جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
غزالة في عمر الزهور بين الرابعة والخامسة عشرة , تقطن ايكة على شاطئ البحر المتوسط في الشمال الفلسطيني , اعتادت ان تنزل الشط في الصباحات الدافئة ؛ تجمع الصدف والودع لتعمل منه عقدا يزين جيدها ويديها الصغيرتين . وجدت نفسها فجأة ــ وقد تبعثر ايكُها على ايدي مجموعة من الذئاب ــ , وجدت نفسها واخاها الذي يكبرها بثلاث سنين وامهما العجوز في حجرة صغيرة من الصفيح في احد مخيمات الشتات الفلسطيني . وصار عليها كل يوم مع الفجر ان تحمل جرتها وتصطف في طابور طويل على حنفية الماء التي اقامتها وكالة غوث اللاجئين بعيد نكبة عام 1948 , تصطف على الدور وتزاحم لتحصل على جرة ماء , وان حالفها الحظ تعود مرة اخرى قبل ان ينقطع الماء مع الضحى , ووجدت نفسها ايضا تصطف في طابور النساء لقضاء حاجتها في الحمامات العامة (المراحيض ) التي ايضا تفضلت وكالة الغوث بإقامتها . وتصطف على الدور ايضا لتحصل على حصة اسرتها من طعام الفطور الذي كانت تقدمه الوكالة ــ جبر الله خاطرها ــ لأبناء اللاجئين , بينما تفرغ الشاب للعمل في البناء او الزراعة لتامين لقمة العيش في زمن ركد فيه كل شيء وبارت العمالة وكسدت الاوضاع .
كبرت الغزالة وكبر اخوها واصبحا في سن الزواج , لكن زواج الاخ يرتب عليه مبالغ ليس في يده دينار منها , فهو بالكاد يوفر لقمة العيش للأسرة , فبدأ مع العجوز في التفكير بزواج البدل , المنهي عنه في الدين , لان الزوجة في مثل هذه الحالة لا تأخذ حقها في المهر وتوابعه , لكن والوضع المادي للناس هكذا , وللضرورة احكام .
وحصل النصيب وتمت الصفقة بمهر مسمى 20 دينارا لم تتسلم العروستان منه سوى خاتم صغير وفستان وتوابعه , لينتهي المطاف بإحداهما في المخيم بدل الغزالة , واما الغزالة ففي عزبة في منطقة رعوية في الشمال الفلسطيني .
في يوم صباحية الغزالة افاق العروسان على قرع شديد على باب الحجرة , انها الحماة توبخهما ان الوقت تأخر, فلابد من حلب الاغنام وتسريحها مع الراعي . افاق الزوج وخرج مسرعا , ولا اظنه تذكر ان يقول لعروسه صباح الخير , وسط دهشة الغزالة واستغرابها , فهذا امر لم تعهده , وما فهمت معنى الحلب ولا كيف يتم . بعد قليل دخلت اخت الزوج لتهدئ من روعها قائلة : لا تجزعي , عمتك هكذا , (دائما صوتها طالع وبصلتها محروقة) , سنكون اختان نتعاون على اعمال البيت . انت اليوم ارتاحي وانا اعمل الاعمال اليومية واعلمك , فهذه الامور قد لا تعرفينها , فنحن فلاحون نعيش على تربية الماشية , برنامجنا اليومي يبدا بعد الفجر بحلب الاغنام وتسخين الحليب وتصنيع اللبن والجبن , بعدها يخرج اخي مع الراعي الى المرعى , فعلينا عند ذلك كنس الحظيرة وحمل الزبل الى المكان المخصص( المكباة) , بعدها نتفرغ نحن النساء لأعمال البيت العادية , وعند المساء نستقبل الاغنام فنقوم بحلبها ايضا , ونفصل المواليد عنها خشية ايذائها . بعد ذلك نتحلق جميعا حول الوجبة الرئيسة مما يقسُم الله .
