نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات


هذه الايام ــ ايها السادة الكرام ــ هي بامتياز مواسم الرحلات في بلادنا الحبيبة (الاردن) , التي حباها الله تنوعا في الطبيعة الجغرافية , فمن سلسلة جبال في الشمال والجنوب , الى هضبة بمتوسط ارتفاع الف متر عن سطح البحر في الوسط , الى شفا الغور الذي ينحدر شيئا فشيئا الى ان يصل مستوى سطح البحر , ثم يواصل انحداره ليبلغ 390 مترا تحت سطح البحر, في منظر يأخذ بالألباب حتى يصل الغور , وهو سهل فسيح يخترقه نهر الاردن الهادئ الجميل , حيث يعتبر الغور سلة خضار الاردن والدول المجاورة ــ ايام عزها ـــ وفيض عطائه , وهو مهوى افئدة المواطنين ومكان تنفسهم واستجمامهم , ابتداء من منتصف شهر اذار , وحتى يربِّعَ الشفا في بداية نيسان , ثم الهضبة فالجبال على التوالي . 
يبدا موسم الرحلات في بلادنا مع منتصف اذار الى نهاية نيسان , حيث الاستمتاع بالشمس المشرقة الدفيئة ــ بعد برد الشتاء القارص ـــ والطبيعة الخلابة بما حباها الله من بساط اخضر موشى بالوان الازهار الجميلة مما ابدع الله صنعه , من الاحمر للأصفر فالوردي والابيض والليلكي والازرق . 
في الاغوار يبدا الربيع مبكرا , نظرا لانخفاضها عن سطح البحر ودفء مناخها , فتجد العائلات ـ في ايام العطل والاجازات ــ تتقاطر زرافات زرافات , مبتعدين ولو قليلا عن الصناديق الاسمنتية والعلب الكبريتية في التجمعات السكانية , ليقضوا يوما جميلا في احضان الطبيعة الخلابة , وسط فرح عارم من الاطفال واستعدادات ومناقشات صاخبة لبرنامج الرحلة : خطة سير الرحلة , جاهزية الركوبة , اين سيستريحون لتناول الافطار , ماذا سيأخذونه معهم , وماذا سيأكلون واين وكيف يجلسون , الخ ... هذا يريد ان يأخذ الدراجة الهوائية , وذاك كرة القدم , وتلك كرة المضرب واختها الدبدوب , باختصار تجد الناس يحملون رحيلهم في الصباح , وكأنهم سيغيبون شهرا عن الساح , ثم يعودون به في الرواح , وهم في فرح وانشراح .
في الاغوار يجد المتنزهون ضالتهم ؛ حيث الخضرة والنضرة والمياه العذبة الغزيرة والتي مصدرها نهر الاردن المبارك , الذي يجري وسط السهل د , حتى يصب في البحر الميت المشهور بجماله وصفائه , فالغور سهله دفيء وربيعه مبكر فيجد الناس متعتهم في التنزه والدفء . 
يسلك الناس عادة الى الاغوار عدة طرق , ولكني اتحدث الان عن محافظات الوسط عمان , الزرقاء, مأدبا والبلقاء , عتدنا سلوك احدى طريقين : طريق حديث سياحي هو طريق العدسية , ويمتاز بسعته وخدماته الكثيرة والاشارات التحذيرية , فهو طريق امن , والامان بيد الله سبحانه . والطريق القديم الذي كنا معتادين سلوكه بأعداد غفيرة , سواء ايام الرحلات والتنزه او السفر الى الاراضي المحتلة , هو الذي يطلق عليه طريق السلط ـــ وادي شعيب الى الشونة الجنوبية في الغور , وللحقيقة انا احب هذا الطريق رغم خطورته لما له في اعماقي من الذكريات , فهو اول طريق سلكته عندما وطئت قدماي ارض الاردن العزيزة للدراسة في الجامعة كان ذلك سنة 1972. لذلك احبه واحن اليه رغم تعرجاته وخطورته . 
