جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
|
* د. عون الشريف قاسم يخطئ كثير من الناس حين يتصورون الدين مجموعة من الأوامر والنواهي التي تحول بين الناس وبين الاستمتاع بحياتهم، أو تقف بينهم وبين الانطلاق في سبيل التقدم في حرية ويسر. ويخطئون حين يتصورونه مجموعة من الطقوس والعبادات التي قد تهم الأفراد ولكنها لا علاقة لها بحياة الجماعة أو تكوين المجتمع. ويخطئون كل الخطأ حين يتصورون الدين بحكم ما هو عليه حال الدين في حياتنا اليوم. الدين في أساسه نظرة شمولية للكون، ولمكان الكائنات فيه، ولمكان الإنسان منه، وعليه يرتكز تحديد العلاقات المختلفة التي تحكم حركة الحياة والإحياء فيه. فهو الذي يحدد علاقة الإنسان بالطبيعة وبما فوق الطبيعة، وهو الذي يحدد علاقة الانسان بالمجتمع، ويرسم علاقة الانسان بالانسان. وهو في إطاره العام استشراق وتلخيص وتجسيد لتجربة الانسان الروحية والعقلية والاجتماعية على الأرض، فقيم الدين الأساسية هي في بعض جوانبها التشخيص الحي للقيم الانسانية التي توصل إليها الانسان خلال معركته الطويلة من أجل إرساء حياة المجتمع، فكل ما يساعد الانسان على تأكيد هذه الحياة الاجتماعية من أمانة وصدق وبذل وعطاء وتضحية ونكران للذات وشرف وما إلى ذلك من الفضائل الانسانية، التي تؤكد انسانية الانسان وتحقق اجتماعيته، هي القيم التي جاءت الأديان لتجسيدها، والتعبير عنها، وتذكير الناس بها كمثل عليا عليهم دائماً التمسك بها إن أرادوا لانسانيتهم النماء والازدهار. ولحياة مجتمعهم التقدم والرخاء. وبما أن كثيراً من هذه القيم الضرورية لحفظ انسانية الانسان تفقد بمرورو الزمن فعاليتها المباشرة نسبة للضغوط الكثيرة التي يواجهها الانسان في الحياة الاجتماعية، فلابد من تذكير الناس بها، وحثهم دائماً على العمل بها، ومن أجل ذلك احتاج الانسان إلى وسيلة عملية تحقق له هذا التذكير، ففرضت الأديان الطقوس والعبادات لتحقيق هذا الهدف. فالحركات المتصلة بالعبادات وتكرارها اليومي الفرض منه تذكير الانسان بصورة عملية بما وراء هذه العبادات من قيم وفضائل، بحيث يشعر الانسان كلما أدى الشعيرة الدينية بالقيم والفضائل الاجتماعية التي جاءت هذه العبادة لتأكيدها في حياتنا. وكلما داوم الانسان على أداء هذه العبادات، التي ترمز إلى هذه القيم والفضائل، مدركاً للعلاقة بين العبادة والقيمة التي ترمز إليها، أصبح الربط بين العبادات والفضائل المتجسدة فيها أمراً من أمور العادة، وأصبح إدراك هذه الفضائل وتحقيقها في واقع الحياة أمراً لا يحتاج من الانسان إلى كبير مجاهدة أو معاناة، لأنه يكون بمداومته على الرياضة النفسية المتمثلة في العبادات مهيأ النفس، تام الاستعداد لفعل الخير، والابتعاد عن الشر. فكما إن الطفل يربى بالمران والقدوة الحسنة، فكذلك النفس الانسانية محتاجة إلى التربية بمداومة المران والتذكير والتنبيه أمام كافة التحديات والمغريات التي تدفع بالانسان لإشباع رغباته وأهوائه على حساب الصالح العام. العبادات إذن مدرسة ذاتية يومية، هدفها ترسيخ القيم الجماعية الخيرة في نفوس الأفراد، وتوحيد نظرتهم للعمل الصالح من أجل بناء المجتمع الفاضل. والقول بأن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال دون حاجة إلى هذه العبادات، مما يعرف عند بعض الصوفية بإسقاط الوسائط، يحتاج إلى نظر كبير خاصة حين نتحدث عن جمهرة البشرية، إذ الأمر المؤكد أن الفضيلة وكمال النفس لا توهبان، وإنما تكتسبان بالممارسة والمعاناة والمجاهدة، والانسان في حياة المجتمع يخلق شخصيته ويبني صرح أخلاقياته بقدر ما يكفكف من جموح شهواته، وبقدر ما يبذل من ذات نفسه في سبيل الصالح العام. وهو دوماً في صراع متصل بين رغباته وشهواته، وبين واجباته الاجتماعية التي تتطلب منه التضحية بكثير من هذه الرغبات. وهذه العبادات ضرب من المجاهدة اليومية، تسعى النفس عن طريقها لتغليب عنصر الخير فيها على عنصر الشر، بحيث يكون الخير هدفاً قريب المنال، لا مثلاً أعلى بعيداً عن حياتنا اليومية. وكل ذلك مما يشحذ الضمير الاجتماعي ويقويه، بحيث يشعر الانسان كلما ارتكب جرماً، أو هم به بالتأنيب ووخز الضمير، لأنه سيقف بعد قليل أمام خالقه في الصلاة مثلاً، التي غايتها النهي عن الفحشاء والمنكر. فهذه العبادات بقدر ما تهدف إلى صقل النفوس وجلاء الأرواح وتنقيتها من أدران الشوائب، وخلق الشخصية الوجدانية المتماسكة القوية، تهدف إلى خلق الفرد الجدير بالمجتمع الفاضل، الذي يضحي أفراده بمصالحهم وأرواحهم إن لزم الأمر، في سبيل إسعاد الآخرين. فهي دعامة قوية من دعائم المجتمع الخير، لأنها تجعل الخير في كافة صوره هدفاً اجتماعياً قريب المنال، يمكن للانسان أن يحققه دون ضغط أو إلزام، لأن ضميره الاجتماعي قد تربى وتضخم بفعل المران والممارسة اليومية للرياضة النفسية المتمثلة في العبادات، التي ترمز للقيم الحية التي يرتكز عليها بناء المجتمع الحي |
ساحة النقاش