تهلل وجه العروس وشكرت اخت زوجها , واحست بالأمان , وفهمت الدرس , وما هي الا ايام حتى اصبحت تتقن كل الاعمال المناطة بها على اكمل وجه . ووجدت نفسها بين ثلاث رحلات سنوية : الرحلة الاولى رحلة الربيع على جوانب احد الوديان المعشبة , يقضي فيها اصحاب المواشي فترة الربيع فهي مليئة بالغدران لسقي اغنامهم , اما ماء شربهم هم فمن نبعة نزازة , ومعنى نزازة غير جارية وكلما اخذ منها تعود وتمتلئ بنفس المنسوب , ولا تفيض الا في سنوات المطر الغزير . واما الرحلة الثانية رحلة الصيف الى سهل فسح قريب من البلدة , وذلك بعد الحصاد لترعى الاغنام بقايا نباتات القمح والشعير والعدس والفول والحمص , وكانت الغزالة عادة ما تذهب مع الصبايا لجمع السنابل الساقطة او المتبقية بعد جمع المحصول , فتختار من القمح القشة الطويلة , فتعود تدق السنابل وتخرج الحب وتخزنه لنهاية الموسم لتعمل منه البرغل بنوعيه الخشن والناعم , لتصنع منه اشهي الوجبات خاصة في الشتاء . اما القش فتبله يوما كاملا وتلونه وتعمل منه اطباق القش الفلسطينية الشهيرة والمهفات والصواني , هذا الامر قبل ان يغزو البلاستك والالمنيوم اسواقنا . واما الرحلة الثالثة فهي العودة الى بيوت الحجر في اواخر الخريف وهكذا .
عرفت الغزالة كيف تدبر شؤون البيت فهي صاحبته , والبنات اقصد اخوات الزوج ضيفات ستذهب كل منهن الى بيتها , ــ فالبيت لك ولأولادك ــ , كما كانت تسمع حماتها تقول عندما تريد ان تسدي نصيحة او تنتقد عملا , وعرفت غزالة ان الماشية هي عماد حياتهم , وكل ما فيها مفيد , فتعلمت كيف تجز الصوف وتعمل منه فراشا واغطية ووسائد , وكيف تدبغ الجلد فيصبح جاعدا وثيرا يفرش كأرقى انواع البسط , او فراشا دفيئا في الشتاء , حتى القرون ن يعمل منها نصلات للسكاكين
ودارت عجلة الحياة وامتلا البيت بأصوات الصغار , فوجدت نفسها ربة البيت المسؤولة عن كل شيء , فالرجل كما يقال في المثل الشعبي : ( الرجل جنّى والمراة بنّى ) أي الرجل يسعى للرزق والمرأة تبني بمقدار ما يقدر عليه الرجل , فلا تكثر الطلبات وما عهد عنها انها تتشكي او تتشهى , انما تدبر من البيت , فتخزن في الصيف ما تحتاجه من مؤونة الشتاء من انواع الاغذية في الريف الفلسطيني من برغل وعدس وفريكة وحمص وفول الى الملوخية المجففة والبامية والبندورة والزعتر وغيرها على راي المثل الشعبي الفلسطيني ( من دبرت ما جاعت ومن رقعت ما عريت ) يقصد هي واسرتها .
في سنة من السنوات العجاف الى مرت على البلاد وجد الزوجان نفسيهما وقد فقدا ثروتهما بسبب مرض اصاب مواشي الريف الفلسطيني , فاهلك اغلبها وما تبقى لا يوفر للأسرة لقمة العيش , فما تذمرا ولا تبرما , لكنهما قررا ان يغيرا حياتهما , فانتقلت الاسرة الى قرية تشتهر بالزراعة , ليعمل الرجل مزارعا فيها , وفعلا رحلت الاسرة واستأجرت بيتا تعيش فيه , وتعرف هو على عمّال البلدة واشتري اول مسحاة ( مجرفة) في حياته وانخرط في العمل في المزارع .
