جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
علي مدار ستة أشهر فائتة ، وأنا أتوجه صباح كل يوم ، في نفس التوقيت ، إلي محطة المترو . أنحشر داخل طابور طويل ممتد ، مخصص للرجال ، بجوار طابور آخر ممتد للسيدات . الطابوران متوازيان . بعد فترة يأتي دوري للحصول علي التذكرة . أنقده ثمنها ، وأخذها ، وأتحرك ناحية المداخل الآلية ، أضع التذكرة في فتحة الماكينة ، ثم أدفع الحاجز ، فيندفع . وأخرج أخذاً التذكرة من الجانب الآخر . أتمشي قليلاً في الطرقات المؤدية لأرصفة القطارات . غالباً ما يكون القطار الموجود ممتلئاً ، ولا توجد كراسي شاغرة . فاضطر إلي الإنتظار علي المقاعد الأسمنتية المعدة علي الأرصفة لهذا الغرض ، والتي تعلوها مظلات أسمنتية للحماية من حرارة الشمس المباشرة في الصيف ، ولاتقاء مياه الأمطار في الشتاء ، والراحة لمن تعب من الوقوف ، أو للعواجيز من الرجال والنساء ، الذين لا تسعفهم قوتهم علي الوقوف لفترات طويلة ، أو كمكان للقاء الأحبة والعشاق بمعزل عن الأماكن ذوات العيون المتلصصة . يأتي صفير المترو من بعيد ، طويل ممتد ، وهو يتلوي علي القضبان كما الثعبان . نقف ننتظره ، غير عابئين باندفاعه ، حتي يرسو بجوار أحد الأرصفة ، وتنفتح أبوابه آلياً ، فنندفع داخله مسرعين ، أثناء هبوط ركابه ، في تزاحم غير مبرر، حتي نجد مقاعد للجلوس . وعلي الفور يتحرك المترو الآخر محملاً بركابه ، مغادراً المحطة . أفتح الجريدة اليومية لمطالعة ما بها من أخبار ، وأظل منهمكاً في القراءة ، مراقباً اللوحات الأسمنتية المنزرعة علي أرصفة المحطات بطرف عيني . لا أنشغل بمن يجلس بجواري من الناحيتين ، ولا بمن يجلس في الجهة المقابلة ، ولا بالواقفين في الطرقة الممتدة داخل كل عربة من عربات المترو . أنعزل بداخلي تماماً ، فلا أكاد أميز صوتاً ، أو شكلاً ، أو حركة داخل المترو . كل تركيزي منصب علي ما أقرأ . وأظل هكذا حتي أصل إلي محطة وصولي ، فألملم أوراق الجريدة ، وأهبط مندفعا في الزحام ما بين الخارجين والداخلين ، أصعد مسرعاً علي السلالم الكهربية ، في استعجال مصطنع ، كأني أهرب من عيون تلاحقني ، وأضع التذكرة في الماكينة ، وأدفع الحاجز فينفتح ، فأخرج . وأتوجه إلي مقر عملي . هذا هو الطقس اليومي الذي صببت نفسي بداخله صباً منذ شهور . حتي وقع لي حادث غريب . ففي أحد الأيام ، قرب انتهاء الستة أشهر ، التي قضيتها في دورة تدريبية متعلقة بعملي . وبينما أهم بالجلوس علي مقعدي داخل المترو ، حتي لمحت عيني ملامح فتاة ، قد تبدو جميلة ، تهم بالجلوس إلي جواري . فجلست ، وجلست بجواري . لم أكترث ، وظللت أمارس نفس الطقس اليومي المعتاد . وفي اليوم التالي تكرر نفس المشهد بذات الرتابة الآلية . وفي اليوم الثلث هكذا . فثار في ذهني تساؤلاً مشروعا:
ــ هل ما يقع محض صدفة ؟ .
ــ .............................
