ليس عندي مشكلة علي الإطلاق . كل ما هنالك أن أنهض من سريري علي مهل ، وبهدوء ، حتي لا تشعر بحركتي . ليس مهماً أن أرتدي الروب ، فطرفه تحت رأسها ، ولو سحبته ربما تستيقظ ، كما ليس مهماً أن ألبس الشبشب ، فربما احتكاكه يحدث صوتاً . رفعت الغطاء من فوقي علي مهل ، وانزلقت رويداً رويداً ، وأنا أحبس أنفاسي ، فربما صوت ترددها في صدري يوقظها . نظرت إلي وجهها وهي نائمة ، لم ألحظ أي تغيير في ملامحها ، ففي كل يوم أري ملامحها الجميلة ، كما رأيتها أول يوم ، وربما أجمل . حتي مشاعري البكر التي زفت إلي مسامعها خبر حبي لها ، ظلت بكراً كما هي ، وكلمة أحبك آخر مرة ، كانت تحمل مشاعر اول مرة ، وزيادة . تحركت علي أطراف أصابعي العجوز ، بعد أن طبعت عيني قبلة الصباح علي جبينها الوضاء . فتحت باب الغرفة ، بعد أن أدرت الأكرة علي مهل ، خرجت وعاودت غلقها في صمت . كم غمرتني السعادة لنجاحي في الخروج من الغرفة دون أن تستيقظ . كنت أريد أن أحقق لها المفاجأة كاملة . مفاجأة واحدة قبل أن أموت . كنت قد اشتريت الحاجيات عند عودتي من المقهي أمس ، وأخفيتها عند دخول البيت ، وراء رصات الكتب في المكتبة بغرفة المكتب . أحضرتها ، وأخذت اللابتوب ، وتسللت إلي داخل المطبخ . وقمت بتشغيل اللابتوب ، وفتحت الشبكة العنكبوتية ، باحثاً عن طريقة عمل التورتة . وبدأت في اتباع الخطوات . خطوة خطوة ، وبمنتهي الدقة . وضعتها في الثلاجة . ثم بدأت في تجهيز الإفطار . بدأت بتجهيز السلاطة ، ثم إعددت عجينة الطعمية ، وطبق الفول ، وطبق الجبن ، والمخلل ، وغسلت حزمة من الجرجير . ووضعت الأصناف علي الرخامة ، وغطيتها ،ذلك كان إفطاري ، أما إفطارها فكان إما شاي باللبن ، أو قهوة باللبن ، مع شرائح البسكويت . خرجت إلي الصالة ، مهاتفاً ابني وزوجته ، إذ ربما يكون قد نسي عيد ميلاد أمه . فأشد ما يؤلمها أن ننسي ذلك اليوم ، خاصة أنه عيد زواجها كذلك . كنت اهاتفه بصوت خفيض كأنما أفضي له بسر لا أرغب أن يسمعه غيره . أسندت رأسي للخلف وجعلت أحملق في السقف ، كأنما استنطقه شهادته علي تاريخنا . دعك من حكاية الزواج التقليدي ـ زواج الصالونات ـ وزواج الحب . فكم من زيجة تقليدية نجحت ؟ . وكم من زيجة حب قد باءت بالفشل الذريع ؟ . وأنا بعد كل هذا العمر ، وتلك الخبرة العريضة ، لا أنحاز إلي هذا أو ذاك . فقط أنحاز إلي متعة الإستكشاف والإنتخاب الطبيعي للمشاعر والأحاسيس التي تسعد الطرف الآخر . وأن نري الأشياء كما لو كنا نراها أول مرة ، ونسمع الكلمات كأنما نسمعها أول مرة . وكذلك الأحاسيس والمشاعر . وألا ندع إلف العادة يجمد إنسانيتنا . الــزواج حـيـــاة مـتــكامـلــــــة ولـيـس مقـصوراً علي الجـانب الـبـيـــولــــوجـــي مـــنـــه ، كما يفهم البعض ، فهذا الجانب قبله حياة ، ومن بعده حياة ، وأثناءه حياة . الرابط البيولوجي ليس هو الرابط الوحيد بين الرجل والمرأة ، وإنما دونه روابط أخري قد تستعصي علي الحصر . درس تعلمته منها حين اكتشفنا إصابتي بالسكر، فالسكر قد يصيب الإنسان بالعجز . يومها عرضت عليها أن ننفصل حتي لا تربط حياتها برجل عاجز . يومها وقع كلامي عليها وقع الصاعقة . كم آلمني وآلمها هذا الكلام . لم تتغير ، ولم تتبدل ، وكأن ما حدث والعدم سواء . نهر الحياة الدافق من الميلاد إلي الممات تجري فيه مياه كثيرة ، وليس فقط الحب . الرابطة الزوجية رابطة حياة بكل ما في الحياة من تفاصيل . هنا أكلنا وشربنا . وهنا جلسنا وتكلمنا ، وهنا نمنا واستيقظنا ، وهنا غفونا وحلمنا ، وهنا كنت أجلس حتي تنتهي من تنظيف البيت ، ومسح أرضيته بالماء . وهنا كنا نتبادل القبلات قبل النزول إلي العمل ، وهنا كانت تستقبلني عند العودة . وهنا كانت تلملم ورائي ما أخلعه من ملابس ، وتناولني ملابس البيت ، وتساعدني في ارتدائها . وهنا كنا نجلس لنرتشف معاً الشاي ، أو القهوة . كانت تأكلنا اللهفة ، وتقتلنا الأشواق ، ويطاردنا القلق والرعب إذا ما افترقنا لأي سبب من الأسباب ، ولا نجد السكن والطمأنينة والراحة إلا في البيت ، عندما نكون معاً ، بعد أن ننفض غبار التعب عن كواهلنا علي عتبة البيت . كانت سعادتنا بمولودنا لا تدانيها سعادة في الوجود . وهو يرضع ، وهو يجلس ويحبو ، وهو يقف ويمشي ، ونحن نلحقة بالروضة ، حتي تخرج في الجامعة ، ونحن نحضر مناقشته للدكتوراه . أحياناً كانت تغضب مني وتغير علي ، ولا أجد رداً عليها سوي الضحك مقهقهاً حتي تدمع عيني ، فتقول لي :
ـ أتضحك ؟
فاقول لها :
ـ أتغارين علي رجل عاجز .
