جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
|
أن تعتاد على شيء يعني أن تألفه، فإذا اعتدت على طعام معيّن، أو لباس معيّن ، أو سلوك معيّن ، فإنّك تألفه للدرجة التي يصعب أن تُقلع أو تتخلّى عنه . وللعادة محاسنها ، ولها مساوئها . فالعادات الحسنة هي التي نُعبِّر عنها بالقول (جرت العادة) أو (وفقاً للعادة الجارية) أو (جرياً على العادة المتبعة) وهي ممّا تعارف عليه الناس ودرجوا عليه فبات موضع استحسانهم. فالعادة جرت مثلاً أن يُحسن الجار إلى جاره ، فيتفقّده ويعوده في مرضه ويعينه في حاجته ، ويفرح لفرحه ويحزن لحزنه ، فهذه عادة حسنة . وهناك عادات سيِّئة لا يقبلها الذوق العام ولا العرف السائد ، وإنّما تنشأ من الاعتياد على القبيح والضارّ والمسيء والمخدش للحياء والعقل والدين . ولذلك فإنّ الإمـام علـياً (عليه السلام) حينما رأى في طريقه إلى صـفِّين جماعة قد هرعوا إليه يتراكضون على جانـبي دابّتـه ، سـألهم عن ذلك، فقالوا: «خُلقٌ نعظِّم به اُمراءنا» فنهاهم عن ذلك لأ نّه اعتبره عادة سيِّئة وخلقاً لا يليق بالعامّة أو الرعيّة . وهذا يعني أ نّنا قد نتصرّف أحياناً بوحي العادة تصرّفات غير مدروسة ، ولو تأمّـلنا فيها ، في مضارها ونتائجها ، فلربّما أعدنا النظر فيما اعتدنا عليه . ولذلك فإنّ الشاعر الذي يقول: «لكلّ إمرئ من دهره ما تعوّدا» ينظر إلى تمكّن العادة من النفس وتحكّمها فيها . ولذلك ورد عن الإمام علي (عليه السلام) قوله : «اعـتياد الكذب يورث الفقر» . كما أنّ اعتياد أي عادة سيِّئة يورث الشقاء والمتاعب . ونفس الشيء يـقال عن (التقلـيد) فهو ألفة لما اعتاد عليه الآخرون ، ومجاراة لعاداتهم وتقاليدهم حتّى ولو كانت مرفوضة ، فالتقليد مأخوذ من عقد القلادة ، فكما تطوّق القلادة الجيد ، تطوّق العادة والتقليد النفس فتأسرها، فإذا نظرت إلى المقلّد رأيته لايعمل بموجب وعي ومعرفة وعلم ويقين ومنطق عقلي ، فلقد رأى الناس هكذا يفعلون ، وهذه هي حجّته الوحيدة في الدفاع عن نفسه ، فهو في ذلك يشبه الببغاء التي تحكي وتردِّد ما تُلقّن به . ولذلك اعتبر التقليد باطلاً في معرفة العقائد، إذ لابدّ من الفحص والتدقيق وعدم الاعتماد على ما قاله الآخرون في هذه العقيدة أو تلك ، فالإسلام يطالب أتباعه بالخروج من أجواء الألفة لما كان عليه الآباء والأجداد والاعتياد والتقليد، إلى أجواء البحث والتفكير والتأمّل ، ذلك أنّ الأجواء الأولى هي أجواء تدعو إلى الخمول والخدر والتبعية السلبية والضلال والتخلّف ، أمّا الأجواء الثانية فهي أجواء تدعو إلى التفكّر والغوص إلى العمق واستجلاء الأبعاد. ولذلك ترى أنّ الذين ينغمسون في الشهوات لا يقدرون على اكتساب الأخلاق الفاضلة والصفات الحميدة ، بعكس الذين يتحكّمون بشهواتهم ويكبحون جماحها . يقول الإمام علي (عليه السلام) : «طهِّروا أنفسكم من دنس الشهوات تدركوا رفيع الدرجات» . ولو تأمّلنا في عباداتنا لرأيناها وسائل جادّة ومؤثرة في كسر طوق العادة ، فالصلاة كسر لعادة الغفلة ، والصوم كسر لعادة الشهوة ، والزكاة كسر لعادة الحرص ، والزُّهد والجهاد كسر لحالة التعلّق بالدنيا . ولكنّ ذلك ليس قاعدة ثابتة ، فقد تتحوّل العبادة نفسها إلى عادة وحينئذ يسقط أو يضعف تأثيرها . فعن الإمام الصادق (عليه السلام) : «لا يغرّنّكم الرجل في كثرة صلاته وصيامه ، فقد تكون عادة اعتادها ، حتّى إذا تركها استوحش ، وإنّما اختبروه بصدق الحديث وأداء الأمانة» . العادة ليست قدراً .. جرّب أن لا تنام الظهر حتّى لو اعتدت على ذلك من قبل ، فستتمكّن بعد أن تعاني في البداية من صعوبة قابلة للتحمّل . وجرّب أن تمتنع عن أطعمة وأشربة معيّنة كالشاي أو القهوة أو المشروبات الغازية، وستجد أنّ بإمكانك أن تفعل ذلك. فأنت أقوى من عادتك .. أنت صنعتها وأنت الذي يمكنك أن تتخلّى عنها ، فإذا أرخيت لها الزمام أحالتك إلى عبد أسير . يقول الإمام علي (عليه السلام) : «إنّما الجاهل مَن استعبدته المطالب» . ويقول الإمام عليّ بن الحسين (عليه السلام) : «لاتعط نفسك ما ضرّه عليك أكثر من نفعه» . إنّ النفس كثيرة الشبه بالطفل، فالطفل إن تتركه يعتاد الرضاعة فإنّه يشبّ عليها ، وإن تفطمه ينفطم ثمّ لا يلبث أن ينسى الرضاع . فالفطام هو أوّل تجربة للطفل مع كسر العادة ، وإذا ما بلغ وأصبح مكلّفاً بالصيام فإنّه يمارس فطاماً من نوع آخر ، أي أ نّنا بالفطام أو الصيام نبدأ بصناعة النفوس المقاومة الكبيرة . وإذا كانت النفوسُ كباراً***تعبت في مرادها الأجسامُ فالفطام والصوم أو أيّة محاولة لكسر العادة واجتناب الوقوع تحت تأثيرها رياضة ذات فوائد جمّة . يقول علي (عليه السلام) : «وإنّما هي نفسي أروّضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر» .
|
ساحة النقاش