* عبدالعزيز قباني
العصبية، بداية، نعرة فئوية، دموية، رمية، ملازمة لنمو النوازع الأولية، يتربى عليها الطفل، وتبدأ مع الأم في الأسرة، في حصر حبها وإنسانيتها بأطفالها، والاهتمام بهم، والحفاظ عليهم من دون سواهم من الأطفال، لكونهم من رحمها، من دمها، فهي وسيلة بدائية لبقاء النوع. وقد عززها الأب كتعبير عن سلطته وفئويته وتمسك بها، وشد عليها بالنواجذ.
وهذا التعبير الفئوي عن أمومة الأم ليس وقفاً على بني الإنسان، بل هو ملاحظ أيضاً لدى كثير من إناث الحيوان التي لا ترضع أو تطعم، بصورة عامة، سوى صغارها، من هنا، فإن الفئوية العصبية تغريب وغربة.
وهذه الفئوية التي يتربى عليها الطفل تبدأ دموية، فتشكل شوكة الجماعة الفئوية وقوتها، ثم تستحيل، بفعل التطور، إلى فئوية طائفية، دينية أو عرقية، تستمد نعرتها لا من الدم فحسب، بل وأيضاً من الشعور الديني أو المذهبي أو العرقي الفئوي، ثم تستحيل إلى فئوية أيديولوجية، تستمد نعرتها، لا من الشعور الديني أو المذهبي أو العرقي فحسب، بل وأيضاً من الرباط الفكري والانتماء الحزبي والعلاقة المترتبة على أي منهما، ومن كل رابطة أو علاقة تنشأ عنها فئوية متعدد في مجتمع العصبية.
والفئوية التي تبدأ مع الأم، تأخذ في تطورها، شكل تمنيات لأولادها واهتمام بهم وبمستقبلهم، من دون الاهتمام بأولاد الغير ومستقبلهم، وهذا ما يفسر أن شرعتي حقوق الإنسان والطفل لم تنشأا إلا مؤخراً، تمنيات تتنافس وتمنيات سواها من الأمهات. وهنا، تلعب قيمة الحسد دورها في هذه المنافسة الأنانية، ولا سيما، إن كانت الأمهات، في ظل نظام تعدد الزوجات، ضرائر، أو قريبات، فيأخذ السلوك الأناني سبلاً تمجها النفس ويأباها الحس السليم، وتنفر منها التربية المقومة، المنمية لقدرات الإنسان ونوازعه الإيثارية.
إن أبرز ما في عصبية الجماعة أن لا قيمة للإنسان لديها. فلا تحترم حياته، ولا شخصه، ولا تحترم أكثر جوهره المتمثل في كرامته وحريته وحقه، ولا الزمن. من هنا، فالمسكون بالعصبية لا يقدر قيمة الزمن، ونادراً ما تكون مواعيده محترمة ودقيقة، لأنه لا يقدر ولا يحترم الإنسان.
وكلما كان المرء قريباً من هيولى الذات بالعصبية، عسر عليه الاعتراف بحق الآخر بالاختلاف، لانتفاء المساواة، والاحترام، وشعر بنزوع شديد، لا يقاوم، بتملك الآخر، وبوجوب ذوبانه فيه، لوجوب استيعابه. أما إذا كان الآخر من أصحاب السلطة، انعكس الشعور، فيصير المالك مملوكاً، ذائباً في صاحب السلطة، مسبحاً بحمده مقدساً له في حالات خاصة من الشوكة والاستبداد. وهذه الحالة النفسية يسقطها، من دون وعي منه، على السياسة وعلى الغيبيات.
انطلاقاً من هذا، فإن مَن تسكنه العصبية لا يعرف الحب، وإنما الاشتهاء الجنسي، المقرون بالتملك، الذي يخدعه عن حقيقة حاله، فيتوهم أنه يحب، بينما هو يشتهي. والاشتهاء مؤقت، قصير الأجل، وهذا ما يفسر أن المرأة، في بيئة العصبية، يشغلها كثيراً اهتمامها الزائد، ولا سيما حيث يباح تعدد الزوجات، بشبابها وبكل ما يبقي شهوة رجلها لها متأججة، محتقنة، شبقة، لتوهمها أن في دوام اشتهائه لها دواماً لحبه، ولقناعتها، المبررة، بأنها إذا أسنت ابتعد عنها وقلاها. وهذا يفسر أن عدد الزوجات، في الجاهلية، كان بلا حدود، إشباعاً للاشتهاء، من هنا، فالشهوة تعدد والحب يوحد.