هذه الحياة وفرت للأسرة نمطا جديدا من العيش , فانعدمت الرحلات الثلاث , واصبحت الاسرة مستقرة ولقمة العيش متوفرة , وذهب الاولاد الى المدارس , كانت حريصة على ان يكونوا من المتفوقين , وتفرح لشهاداتهم وتحاسبهم على التقصير , رغم انها لا تحسن القراءة , ولا تميز الالف من كوز الذرة , لكنها توزع فهما على كثير من حملة الشهادات .
كانت الغزالة صارمة في تربيتها اذكر انها كانت عند تحلق الاولاد على الطعام يكون بيدها عصا خشبية , تضرب بها يد كل من اكل بطريقة غير مهذبة , او كبّر لقمته او اكل من غير امامه , فالصينية واحدة والطعام واحد , كأنها تستحضر الحديث الشريف (يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ) رغم اني اظنها ما سمعت به , ولكن هكذا تربت ,وهكذا يجب ان تربي ابناءها , كانت تؤنب من يضحك ضحكة في غير مكانها , او غير مؤدبة بوجود الكبار , ويجلس فيستمع والا لقي العقاب الساخن بالحفاية او المقشة , ذاكرة له آداب المجالس دون ان تكون حفظتها من كتاب .
كثر الاولاد وكبروا وكبر همهم , وكثرت طلباتهم فزاد ذلك عبئا على الزوج فوقفت معه تساند وتكاتف وتدبر دون ان تتذمر . وفي يوم من ايام الصف طارت الاسرة فرحا بخبر انتظرته من زمن , يومها بكت الغزالة فرحا وارسلت فاشترت اكياسا من الحلوى واخذت تنثرها على رؤوس الاطفال في الشارع , كان الخبر نجاح اكبر ابنائها في الثانوية وحصوله على اعلى معدل في المدرسة , فأقيمت الافراح والليالي الملاح .
عند انتهاء الافراح بدا التفكير في ما بعد الثانوية , البعض ينصح بكفاية التعليم الى هنا , لينطلق للعمل ليساعد والده ويعين الاسرة ويحسن من وضعها , فقد بدأت دولة الاحتلال تفتح المجال امام العمال الفلسطينيين للعمل في مصانعها ومزارعها , بعيد نكسة 1967 وسقوط الضفة في براثن الاحتلال , والبعض نصح بمعاهد المعلمين المتوفرة في الضفة الغربية , لكنها اصرت وقالت : والله لو اضطررت ان امشي حافية لا بد ان يكمل , ويحصل على شهادة الجامعة , وطمأنت زوجها ان العبء لن يزيد , انت توكل على الله . وقد كان ؛ فحصل على الشهادة وعمل وتزوج وانجب وفرحت الغزالة بأحفادها .
وفي صبيحة يوم صيفي اغبرّ فيه الجو , واحمر قرص الشمس , ودارت الارض واحسست السماء اطبقت عليها , وتوقف الزمان , يومها على يدي هاتين اسلمت الروح الى باريها , وبيدي هاتين وسدتها الثرى . وما زلت كلما ذكرتها احس بغصة في حلقى , ويصير صدري ضيقا حرجا .
هل عرفتم يا دام فضلكم من هي الغزالة , نعم انها ست الحبايب امي , لكنها تمثل الاف الامهات اللواتي كافحن وربين . فلكل ام حضنت وربت وعلمت , لكل ام ارضعت وليدها حب الوطن , وغرست فيه النخوة والكرامة والشهامة وحميد الاخلاق , ولكل ام لفت وليدها بالعلم والكوفية وودعته بالزغاريد اقول : انتن نور الدنيا وبهجتها , وجنتنا تحت اقدامكن , واقول ما قال حافظ ابراهيم :
الام مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيب الاعراق
كل عام وانتن بالخير والسعادة . طبتم وطابت اوقاتكم .