جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
مثلٌ ــ يا دام سعدكم ــ عربيّ جاهلي , قديم لكنه متجدد , يقول : رمتني بثالثة الاثافي او تلك ثالثة الاثافي , او رَماهُ الله بثَالِثَةِ الأَثَافِي , قال خُفَافُ بنُ نُدْبَةَ , شاعر وفارس مشهو هو ابن عم الخنساء , ادرك الاسلام فاسلم وشهد فتح مكة :
وَإِنَّ قَصِيدَةً شَنْعَاءَ مِنِّى إِذَا حَضَرَتْ كَثَالِثَةِ الأَثَافِي
وقد ورد ذكر الاثافي ايضا في معلقة زهير الشهيرة و مطلعها :
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَـةٌ لَمْ تَكَلَّـمِ بِحَـوْمَانَةِ الـدُّرَّاجِ فَالمُتَثَلَّـمِ
الى ان يقول :
أَثَـافِيَ سُفْعاً فِي مُعَرَّسِ مِرْجَـلِ وَنُـؤْياً كَجِذْمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّـمِ
قال علقمة بن عبدة ( علقمة الفحل) :
بَلْ كُلُّ قَوْمٍ وإنْ عَزُّوا وإن كَثُروا عَرِيْفُهُم بأثافي الشَّرِّ مَرْجُوْمُ
فماهي الاثافي ــ ايها السادة الافاضل ــ وما ثالثتها ؟ ولمن يضرب هذا المثل ؟ فسأقول لكم وامري الى الله , وسأروي لكم بعض ذكرياتي الشاهدة على استخدام الاثافي , وكذلك الادوات التي ما عادت تستخدم في عصرنا هذا , اقول : صلوا على النبي:
منذ عرف الإنسان القديم صناعة القدور الآجرية , ومن ثم المعدنية ، بحث عن حجارة صلبة تتحمل الحرارة ليضع القدر عليها لإيقاد النار وطهو الطعام , ووجد ان القدر لا يستوي الا على ثلاثة , فحجران لا يستقيم القدر عليهما , والرابع زيادة لا فائدة منه , لذلك قيل في المثل : القدر ما بركب الا على ثلاثة . ثم اطلق على هذه الحجارة (اثافي ومفردها اثفية ) , ربما لأنه بنفث الهواء تحتها اثناء اشعال النار .
تنبئ الحفريات الأثرية في أقاصي الشرق ، أن الأثافي كانت ثلاثا في الصين شأنها في الجزيرة العربية ، فمنذ ما يزيد عن 3000 عام ، وُجد الإناء البخاري مثلث القاعدة في حوض النهر (الأصفر) ، وعُرف آنذاك باسم (لي) ، وكانت قواعده الثلاث مفرغة لتعريض مساحة واسعة منه للنار ن فضلا عن حفظ القدر منتصبا , ولا شك أن إدراك الإنسان القديم في مختلف أصقاع الأرض كفاية الأثافي الثلاث للقدر الواحدة بما في ذلك توزيع هذه الأثافي على رؤوس مثلث متساوي الأضلاع تقريبا . كان إدراكا رياضيّا وهندسيّا أوّليّا ، اكتسبه بالتجربة .
اما ثالثة الاثافي ــ يا دام مجدكم ــ فكان العرب اذا وجدوا حجرين جعلوا قاعدة الجبل بمثابة الثالث فاسندوا القدر الى الجبل , لكبر حجم القدر ودليل الكرم , فصار الجبل ثالثة الاثافي , وهو اكبر واثبت فصار يطلق على الامر العظيم , فيقالُ: (رَماهُ الله بثَالِثَةِ الأَثَافِي)، وهي الدّاهِيَةُ العَظِيمَةُ ، والأَمْرُ العَظِيم , قالَ الأَصْمعيُّ : يقالُ ذلكَ في رَمْي الرَّجُل صاحِبَه بالمُعْضلاتِ . وعودة الى بيت زهير في قصيدته المعلقة لنوسعه شرحا :
اثافي سفعا : سوداء من النار ، المعرس : أصله المنزل ، استعير للمكان الذي تنصب فيه القدر ، المرجل : القدر ، النؤي : نهير يحفر حول البيت ليجري فيه الماء الذي ينصب من البيت عند المطر , ولا يدخل البيت ، والجمع الآناء ، الجذم : الأصل ، والحوض البئر القريبة من الكلأ ، يقول : عرفت حجارة سودا تنصب عليها القدر ، وعرفت نهيرا كان حول بيت أم أوفى بقي غير متلثم كأنه حوض ، يريد أن هذه الأشياء دلته على أنها دار أم أوفى .
اقول ــ يا سادة يا كرام ــ : ادركتُنا نسكن احدى القرى في الشمال الفلسطيني , في بيت يسمى عندنا العقد , أي جملوني السقف بارتفاع حوالي خمسة امتار ومساحة لا تقل عن خمسين مترا مربعا , وهو بيت واسع للضيافة والسهر والنوم والمعيشة , عرض جداره حوالي المتر , له باب رئيسي كبير من الجهة الشمالية يفضي الى حوش الدار , وباب اصغر منه من الجهة الغربية يطلقون عليه باب السر, وهو عادة مخصص للنساء وخاصة الجارات , لتبادل اطباق الطعام او طلب حاجة او السمر . ثم نافذة من الجهة الجنوبية تطل على حاكورة واسعة مليئة بالزيتون والتين واللوز والصبر , وبها شجرة خروب معمرة كنا نستلقها لناكل من ثمارها الشهية , وياما تعرضنا للسعات النحل والدبابير .
