جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
ستي ـ كما كنا نناديها ــ وجدتي كما هي باللغة الفصيحة , وتيتا بلهجة اهل المدينة , و يا جِدة بلهجة اهل البادية , واتا اتا بلهجة الرضّع , وكيفما قيلت فهي حلوة خفيفة على اللسان محببة للقلب والجنان , انها ست الكل تاج الراس ومنبع العطف والرأفة والحنان . وعيت على الدنيا وهي السيدة الاولي في البيت والامر الناهي , فقد توفي جدي ــ رحمه الله ــ قبل ان ترى عيني النور , فسدّت هي مسدّه في احلك الاوقات بعيد نكبة 1948 , تعاونت هي والوالد والكبيرات من بناتها اللائي لم يتزوجن على تامين لقمة العيش لباقي افراد العائلة , في وقت شحت فيه الموارد وعزت لقمة العيش , لذا فكلمتها لا تسقط الا على رؤوس ابنائها , يتلقفونها لتنفيذها فورا , اما بالنسبة لنا ــ نحن احفادها ــ فكلمتنا هي النافذة , وخاصة انا فقد كنت اول الحفدة وبشارة الجد رحمه الله قبل وفاته , فاذا ما اردنا شيئا او طلبنا طلبا هرعنا اليها فينفذ دونما ابطاء , واذا ما فعل احدنا ما يغضب الاهل وتطلب العقاب هرب واحتمي بظهرها , تماما كما وصف احمد شوقي في قصيدته جدتي والتي حفظناها عن ظهر قلب ونحن في المرحلة الابتدائية :
لي جَدَّةٌ تَرأَفُ بي أَحنى عَلَيَّ مِن أَبي
وَكُلُّ شَيءٍ سَرَّني تَذهَبُ فيهِ مَذهَبي
إِن غَضِبَ الأَهلُ عَلَــيَّ كُلُّهُم لَم تَغضَبِ
مَشى أَبي يَوماً إِلَــيَ مِشيَةَ المُؤَدِّبِ
غَضبانَ قَد هَدَّدَ بِالضَر بِ وَإِن لَم يَضرِبِ
فَجَعَلتني خَلفَها أَنجو بِها وَأَختَبي
وَهيَ تَقولُ لِأَبي بِلَهجَةِ المُؤَنِّبِ
أَلَم تَكُن تَصنَعُ ما يَصنَعُ إِذ أَنتَ صَبي
جدتي ــ يا دام سعدكم ــ اسم على مسمى جميلة واسمها جميلة , او هكذا كنا نراها , دائمة الابتسامة مشرقة الوجه وضاءة الجبين . تسكن حجرة ملاصقة لحجرتنا , بينهما طاقة صغيرة لتبادل الاغراض دون اللجوء الى الابواب خاصة في الليل او المطر , وكنا نضع الفانوس فيها فيضيء على الحجرتين ,
لجدتي ــ يا دام سعدكم ــ زي خاص , تحرص على لبسه عند النزول الى المدينة لشراء مستلزمات البيت حيث كان هذا من اختصاصها , وكنت مرافقا لها في كثير من المشاوير ؛ ونيسا او متفرجا او حاملا .فتحرص على ارتداء الثوب الخاص بكبيرات السن في قرى الشمال الفلسطيني , والشال فوقه , ثم الصرطلية ( القفطان ) وهي من المخمل او قماش ثقيل مطرز ,
وشال ستي هذا حكاية ولنا معه حكاية , فهو ــ يا دام فضلكم ــ من الحرير الخالص بطول حوالي خمسة امتار وعرض متر , تصر النسوة عادة على البائع ان يمرره من الخاتم , للتأكد من انه من الحرير الخالص . تطويه بعناية بعرض حوالي 20سم ثم تلفه حول خصرها عدة لفات ليسند ظهرها اثناء المشي متهادية متباهية , اذ لابد ان يبقى جزء منه شاهدا للعيان تحت الصرطلية المفتوحة عادة من الامام , حيث يظهر جزء من الفستان بتطريزاته والشال بزهاء الوانه ورتابة طياته , اما حكاية الاحفاد مع الشال فهي حكاية الحكايات , فقد عشقناه عشق الوليد لثدي امه , كيف ؟ سأقول لكم وامري الى الله:
تعرفون ــ يا دام فضلكم ــ ان حقيبة اليد لم تكن معروفة آنذاك في القرى , او بالأحرى لم تكن منتشرة مثل هذه الايام , او لنقل لم تكن عادة نساء الفلاحين اصحاب الارض والمحراث خشنات الايدي مباركاتها حمل حقائب اليد الرقيقة , كانت العادة ان تحمل المرأة الفلاحة اذا نزلت للتسوق سلة من القُصّيب ( وهو نبات يعيش على جوانب الانهار , ساقه مفرغة , تصنع منه الزنابيل والسلال ), كانت تضع فيها مشترياتها وتحملها على راسها وتمشي المسافات الطويلة .
