلاثة أقسام يستطيع الجمهور أن يستخلص الحقيقة كاملة كما هي دون كبير جهد يبذله من أجل ذلك .
وفي غياب هذا القسم تحدث حالة الإستقطاب الحاد ما بين السلبي والإيجابي دون إدراك الحقيقة كاملة . إنما يجري تقديم حقائق عرجاء شائهة ، لا تستقيم لها خطوة ، وهذا الإنقسام والإستقطاب ، وكم الحقائق العرجاء المقدمة ، يضر بالمجتمع ولا ينفعه ، وإن ادعي البعض عكس ذلك بدعوي أن ممارسة الحق في حرية التعبير عن الرأي المكفولة للجميع هي أنفع للمجتمع وأجدي .
وتتبدي خطورة القسم الثاني عن القسم الأول ، في أن القسم الأول يسهل انكشافه واكتشافه من الجمهور نفسه علي نحو مباشر ، بالمقارنة البسيطة بين المقال ، ومقتضي الحال المحس المعاش . ومن ثم يكون تأثيره محدوداً ، فكريا ، ونفسياً ، ومكانياً ، وزمانياً .
أما القسم الثاني فخطورته بالغة ، وتتبدي في أنه يدخل علي تربة نفسية وفكرية وحياتية مهيأة لاستقبال أفكاره . وأن الحرث في مثل هذه التربة الهشة بمحاريث الشر أمر سهل وميسور ، فالقابلية للإستهواء في ظل الظروف المواتية تكون أشد وأعلي .
وليت هذا القسم يكتفي بعرض الحقائق كما يراها فعلياً ، أي يكتفي بعرض جوانب الشر فيها ، وإن سكت عن الجوانب الخيرة . وإنما يسعي إلي تشويه الجوانب الخيرة في الحقيقة بحيث تبدو شريرة ، أي يسعي إلي شيطنة الحقائق .
والأمثلة علي ما يقوم به هذه القسم فوق الحصر .
منها : القول بعسكرة الدولة في مصر ، أي سعي النظام الحالي بحكم خلفيته العسكرية ، إلي الإستعانة بالعسكريين في الأعمال المدنية .
وتلك حقيقة ، ولكنها ليست الحقيقة الكاملة ، إذ ينبغي لاستكمال جوانب الحقيقة أن تسأل عن العلة وراء ذلك . فإذا عرف السبب بطل العجب كما يقولون .
قد يقول قائل بأن العلة وراء ذلك هي مكافأة العسكريين ، والترفيه عنهم ، وضمان ولائهم ، حماية للنظام وصيانة له . وهو قول مردود لأنه يصح فقط في الظروف الطبيعية للدول ، أما الظروف الإستثنائية التي تتطلب فيها الدولة عملاً جاداً دؤوباً من المدني والعسكري ، فإن المحك هنا هو العمل ، وهو الكاشف لمدي كفاءة وفاعلية الآداء لهذا أو لذاك . هذا لو كان ثمة محلاً للإختيار والمفاضلة بينهما . وفي مصر لا محل لهذه المفاضلة ، لأن الأصل في قيادة الشق المدني من الدولة هو المدنيين ، والعسكريين طارئين علي الموقف ، وليسوا أصلاء فيه .
فإذا أتينا للظرف الإستثنائي الذي تعيشه الدولة ، ويعيشه المجتمع في مصر ، فلابد من النظر إلي كفاءة وفاعلية الأداء ، التي ستنجز الأعمال بأقل تكلفة ، وأعلي جودة ، وأقل سعر ، وفي أقصر وقت ، لأن مصر لم تعد تمتلك رفاهية التراخي في تنفيذ هذه الأعمال ، وليس أمامها متسعاً من الوقت ، ولم يعد في قوس الصبر منزع علي ما تعانيه مصر من مشكلات .
فهل هناك من المدنيين الحاليين من لديه القدرة والكفاءة والفاعلية علي الإلتزام بذلك ؟ .
أظن أن التجربة تنضح بالحقيقة المُرة ، التي لايصح معها جدال ، وهي أن المدنيين ثبت عجزهم وفشلهم وفسادهم ، لأنهم في الأصل نتاج مجتمع فاسد .
وهنا يتبادر إلي الذهن تساؤل منطقي عن المخرج من هذا المأزق ، ولنترك الإجابة لفطنة القاريء الكريم . ليس هذا تنظيراً للعسكرة ، ولا دفاعاً عنها ، ولا دعوة لها ، وإنما طرح للمسألة علي بساط البحث .
تلك هي الحقيقة كاملة بلا استحياء ولا خوف ولا وجل ، فهل جري عرضها علي الجمهور علي هذا النحو ؟ . أم أن ما يجري الترويج له هو التنديد بعسكرة الدولة ، والدعوة إلي سقوط الدولة العسكرية ، وتسيير المظاهرات ـ باسم الحق في التظاهر ـ للهتاف ضد الدولة .
ومن هذه الأمثلة أيضاً : الدعوة إلي الإفراج عن المعتقلين . وهي دعوة باطلة من الأساس ، لأنه لا يوجد معتقلين ، وإنما أناس خالفوا قوانين ، تمثل مخالفتها جرائم معاقب عليها ، جري القبض عليهم ، وتقديمهم للنيابة العامة ، التي تحقق في الأمر ، وتقضي إما بالإفراج لعدم ثبوت التهمة المنسوبة إليهم ، أو تحرك دعوي عمومية ضدهم ، أمام المحاكم المصرية . والتي تقضي بدورها إما بالبراءة ، أو بالعقوبة المقررة . وقد صدرت بالفعل أحكام ضد بعضهم ، بعضها قابل للإستئناف أو النقض ، والبعض الآخر نهائي بات .
ثم نأت لنضرب بهؤلاء مثلاً في الإعتقال ، والتنكيل بالمعارضين ، وتكميم الأفواه ، ونعد استمرارهم في الحبس فرصة للنهش في النظام والتكالب عليه . فإما أن يصدر الرئيس قراراً بالعفو عنهم ، أو يكون مستبداً متسلطاً . علماً بأن الرئيس لا يملك العفو قانوناً ، إلا بعد صدور أحكام نهائية باتة في القضايا المنظورة ، ولا يملك سحب ملف القضية من أمام القضاء .
ثم تجدهم في ذات الوقت ينادون بدولة القانون والعدل والمساواة . ويتهمون النظام بقمع المعارضين ، وتكميم الأفواه ، وهم يمارسون كل هذه الرذائل الفكرية ، دون أن يمسسهم أحد بسوء .
هذان مثالان لبعض الحقائق العرجاء ، التي تقدمها النخبة لجمهور الشعب ، ويسعون من خلالها لتحقيق مآرب جاهلة أو متآمرة .