نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات


احلام ــ ايها السادة الافاضل ــ ضحية من ضحايا موروثنا الاجتماعي المعوج . وفلسفتنا الحامضية , وثقافتنا المشوهة . احلام وما ادراك ما احلام ؟ فتاة جامعية اتمت ربيعها الحادي والعشرين , وبقي امامها عام وتتخرج , تعرفت على شاب من دفعتها , فحصل بينهما اعجاب تطور الى حب فاتفاق على الارتباط بعد التخرج .
اخذت احلام تحلم احلاما وردية ؛ بيت صغير دافئ تقوم على شؤونه ويكبر معهما , تنثر السعادة على جدرانه , لمساتها على كل ناحية من نواحيه , زوج رؤوف رحيم , اطفال تربيهم بطريقتها , وعلاقة اسرية تقوم على المودة والرحمة والسكينة . 
في احد الايام وبينما هما جالسان يخططان ويحلمان , خطر بباله فسالها عن عمل والدها فأجابت بابتسامة عفوية : عامل نظافة ( عامل وطن ). فغر الرجل فاه واتسعت حدقتاه واحمر شدقاه لكنه سرعان ما استعاد وضعه .
بعد ايام لاحظت احلام ان حبيبها تغير , اصبح لا يمر بها الا لماما ويصطنع الاعذار للمغادرة , واطول محادثة تستغرق بضع دقائق . وكما تعرفون ــ يا دام عزكم ــ فالمرأة بطبيعتها لها حاسة سادسة , فتيقنت ان هناك امرا ما قد حصل , ولابد من مواجهة الواقع بالواقع , فسالته مباشرة عن سبب تغيره معها , خاصة من بعد سؤاله عن عمل والدها , فهل لإجابتها علاقة بهذا التغير ؟ قال الشاب : بصراحة والداي لن يوافقا على فتاة والدها عامل نظافة . قالت : وانت ما رايك ؟ قال : انا وهما في مركب واحد , والمجتمع لا يرحم .
هبت احلام واقفة , انهت محاضراتها وانطلقت الى موقف الحافلات , واستقلت اول حافلة الى منزلها , دخلت فوجدت والدها وقد عاد من عمله , يجلس مع والدتها يتحدثان بسعادة , تقدّمت فسلّمت وكالعادة وقبلت جبين كل منهما , ثم قالت مبتسمة : ابي هل اطلب منك طلبا ؟ اريد ان اراك الان ببدلة العمل . لبى الرجل رغبة ابنته دون ان يعرف السبب , فما كان منها الا ان وقفت بجواره فرحة مزهوة تلتقط صورة لها وله معا , وقالت : هذه الصورة سأنزلها على صفحتي الشخصية على الفاسبوك , لأتباهى بك امام زملائي , ليعلم الناس انك فعلت ما لم يستطع كثير من ارباب المال والجاه فعله .
هذه ــ ايها السادة الكرام ــ باختصار قصة احلام وقصة كثيرات من اخواتها اللواتي يحمل وزر هذا الموروث الاجتماعي . لكن أتعلمون من الخاسر الحقيقي في هذه القصة ؟ انها المنظومة الخلقية والموروث الثقافي والاجتماعي لدينا , حيث اعتدنا تحقير بعض المهن , الامر الذي ادى لعزوف شبابنا عن العمل بها . عادة ما تقول الام لابنها : اذهب وارم كيس الزبالة للزبّال , وايك تحكي معه او تلمسه . فيخلد في ذهن اطفالنا منذ الصغر النظرة الدونية لهذا العامل الشريف من عمال الوطن وربما يسخرون منه ويهزؤون به . 
في المدرسة يخشى كثير من الاطفال ان ينظف صفه حتى لا يقال زبال , والادهى والامرّ ان يأتي ولي امر الى المدرسة ليعطي المدير والمعلمين محاضرة وخطبة عصماء في الاصول التربوية قائلا : انا والله ارسلت ابني للمدرسة ليتعلم وليس ليلم الزبالة في صفه , فالزبالة لها زبالون مختصون . 
في ديار الغربةــ ايها السادة ــ يقبل ابناؤنا العمل كمنظف في مول او غاسل صحون في مطعم , بشرط ان لا يعلم الاهل في الوطن , فلا يجد من ينظر اليه تلك النظرة الدونية , فيعايره بها لتصبح سبة له ولنسله ردحا من الزمن .
في مسلسلاتنا البدوية ينظرون الى بعض الحرف اليدوية والتي يحتاجها البدوي ؛ كصناعة السكاكين والخناجر و وتبييض الاواني النحاسية , ينظرون اليها على انها مهن حقيرة , ويطلقون على ممتهنها لقب (صوينع ) ويسكنونه اطراف القبيلة ولا يزوجونه من القبيلة , وتعرفون ايضا احداث المسلسلات تنغرس في اذهان الناس , وتصبح موروثا من مواريثهم الاجتماعية .
اعجبني ما نقله الاصمعي قال : مررت يوما بكنّاس , سمعته يكنس الشارع ويغني :
واكرم نفسي , انني لو اهنتها وحقك لم تكرم على احد غيري 
قال الاصمعي : حاولت اختباره فقلت يا هذا : عن ماذا اكرمتها فاجاب على الفور : اكرمتها عن الوقوف على اعتاب امثالك . 
وبعد ــ يا دام سعدكم ــ وبصراحة : لو ذهب احدكم لخطبة فتاة مهذبة خلوقة مجتهدة لابنه , فوجد ان اباها عامل نظافة هل يتمم الخطبة ؟ طبتم وطابت اوقاتكم .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 55 مشاهدة
نشرت فى 28 إبريل 2019 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,742