عادة اذا ما ذهبت جدتي للمدينة تشتري لنا بعض الحلوى( الملبس او بيض الحمام ) , وتضعها في تلافيف شالها , وكذلك تضع نقودها ومنديلها , وطبعا كنا عندما تصل وتجلس لترتاح من عناء المسير نتحلق حولها , منا من يقفز على ظهرها ومن يجلس في حجرها او بجوارها , وهي تقبل هذ وتبتسم لذاك وتحنو على تلك , ثم تبدا بالبحث بين طيات الشال وهي تضحك : ( وين وضعتيهم يا جميلة وين وين وضعتيهم , وين وين ... ) وتبحث , وعيوننا تكاد تخترق الشال تلهفا وقلة اصطبار , لروية ما خبأته الجدة , حتى اذا ما قالت : (وجدتهم ) تهللت اساريرنا واستبشرنا خيرا. فتخرج الحلوى وتوزع علينا اولا , ثم على البقية , فنقوم ونمطرها بوابل من القبلات والمحظوظ من يصل الى خديها وجبينها , وكانت احيانا تخرج من شالها بعض النقود المعدنية , وتوزع علينا فنذهب نحن ليشتري ما نريد .
ستي ــ يا دام سعدكم ــ كانت اخت الرجال كما يقال عندنا للمرأة الشجاعة . تحدثنا والوالدة رحمها الله فتقول : مرة خرجت جدتكم في يوم ماطر لاستلام حصتنا من مؤن وكالة الغوث بعد النكبة , ومكان التوزيع يبعد عنا حوالي 20كم منها حوالي خمس كيلومترات ستقطعها مشيا , بسبب وعورة الطريق وعدم توفر السيارات . سرت مع صلاة الفجر لتلحق المؤن قبل ان تقفل , يومها تأخرت حتى غربت الشمس , فظننا انها مع هذا المطر قد باتت عند بعض المعارف , فخلد اهل البيت للنوم , وقبيل الفجر سمعنا طرقا على الباب ونداء الجدة من الخارج , حاول ابوكم ان يقوم ليفتح فاعترضتُه وقلت : مش معقول هذه عمتي , ما الذي سآتي بها في هذا الليل والمطر , لابد هذه ( منبهة الليل) . ومع ازدياد الطرق ومحاولات ابيكم ان يفتح الباب تكللت مساعيه بالنجاح , فما كان مني الا ان تناولت السراج واقتربت من الباب لأنظر في عينيها قبل ان تدخل فباغتتني وكأنها عرفت قصدي : ( انا جميلة مش جنية يا بنت المسعدين , بس ومن شيبتي لأخليك تروحي انت الدور الجاي وانا بنت حمدان ) . تقول الوالدة استقبلناها برأفة وامتنان واكبا واعجاب , كانت يداها متجمدتين على السلة , وثيابها تقطر ممن شدة البلل , وهي تقول : الله يشقي اللي اشقونا وطلعونا من بلادنا .
ومنبهة الليل ــ ايها الصادة ــ تعبير كان سائدا في عقول ابائنا عن جنية تستطيع ان تتشكل كما تشاء , وتقلد الصوت الذي تريد , تظهر في الليل فتنادي على احدهم فيلحقها حتى اذا سار مسافة خلفها اختفت , المشكلة ان الكثير منهم يقسم ان تعرض لمثل هذه الحادثة . وربما ان تعبير منبهة الليل تسلل من الجاهلية , حيث كانوا يعتقدون ان احدهم ان قتل ولم يؤخذ بثأره تخرج على قبره جنية تسمى الهامة تنادي في الليل بصوت القتيل : اسقوني اسقوني . يقول ذو الإصبع العدواني ( شاعر وحكيم جاهلي ):
يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
ويعتقدون ايضا ان الجني فتحة عينه بالطول (راسي ) بعكس الانسي بالعرض (افقي) . لذلك قربت الوالدة السراج وفهمت الجدة القصد , لا يعرف المرأة الا المرأة . طبتم وطابت اوقاتكم .