فتقول بحنق :
ـ نعم . أنت عاجز في جانب . ولكن تملك جوانب .
فأقول لها مسترسلاً في الضحك :
ـ لم يعد لي مطمع في النساء .
فتقول :
ـ ولكنك مطمع للنساء .
فأطبطب عليها ، وآخذها في حضني ، وأضمها إلي ضلوعي ، مقبلاً رأسها ، ويدها ، هامساً في أذنها :
ـ دونك كل النساء ، يا قبلة الروح .
يبدو أنني غفوت ، والوقت قد سرقني ، والأولاد قد تأخروا ، وهي ما زالت نائمة . نهضت مسرعاً أتعثر في أطراف السجاد . وجهزت مائدة الطعام ، وفرشتها ، وقمت برص الكراسي حولها . ولم يبق سوي إعداد الفول والطعمية ، ورص الأطعمة ، وبجوارها التورتة . رن جرس الباب ، فتوجهت إليه مسرعاً ، وفتحته علي عجل . نظر إلي ولدي باستغراب ، بعد أن قبلني علي خدودي ، وانحني ليقبل يدي ، ثم قال :
ـ ما بك يا أبي ؟ .
قلت له :
ـ لا شيء . أين الاولاد ؟ .
وقبل أن اكمل كلامي تدافعوا في اتجاهي ، تعلو وجوههم ابتسامة البهجة والفرح . قبل كل منهم يدي ، وانحنيت لأقبله علي رأسه . ثم دخلت أمهم خلفهم ، سلمت علي وحيتني . أغلقت الباب ، واندفع الاولاد ناحية المائدة ، اندفاع من فك أسره لتوه . فناديت عليهم صارخاً :
ـ انتظروا . ألن تنتظروا جدتكم ؟ .
ـ ...................................
خيم الوجوم علي وجوههم ، وارتدوا عن المائدة ارتداد من صدت نفسه عن الطعام ، فاستغربت منهم صدودهم ، لأنني لم أقل منكراً من القول ، يستوجب ذلك الوجوم والصدود ، فصرخت فيهم :
ـ ما لكم ؟ .
ـ ..............
لم يرد أحد . وخيم الصمت علي الوجوه ، وعلي المكان . شعرت بآلام العظام تعاودني . إنها تعاودني بمجرد الوقوف أو بذل أي مجهود . إن آلامها مبرحة لا تحتمل ، كأنها تصرخ أو تعوي ، فتشعر بصراخها وعويلها وعواءها داخل الرأس الشائبة . بدأ العجز عن الوقوف يدب في أوصالي ، وفي عظام ظهري المقوسة . تحركت ببطء ، وإعياء ، إلي أقرب كرسي ، فألقيت جسدي عليه . جري ابني والأولاد تجاهي :
ــ ما لك يا أبي ؟ .
ـ مالك يا جدي ؟
ـ ....................
شددت ولدي ناحيتي ، وأسررته أن عظامي تعاود الصراخ . وأن عليه أن يتوجه للغرفة لإيقاظ والدته ، للإحتفال بعيد ميلادها ، وعيد زواجنا ، قبل أن يثقل علي الألم ، ويحطني التعب والإرهاق . إلا أنه لم يحرك ساكناً ، ووقف وقفة الحائر الذي أعيته الحيل ، فصرخت فيه :
ـ ما لك تسمرت هكذا ؟ .
قال لي باشفاق لم أره من قبل :
ـ لقد ماتت أمي منذ سنوات يا أبي .
ـ ...........................
لم أعره ، ورده ، اهتماماً ، وقلت : الموت ليس الرحيل بالجسد ، وإنما الرحيل بالروح . فقد يرحل الجسد ، وتبقي الروح هائمة معلقة ، في أذهاننا ، ووجداننا ، وحياتنا ، ومشاعرنا . أما وأن هذه الأشياء موجودة حية في قلوبنا نحس بها ونشعرها ، فلا موت . هيا بنا لنحتفل بعيد ميلادها ، وعيد زواجنا ، وأنا سأذهب إليها في الغرفة لإحضارها ، حتي تعلم كم أحبها .
حــســـــــن زايـــــــــــد