نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات


انا ـــ يا سادة يا كرام ـــ فلاح ابن فلاح , دمي يحمل لون تراب الارض , ولو حللتموه لوجدتم فيه كل عناصرها , عشت بين الفلاحين فحملت همومهم وامالهم وآلامهم , افراحهم واحزانهم , وحفظت موروثهم من حكايات وحكم وامثال وعرفت مواسمهم وطقوسهم فيها , ولعل اهم فصل من فصول السنة عند الفلاح هو فصل الشتاء , فان كان جيدا وفير الامطار استبشر به فربّع وشبعت مواشيه , فدر ضرعها وسمن وليدها , وصيّف ايضا فحصد وقلع , وفي الخريف جنى ثمار الزيتون فعصر وخلل , فشبع هو وعائلته وماشيته , وانزل الفائض الى الشوق فباع واشترى ما يلزمه من سمانة والبسة وادوية واغطية , واذا لم ينزل المطر كانت سنة جدب وقحط , فلا ضرعا حلب ولا زرعا حصد . 
كنت اسمعهم في شهر تشرين الاول( نوفمبر) قبيل فصل الشتاء يقولون : (ازرع واندم ولا ما تزرع فتندم ) , والمقصود ان القمح والشعير والبقوليات تزرع في هذا الشهر , فبعض الفلاحين ينتظر هطول الامطار في هذا الشهر فيحرث ويزرع , فيكون ذلك افضل فلا تستطيع الطيور التقاطه , فان تأخر المطر ولم يزرع يكون الموسم قد ضاع عليه , واما الاخرون فيبذرون قبل المطر وهو ما يسمى بالعفير , فيكون عرضة لان تلتقط الطيور بعض البذار , لكن ذلك اضمن للموسم . 
ولأيام السنة ومواسمها عند الفلاح مسميات وملاحظات , وردت في ترتثهم الشعبي على شكل مثل او حكمة او خلاصة تجارب فيقول مثلا : اذا رأيت سهيلا فلا تأمن السيل , وسهيل ( وهو نجم ساطع يظهر في اواخر ايلول ) , ويقولون ايضا : بين كانونين لا تسافر يا شقي , والمقصود كانون الاول(ديسمبر) وكانون الثاني (يناير ) , لشدة هطول الامطار فيهما . 
يبدا الموسم المطري الحقيقي عادة بأربعينية الشتاء ؛ وهي اربعون يوما تبدا في 21 كانون الاول وتنتهي في 30 كانون الثاني , وهي اشد ايام السنة برودة والمفروض امطارا , فترتوي الارض والنبات . بعدها تدخل خمسينية الشتاء وتبدا من 31 كانون الاول وتنتهي بنهاية الاعتدال الربيعي 21 اذار ( مارس ) , ويقسمونها الى اربعة اقسام ؛ كل قسم اثنا عشر يوما ونصف , ويسمونها (السُّعود ) تبدا بسعد ذابح , يليه سعد بلع , ثم سعد السعود , واخيرا سعد الخبايا . ولهذه التسمية قصة في تراثنا الشعبي : يقال والله اعلم أن شاباً يطلق عليه "سعد" قرر السفر ، وكانت الأجواء دافئة , فنصحه والده بأن يحمل معه ما يدفئ به نفسه من البرد من فراء أو حطب ، إلا أن سعداً لم يستمع إلى نصيحة أبيه. وبعد أن قطع مسافة ، تغير الجو وأصبح البرد قارساً فهطلت الأمطار الغزيرة والثلوج ، وكان في سهل فسيح لم يجد ما يستره فلم يكن أمام سعد سوى أن يذبح ناقته التي ليحتمي بأحشائها من شدة البرد . لذا سميت هذه الفترة بـ "سعد الذابح " , وبعد أيام شَعَرَ سعد بالجوع ولم يكن أمامه إلا أن يأكل من لحم الناقة ، وبذلك أطلق على هذه الأيام "سعد بلع"، وبعد أن انتهت العاصفة وأشرقت الشمس فرح سعد واحتفل بنجاته وسمي "سعد السعود " وقام سعد بعد ذلك وخوفاً من أن تتكرر العاصفة مرة أخرى، بصناعة معطف له من وبر الناقة ، كما أخذ من لحمها المتبقي ، فسمي "سعد الخبايا" .
ويقولون في وصف هذه الايام : سعد ذابح به ما تقدر الكلاب تنابح من شدة البرد , وسعد بلع أي ان الارض تبلع الماء فتمتلئ الابار ونفيض العيون , اما السعود فيقولون تدور المياه بالعود فتنتفخ البراعم استعدادا للتوريق والازهار , وسعد الخبايا فيه تخرج الحيايا تعبيرا عن الزواحف التي تبيت البيات الشتوي كالأفاعي والسحالي . 
اما قصة المستقرضات او ايام العجوز التي نحن بصددها هذه الايام , والتي فعلت بنا الافاعيل وليس بالعجوز وحدها , فتعالوا ــ يا دام سعدكم ــ نتعرف عليها كما عبر عنها السلف في الموروث الشعبي :