ولم أنتظر إجابة من أحد ، بدأ الأمر يشغل مساحة من تفكيري واهتمامي ، ويفقدني قدراً من مساحة الإعتزال المفروضة ـ إرادياً ـ من حولي ، وبمجرد صعودي للعربة ، يشغل مؤخرة رأسي وجودها من عدمه . وبدأ الإهتمام بالإستحواذ علي مساحة اكبر من المقعد يتسع ؛ في إشارة خفية لجلوسها إلي جواري . وبدأت هي تصعد إلي العربة متأخرة قليلاً ، حتي تتثبت مما يدور بخلدي ، وكأنها قد أدركته . مرت عدة أيام علي هذا النحو ، حتي تحول سلوكي وسلوكها إلي طقس تجري ممارسته علي نحو آلي ، اندفاعاً وراء أمر ما مضمر داخل النفس . ظلت هذه الحدود مرسومة بصرامة ، كأطواق حديدية ضربت حول الرقاب . ربما تاقت روحي ، وربما تاقت روحها كذلك ، إلي فك هذه الأطواق ولو قليلاً . تلك هي الطبيعة البشرية . وفي ذات يوم كنت أرمقها من طرف خفي ، وهي تمد يدها إلي داخل حقيبتها ، التي تضعها علي رقبتيها ، وهي جالسة إلي جواري . ثم أخرجتها وفيها صورة ورقية ، إنها صورة لطفلة صغيرة ، ترتدي مريلة المدرسة . وجه صغير ناعم ، ذو ملامح دقيقة ، وعيون عسلية واسعة مبتسمة ، ترتسم علي شفتيها ابتسامة رقيقة ، تظهر منها أسنانها الصغيرة ، مرتسمة في صفين . شعرها الأصفر تنتظمه ضفيرتان تتدليان علي كتفيها ، وتصلان إلي صدرها الصغير . فرفعت بصري خفية إلي وجه الجالسة بجانبي ، في محاولة لكشف صلة ما بينها وبين تلك الصورة ، إلا أن ذلك قد تعذر ، فعاودت النظر في الجريدة من جديد ، دون أن يلحظ أحد اهتمام عيناي بالتقاط صورتها . وعشت مع الجريدة بنصف عقل ، والنصف الآخر ذهب مع الصورة . استمر هذا الموقف في التكرار لعدة أيام ، بنفس ملابساته ، وأحداثه ، وما يترتب عليه ، حتي كدت أحفظ ملامح هذه الفتاة الصغيرة عن ظهر قلب . الغريب أنني قد لاحظت أنه لا يوجد أي اكتراث ، بما يحدث داخل هذه البقعة الجغرافية ، من جمهور الراكبين . اعتدت علي هذا المشهد ، فلم أعد أكترث به ، وفي يوم آخر، دفعني الفضول إلي رؤية صورة الطفلة كرة أخري ، إلا أنني فوجئت بصورة أخري ، لفتاة أو سيدة فوق الثلاثين ودون الأربعين ، ترتدي بلوزة ذات ألوان زاهية ، يعلوها رقبة طويلة ، ووجه أبيض مستدير ذا ملامح أكثر تحديداً ، وشفاه دقيقة مبتسمة ، تكشف ابتسامتها عن صفين من الأسنان المنحوتة بدقة ، منتظمة كأن يداً قد تدخلت في رصهما رصاً . وعينان عسليتان واسعتان ، منطفئتا اللمعة ، تغطيهما أهداب طويلة سوداء ، وحاجبان هلاليان يعلوانهما . وشعرأصفر متدلي علي كتفيها ، يمثل إطاراً يبروز جمال الوجه بداخله . وفي الجزء السفلي من الصورة ، داخل الإطار الأبيض ، كتبت عبارة من كلمتين : " مشيت خلاص " . أخذتني العبارة من تلابيبي ، وأثارت بداخلي العديد من الهواجس والظنون . وبدأت أشك في القوي العقلية لمن تجلس بجانبي ، وسلامتها النفسية . فالمنطقي أن يتعلق الإنسان بصورة من يحب ، صورة أمه، أو أبيه ، أو حبيبه أو أخيه ، أو أخته ، أو زوجه . أما أن يتعلق الإنسان بصورته كل هذا التعلق المرضي ، فهذا أمر لاريب مقلق ومخيف . ربما تكون صورة أختها التوأم . ربما ، ولكن لو أنها كانت لأختها لكانت العبارة بصيغة المؤنث . دفعني الفضول إلي سؤالها ، إلا أنني ترددت كثيراً ، فأنا لم يسبق لي مخاطبة الغرباء ، ثم وجدتني مندفعاً في سؤالها :
ــ من الذي مشي ؟ .
ردت بهدوء :
ــ عمري .
لم أنبس ببنت شفه ، ودفنت وجهي في الجريدة ، حتي بلغ المترو محطة وصولي ، فلملمت أوراق الجريدة ، وغادرت عربة المترو لآخر مرة ، فقد انتهت المأمورية .