جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
يبدو أننا قد استخدمنا الغربال في غير الغرض المخصص له ، فالغربال هو أداة تشبه الدف ذات ثقوب ، وتستخدم في تنقية المواد المغربلة ، بفصلها عما عداها . وقد جري استخدامه في مصر مثلاً ، يستدل من خلاله علي العمي . فالذي لا يري من خلال ثقوب الغربال من المؤكد أنه أعمي .
ويبدو أننا قد نقلنا الغربال من مجال الرؤية إلي مجال الذاكرة ، فأصبحت ذاكرتنا كالغربال في مواجهة قضايانا . فقد انزعجنا هنا من مجرد مقال نشرته مجلة الإيكونوميست الإنجليزية تحت عنوان : " تخريب مصر " . قامت المجلة بسرد كل ما تعاني منه مصر من مشكلات راهنة ، معظمها موروث من أنظمة سابقة ، وبعضها نتيجة طبيعية لأي محاولة للإصلاح ، سواء قامت هذه المحاولة بالأمس ، وفشلت نتيجة الخوف . أو تتم اليوم مع رئيس يملك جسارة اتخاذ قرارات صعبة للعلاج والإصلاح .
وستحدث هذه المشكلات حتي لو تم إرجاء العلاج مائة سنة أخري ، مع الأخذ في الإعتبار أن إرجاء العلاج يُفاقم المرض ، ويُعضل الداء .
وليت المجلة قد سلكت الطريق السوي في استقصاء المشكلات ، وعرضت لها ولأسبابها بالموضوعية والحيادية المدعاة من جانبها ، أو التي يدعيها لها من يروج لسمومه من خلال مشكلات واقعية يعيشها الشعب المصري ، ولا ينكرها النظام القائم . وأعتقد عن يقين أن الشعب المصري أدري وأعلم بمشكلاته من الإيكونوميست أو غيرها .
إلا أن هناك من يروج لهذه المجلة بأنها إقتصادية بحتة ، وأنها الأكثر موضوعية عالمياً ، حتي يكون ما ساقته عن مصر واقعاً لا محالة ـ سواء في المشكلات المعروضة ، أو التغيرات السياسية المتوقعة .
وقد نسي المرجفون في المدينة ، أنها مهما قيل عن موضوعيتها ، فإنها في النهاية تتخذ سياسة تحريرية تقوم ، علي مباديء العولمة والتجارة الحرة .
وأنها في حالة مصر ، قد انتقلت من الرصانة إلي الرطانة ، وقد تبدي ذلك من خلال القفز علي النتائج ، وتجاوز الإنجازات الحاصلة علي الأرض . والتدخل بشكل فج ، علي نحو يتصادم مع الرصانة والرزانة ، في قضية تخص المصريين دون غيرهم ، وهي قضية الإنتخابات الرئاسية المبكرة ،أو عدم الترشح لفترة رئاسية جديدة .
ومما يدعو إلي الدهشة ، أن يأتي ذلك من بلد ، تعد من أعرق الديمقراطيات في العالم ، وتعد إحدي دول العالم الحر .
ورغم أن المقال قد جاء في توقيت مقصود ، وهو وقت زيارة وفد صندوق النقد الدولي، وفي أعقاب قرار البرلمان البريطاني ، بإمكانية منح حق اللجوء السياسي للإخوان ، بعد سنوات من الدراسة لعلاقاتهم بقضايا الإرهاب ، ليس لأن الإخوان ليس تنظيماً إرهاباً ، بالوقائع والفيديوهات والإعترافات بالمسئولية ، ولكن لأنهم ورقة لم تحترق بكاملها بعد بالنسبة للغرب وأمريكا .
هذا بخلاف منح الجماعة وأذنابها ، مادة إعلامية ضخمة ، وزخم دعائي غير مسبوق ، للهجوم الشرس علي عقول المصريين ، بمناسبة فض البؤرة السرطانية ، التي حاولوا حقنها ، في جسد الدولة المصرية ، في ميدان الشهيد هشام بركات " ميدان رابعة سابقاً " .
وكذا الدعم الإعلامي لنشطاء الأجهزة الإستخباراتية ، الذين تجدهم دائماً في عكس الإتجاه .
فهل يمكن القول بعد ذلك ، أن مجلة الإيكونوميست بريئة من عبث الأصابع ، التي تلعب دائماً من خلف الستار . وأنا هنا لا أفكر بعقل المؤامرة أو التآمر ـ وإن وجد ـ ولكن بوضع الأشياء والمواقف متجاورة متراصة ، حتي تكتمل الصورة ، ويمكن رؤيتها وتوصيفها بحس ما يتراءي للناظر إليها ، دون أحكام مسبقة .
والواقع أنني لا يزعجني موقف الإيكونوميست ، لأنني أنظر إليه ، ليس منعزلاً عن غيره ، وإنما في إطار مجمل المواقف الصادرة عن لندن .
وحتي ندرك أن المواقف البريطانية ليست جزر منعزلة عن بعضها ، وإن بدت كذلك ، عاجلتنا بريطانيا بتصريح ، مفاده أن مصر ليس بها معايير تضمن إقامة محاكمات عادلة .
إذن فالموقف ممنهج ، يؤدي كل طرف فيه دوره ، في إطار مخطط عام ، يستهدف إسقاط مصر .
وهذا الموقف البريطاني دفع وزير الخارجية المصري سامح شكري ، إلي اتخاذ موقف يعد هو الأول من نوعه ، مفاده : " أن مصر تتواصل مع كفة الدول الغربية ؛ لتوضيح ما تقوم به جماعة الإخوان الإرهابية من ترويع لأمن المصريين، وتكدير للأجهزة الأمنية " . معتبرًا : " أن تصريحات بريطانيا ، لا تنم على أن العلاقات بين مصر وبريطانيا ، تسير في اتجاهها الإيجابي " .
ولعل في تلك التصريحات القوية ، ما يعالج التصريحات الباهتة ، الصادرة عن الخارجية ، بشأن الرد علي مجلة الإيكونوميست .
وهذا يفصح بوضوح عن وجود ثقوب في الثوب البريطاني ، لا يستر سوءتها تجاه علاقتها بمصر الدولة والشعب . وأن مصر لم تعد حريصة علي ستر هذه السوءات ، وأنها لا تخشي التعامل مع ما تكشف منها ، علي نحو واضح وصريح ، حرصاً علي ما يتوهم تواجده من مصالح مشتركة تسعي بريطانيا إلي تخريبها .
خاصة بعد الإنكشاف والتعري إزاء الموقف من الطائرة الروسية التي أسقطت في سيناء ، والمسلك التآمري فيه لضرب السياحة ، مقارنة بموقفها وموقف الدول الغربية من تركيا بعد الإنقلاب ، وموقف الجميع من فرنسا في أعقاب إسقاط الطائرة المصرية في البحر المتوسط .
وبمناسبة الترويج لثورة الجياع في مصر ، أحب التنويه أنه لم تحدث في مصر مثل هذه الثورة ، لأن المصريين لا يثورون بسبب الجوع ، وإنما يثورون لكرامتهم وإن جاعوا . ولمن يسعي إلي اللعب علي وتر الجوع أقول له " اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لكُمْ مَا سَأَلْتُمْ " . والله من وراء القصد .