يبدا الطريق ضيقا متعرجا متهاديا من مدينة السلط العريقة , وهي من اجمل مدن الاردن واعرقها , ويسير متعرجا على حافة الوادي السحيق ( وادي شعيب ) , الذي ينبع من جبال السلط , فيتهادى نزولا ببطء شيئا فشيئا الى ان يصل من مرتفع يبلغ حوالي الاف متر عن سطح البحر الى انخفاض حوالي 400 متر تحت سطح البحر . طريق متعرج خطر لكنه في غاية الجمال حيث النبع في الوادي يجري رقراقا متهاديا والاشجار على جانبيه , والمروج الخضراء والطبيعة الخلابة وما تجود به من بساط اخضر موشى بشتى انواه الازهار كبساط عجمي منمنم تحار به الابصار ويأخذ بالألباب ويسحر العيون , يتهادى قليلا قليلا متعرجا الى ان يصل سد وادي شعيب على مشارف مدينة الشونة الجنوبية , لتجد نفسك فجأة في احضان الطبيعة الغناء , حيث مزارع الموز والنخيل والحمضيات , اضافة الى الخضروات بأنواعها , فيتبادر الى ذهنك صوت ميسون الصناع في اغنيتها المشهورة من التراث الشعبي الاردني :
يا بنت يالله انا واياك عالغور نزرع بساتينه
لا زرع لخيي ثلاث وردات واسقيهن من مية العين
فتتنزه وتتجول بين المزارع والبيارات فتحتضن الطبيعة وتحتضنك وتستمتع وتأخذ حاجتك مما لذ وطاب من خس وجزر ولوز وكرز وما جادت به الطبيعة من حميض وخبيزة وبقلة وغيرها . 
على منعطف واسع قليلا من منعطفات طريق السلط الغور ــ تقريبا في منتصف المسافة و على يمين الصاعد من الغور ــ محطة وقود , اعتاد اغلب السائقين والمسافرين والمتنزهين العائدين من نزهتهم الوقوف عندها , للتزود بالوقود , والاستراحة قليلا وتناول بعض المرطبات والمثلجات , وتبريد محركات سياراتهم التي يكون قد انهكها الصعود في منحنيات حادة وعالية , 
اعتدنا في هذا المكان ان نرى طفلة بعمر الزهور تقدم لنا زهورا برية جمعتها من الجبال وحوافي الوادي الشهير , تحمل في يديها وفي جيدها عقودا من هذه الازهار , بأشكال وألوان وانواع مختلفة , البيضاء او الصفراء او الحمراء والزرقاء , واحيانا تخلطها في ترتيب في غاية الاتقان ينم عن خبرة وحرفية . وعادة ما يشتري المتنزهون هذه القلائد يفرحون بها ابناءهم من ناحية , ومن ناحية اخرى يساعدون تلك الطفلة صاحبة الوجه الجميل بالسحنة الريفية المحببة . قد تجد احدهم احيانا يفاصلها في السعر , لكن من باب المداعبة ولتحس هي انها فعلا تبيع شيئا ذا قيمة .
في احدي المرات توقفنا عند تلك المحطة , وجلسنا في استراحتها بعد تزودنا بالوقود , وفتح غطاء السيارة ليبترد المحرك , وكما توقعت ماهي الا لحظات حضرت الفتاة وتقدمت منا تعرض بضاعتها على اطفالنا قائلة : لكن السعر زاد , اصبح العقد بربع دينار , ضحكنا ونحن نساومها قليلا , ثم اخذنا حاجتنا وانطلقنا عائدين وسط فرح الاطفال وابتهاجهم بهذه العقود ,
مرت الايام تلو الايام والسنون تلو السنون , وسرقتنا سكينة الزمن ومشاغل الدنيا وهمومها واوجاعها , وعدنا والعود احمد , وكأنما الزمن توقف عند تلك العطفة , فالربيع هو الربيع والطريق هي الطريق ما تغير عليها شيء , والاطفال هم الاطفال وعقود الزهور مازالت , ولكن لم ار تلك الفتاة بصورتها الطفولية الجميلة التي انطبعت في اذهاننا , فلربما كبرت وتزوجت وانجبت , وربما ابناؤها هم من يبيعون الورد الان .
وتستمر الحياة رتيبة في تلك المنطقة , ويتجدد وجه الارض وشبابها كل عام , ونحن من يشيخ ويهرم , لكننا نجد شبابنا في ابنائنا واحفادنا , حفظهم الله وابقاهم سادة على ارضهم وحصنا منيعا لها , في وجه كل من يضمر لها السوء . طبتم وطابت اوقاتكم .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 40 مشاهدة
نشرت فى 4 إبريل 2019 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,749