المستقرضات "أيام العجوز" سبعة ايام , بدايتها السادس والعشرين من شباط (فبراير) ، وآخرها نهاية الرابع من آذار(مارس ) ، فهي ثلاثة من شباط وأربعة من آذار، وإذا كانت السنة كبيسة فتكون أيام العجائز أربعًة من شباط وثلاثًة من آذار.‏ والمستقرضات أيام مطرٍ غزير وخير وفير ، رياحٍ شديدةٍ وزمهرير ، كما حصل عامنا هذا ولله الحمد والمنة . وفيها يكون البرد في أشدّه ، ولذا كانوا يقولون: "في المستقرضات عند جارك لا تبات". وعادة ما يسبق هذه الفترة ارتفاعٌ في درجة الحرارة بشكل ملحوظ ، حتى يظن بعض الناس أن البرد قد انصرف ، ويُقال ايضا : "إذا تأخر المطر في شباط عليك بالمُستقرضات". 
اما من أين جاءت التسمية ؟ وما قصتها فيقال ــ كما جاء في الحكايات ــ ان عجوزا قالت في يوم الخامس والعشرين من شباط بعد ان مر الشهر بلا امطار : (اجا شباط وراح شباط وحطينا بظهره مخباط , لا قلع لنا وتد ولا فك لنا رباط ) والمخباط قطعة خشية كبيرة تستخدم لتنظيف الصوف ودق القمح لإخراجه من السنابل , والكلام كناية عن انه مرّ بلا مطر ولا رياح , تقول الحكاية فسمعها شباط فثارت حميته وقال مستعينا بآذار : "آذار يا ابن عمي أربعة منك و ثلاثة مني تا نغرق العجوز وخيمتها ومخباطها ونخلي وادها يغني . ويقولون : استجاب اذار له فهطلت الأمطار بغزارةٍ وسالت الأودية وجرف السيل أغنام العجوز تماما كما حصل عندنا هذا العام ، وبدأت العجوز تصرخ قائلة: "يا سيل درجهـن على مهلهن ، معاشير لايرمن بهمهن (حملهن) "، أي أنها تناشد السيل أن يرفق بالأغنام، كي لا يفقدن ما يحملن به 
ولكل يومٍ من هذه الأيام اسمٌ عند العرب وهي : اليوم الاول صن (لشدة البرد)، والثاني صنبر (يترك الأشياء متجمدة قاسية من البرد)، والثالث آمر (يأمر الناس بالحذر منه)،والرابع مؤتمر : (يأتمر بالناس بالشر والأذية)، والخامس بر (يمحي الآثار من شدة المطر والبرد) ، والسادس معلل (يعلل الناس ويمنيهم بتخفيف البرد) ، والسابع مطفئ الجمر (من شدة البرد، وبعده لا يوقد جمر لارتفاع البرد). ويقولون ايضا : " شباط بعير وبستعير وبيظل ناقص".
وقد تشاءم العرب في الجاهلية من المستقرضات اذ يرونها أيام نحسٍ ، فكانوا يتشاءمون منها، ويحذرون منها، ويقولون عنها أيام (الحسوم) ، وكانوا يتجنبون فيها الزواج والتجارة. ولم يكن الرجل يجامع زوجته لأنه يعتقد بأن الجنين سيكون مشوهًا ، وأن الأشجار التي تزرع في تلك الفترة لا تثمر . ولذا قالوا: "ما حَلال بيدوم إلا بعد الحسوم"، "إذا نويت بالحسوم نعمتك ما بتدوم، 
وقيل أيضًأ، إن "المستقرضات" هي المقصودة بقوله تعالى في سورة الحاقة، (وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ). والمراد بالآية: العذاب الذي نزل بقوم عادٍ بسبب كفرهم وتكذيبهم الرسل .
وبعد ،، ايها السادة الكرام ــ فهذه قصة المستقرضات , وقد صدق شباط وعده ووعيده هذا العام ليس بإغراق العجوز وخيمتها فحسب , بل واغرق وسط عاصمتنا الحبيبة , ومركز تجارتها العريق واثارها السياحية , ابتداء بالساحة الهاشمية والمدرج الروماني وسبيل الحوريات فالمركز التجاري لوسط البلد , وصولا الى معلمها الثقافي والحضاري (قاع المدينة) , خرب معها البنية التحتية لشوارعنا التي كشفت عن مدى الغش في المواصفات والمقاييس , تكسرت الشوارع وتهدمت الجسور ودخلت المياه المتاجر التي تعاني اصلا من الكساد وقلة التسوق , فخسر التجار بضائعهم وتلفت محلاتهم وتكبدوا خسائر تقدر بالملايين , في ظل تلكؤ اجهزة الامانة عن القيام بواجبها مما حول هذه النعمة الى نقمة بسبب عدم جاهزية مناهل تصريف المياه , والاعتماد على نظام الفزعة , فمن المسؤول يا ترى : العجوز ام شباط ام اصحاب المحلات , ام الامانة المشغولة بتكريم الفنانات . طبتم وطابت اوقاتكم

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 73 مشاهدة
نشرت فى 3 مارس 2019 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

191,750