وهذا يعلل مصدر قسم من القيم. فقيمة الرحمة مصدرها الرحم. والرحم في جماعة العصبية مصدر الحنو والعطف والشفقة والمساعدة والإغاثة والنجدة والتضحية والتعاضد وما شابه، لأنها عصبية. وهذا ما يجعل هذه المعاني تتركز في عبارة الرحمة بالإسقاط.
والعصبية، لأنها رحم ومن الرحم، فهي نعرة فئوية، وتغرب وتغريب، وسلطة وإخضاع، وتسود على مَن هو من غير الرحم. وكل هذا ينفي الاحترام للإنسان من جماعة العصبية، ولا سيما مَن هو من غير جماعتها.
أما قيمة المحبة فمصدرها الحب، مجرداً من الجنس، وموضوعها الإنسان، كل إنسان من دون تمييز ولا تفريق. والحب من الود والمودة، والميل إلى الآخر شعورياً وجنساً في آن معاً. وفي هذين المعنيين رجحان الجانب الاجتماعي الإنساني الإيثاري في الشخص على الجان الأناني، الانكفائي، لأنه جانب تواصلي ودي.
من هنا، كان الحب العذري حباً استثنائياً، وحالة شاذة لأفراد معدودين، لأنه كان، بمفهومه، خروجاً من نظام قيم العصبية ومعاييرها، ولم يكن صدفة نعت قيس بن الملوح بالمجنون. هذا مع التأكيد أن الحب من علائم إنسانية الإنسان، بما هو مودة وميل للآخر، وتخطي الحدود والسدود من أجله. أما المحبة فحد الإنسانية الأقصى. ولا محبة خارج الإنسان ومن دونه. فالمحبة، والحالة هذه، قيمة إنسانية كبرى.
وفي سياق هذا المنطق، فإن أنانية العصبية وفئويتها، لا تدمران معنى الحب فقط، وإنما تدمران معنى الوطن ومصالحه العامة أيضاً، لأن العصبية لا تنزع إلى الوعي المسؤول للوطن ولمصالحه العامة، حيث يتمثل في هذا الوعي النزوع الإيثاري، مثلما تنزع إلى الفئوية، وما فيها من انعزال وتغريب وعدوانية وهواجس، حيث يتمثل، في هذه الفئوية، النزوع الأناني.
يتحصل من كل ما تقدم، أن العصبية قوة ومنعة وشوكة من جهة، ونظام قيم من جهة ثانية. وقيمها الجاعلة منها قوة ومنعة وشوكة غير ثابتة، بل قابلة للتحول من القوة إلى الضعف في الجماعة، ككل القيم، بل قابلة للانزواء والسقوط بفعل الظروف، وبفعل الرفه والترف وغضارة العيش على حد قول ابن خلدون.
والعصبية كقوة وشوكة تنطوي ضمناً وفعلاً على نظام قيمها. فإذا كفت عن أن تكون قوة ومنعة وشوكة، استمرت كنظام قيم.
والعصبية في أساس الهوية، لأنها انتماء وتمييز. والهوية، في طبيعتها وماهيتها، انتماء وتمييز أيضاً.
وفي الحياة المعاصرة، تتبدى العصبية في مجتمعها كقوة داعمة للسلطة الأراقلية في الأحزاب والجماعات والهيئات الثقافية والاقتصادية والنقابات وسائر المؤسسات والطوائف والجيش وقوى الأمن الداخلي والاستخبارات .. لتبديها في القيم والإرادة والعقلية والعقل إذا كان متكاملاً والإرادة. أما إذا كان العقل غير متكامل، بفعل الثقافة الحديثة، المغايرة قيمها لقيم العصبية، فإنه يفقد فاعليته في مجتمعه، ويفسح المجال لفعل الإرادة المتكاملة مع العقلية.
أما الدول الحديثة، ذات السلطة العقلانية، فتقوم على مفهوم الديمقراطية ومؤسساتها وقيمها، وعلى جيش مأجور، وعلى قوة أسلحة متطورة، وليدة العلم والثقافة المبدعة، لا على العصبية وشوكتها وإلا آلت إلى النظام الكلياني الاستبدادي، المتحرك وكأنه معصوم عن الخطأ. والديمقراطية وقيمها تجعل الطبقة الحاكمة ممثلة لإرادة الأكثرية، وباقية في السلطة ما دامت أيديولوجيتها مستجيبة لمصالح أكثرية المواطنين، حائزة على ثقتهم، وإلا سقطت لمصلحة أيديولوجية أخرى أكثر استجابة لمصالح هذه الأكثرية من المواطنين.

  • Currently 94/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
31 تصويتات / 547 مشاهدة
نشرت فى 6 فبراير 2006 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

235,732