الباب الشمالي كما قلت يفضي الى حوش واسع معد لاستيعاب عدد كبير من الماشية , من الجهة الشرقية حمام بدائي ثم قن للدجاج , وبجانب القن حجرتان احداهما طابون والثانية بداخلها للوقود , الذي عادة ما يكون خليطا من جفت الزيتون واوراقه وسيقان الفول والحمص , بعد ذلك باب الحوش الكبير , وهو من الكبر بحيث يمر منه الخيال على ظهر فرسه دون الحاجة لان يطأطئ راسه , وعرضه يزيد على المترين . اما من الجهة الغربية فحظيرة صغيرة للأرانب , تليها حجرة كبيرة للدواب كالحصان والحمار , ومخزن الحطب ومخلفات عصير الزيتون (الجفت) .
وطالما اننا نتحدث عن الاثافي فسأبدأ بها ايضا فأقول : اعتدنا ان نستخدم النار لطهو الطعام , فرأيت الاثافي عن كثب بل وشاركت في اختيارها من الوديان , ثلاثة احجار كبيرة بحجم راس الانسان ملساء صلبة من الصوان تتحمل الحرارة الشديدة , توضع في مكان خارج البيت بعيد عن مجرى الهواء , وطبعا الحطب والجفت عندنا متوفر فبلدتنا مليئة بالأشجار , وعادة ما يقص المزارعون الغصون الملتوية او المتشابكة او القديمة لتجديد اغصان الشجرة التي تحمل الثمار في العام القادم . وكذلك الشجرة التي تعجز تزال ويزرع مكانها . اذن كان الطبخ وماء الغسيل والاستحمام على النار بوجود الاثافي الثلاثة , اما الشاي ووجبات العشاء السريعة فهي على وابور الكاز ( البريموس ) وهو انواع من حيث الحجم وبثلاث ارجل من المعدن . اما الاضاءة فلم تكن الكهرباء قد داهمت القرية وانتشرت كماهي الان , فكانت بواسطة سراج او قنديل , او ما كنا نطلق عليه نمرة اربعة , او الشمعدان الذي تصرّ العروس ان يكون من ضمن جهازها وهو من الخزف الصيني , اما في السهرات والضيافات والاعراس فيستعمل اللوكس ابو شمبر لأنه شديد الاضاءة ولكن صوته مزعج , وله الفضل على امثالنا من الطلبة فقد ذاكرنا على ضوئه ايام امتحانات الثانوية .
عودة للأثافي : فللتدفئة في الشتاء كانون مستدير من الصلصال والتبن ايضا بثلاثة ارجل , استخدم بعد ذلك المعدني , يملأ عادة عند العصر بالجفت وجذوع الزيتون ويوقد عليه حتى اذا صار جمرا يدخل الى الداخل مع الغروب , فتتحلق العائلة والسمّار من الاقارب والجيران حوله ,على سواليف الكبار وذكرياتهم , ووشوشات المطر في الخارج , تحضّر السهرية من شاي وقهوة وتوضع على النار , ثم تشوى اكواز الذرة والبطاطا او الكستناء او البلوط , او يحمص البزر والفستق للتسالي في ليالي الشتاء الطويلة .
اما الخبز فهو اما في الطابون او الصاج وهو ايضا على الاثافي الثلاثة او في الفرنية وهي بثلاث ارجل اما معدنية او من الصلصال المعجون بالتبن .
وعكس النار او قاتلها (الماء) ــ يا دام فضلكم ــ فلم تكن الشبكة قد وصلت للقرية برمتها فكل بيت مجهز ببئر ماء تجمع فيه مياه الاسطح النظيفة , لذلك يسمى ماء جمع , او من الابار الارتوازية المستخدمة للزراعة ويسمى ماء نبع , ولم تكن الثلاجات قد وصلت فكنا نستخدم زير الفخار بابه واسع وكبير الحجم من الوسط , وقاعه صغير , بسعة حوالي 40 لتر , يوضع ايضا على منصب من المعدن بثلاث ارجل يرشح من جوانبه فيكسبه ذلك برودة طبيعية , وكذلك ابريق الفخار الكوز والشربة والعسلية او الجرة ,التي اشتهرت في الاغاني الشعبية تغزلا بالصبايا واردات النبع ؛
يا واردة ع النبع ما تسقيني من الجرة
وحياة عينك يا سمرة ما بوخذ غيرك بالمرة
هذه بعض الذكريات فيما يتعلق بالأثافي , وربما اكون نسيت بعض الادوات التي كانت تستخدم آنذاك وما عاد لها وجود . تعرفوا : والله نفسي بالراديو القديم ابو لمبات الذي ما زال صوته يرن في اذني : هنا لندن . بلا ما نفتح مواجع , طبتم وطابت اوقاتكم .