جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
|
* روجيه جارودي ان نظرة، ولو سطحية، على الفن الاسلامي في العالم تبين وحدته العميقة. فحينما نمعن النظر في أي بناء نتطلع إليه فإننا نشعر بالتجربة الروحية نفسها تعيش فيه. بالنسبة لي، من مسجد قرطبة الكبير إلى جوامع تلمسان الصغيرة وإلى مسجد القرويين في فاس أو مسجد ابن طولون في القاهرة، ومن جوامع اسطنبول العملاقة إلى قباب مسجد اصفهان الفردوسية أو المئذنة الحلزونية المتقشفة في سامراء ومن ضريح تيمورلنك في سمرقند إلى الضريح المتلألئ في تاج محل بالهند ومن قصور الحمراء في غرناطة إلى قصور علي كابو وشيهيل سوتون في اصفهان، فإنني كنت دائماً أشعر، وبشكل حي، أن كل هذه المباني قد بناها شخص واحد واستوحاها من الإيمان ذاته وتلبية لدعوة إله واحد. في الاسلام كافة الفنون تقود إلى المسجد والمسجد إلى الصلاة. المسجد بأحجاره المنقوشة والمزخرفة والتي تبدو وكأنها خاشعة لله تصلي له، هو مركز إشعاع كافة نشاطات الأمة الاسلامية، هو نقطة الالتقاء التي تتجه إليها كافة الفنون. ان البنية الأساسية لكل جامع تذكر ببيت النبي: باحة يمكن فيها للمرء أن يتطهر بالوضوء، ثم فناء أو ممر تحفه الأعمدة للاحتماء من الشمس وأهم ما في المسجد حجيرة فارغة هي المحراب الذي يدل المؤمنين على اتجاه مكة. وهكذا فإن محور كل جامع هو قطعة من شعاع يتجه نحو الكعبة في مكة. الكعبة وهي مكعب من الحجر فارغ من أي صنم هو المكان الذي أتم فيه إبراهيم، رجل التسليم لمشيئة الله، مهمته الفريدة في نوعها. وهكذا ينشأ في كل مسجد شعور بالاتحاد مع مركز العالم. وكذلك كل جامع بجداره الرئيسي (القبلة) الذي يجتمع في مواجهته المؤمنون للصلاة هو قطعة من إحدى الدوائر التي تنتظم حول مركز واحد تحيط بالكعبة إلى آخر حدود العالم. ان توجه الجامع يدل على مركز الكون ويجسد في الوقت نفسه وحدة الأمة الاسلامية في العالم: هناك توافق بين بنية المسجد ووظيفته. فإنه لا يشبه الكنيسة المسيحية ولا المعبد الاغريقي لأنه ليس إطاراً يحتفظ فيه برفات قديس ولا مكاناً لاحتفالات طقسية. على عكس المعبد الاغريقي والهيكل المسيحي الممتدين بشكل طولاني، يمتد المسجد بشكل عرضاني ليسمح لأكبر عدد ممكن من المؤمنين بالوقوف في مواجهة القبلة مباشرة. نظام رياضي وعقلاني: متناسق وموسيقي أقدس مكان في المسجد هو المحراب. وهذه الحجيرة ليست فقط خالية من أي تمثال أو أي صورة وإنما هي بحد ذاتها رمز بهذا الفراغ ذاته، إلى الله الذي يمجد اسمه فيها، الموجود في كل مكان والذي لا يمكن أن يرى في أي مكان. هذا الفراغ سمة مميزة لفن الاسلام. فالحقيقة، الحقيقة الوحيدة، ما هي غير هذا الفراغ في كل شيء، في الجامع قبل كل شيء ثم في قلب المؤمن ولكنه فراغ يعبر عن وجود غير مرئي. وأن نعطي لهذه الحقيقة شكلاً مرئياً هو عين الكفر. وهذا هو السبب الرئيسي لإقصاء الصورة من الفن الديني. فقد أوجدت الأديان الأخرى، على العكس، نوى للحقيقة أكثر كثافة تحاول أن تمثل غير المرئي بشكل مرئي. أكان ذلك قناعاً أفريقياً تتركز فيه القوى الخارقة أم أيقونة أو صليباً يجسد وجود الله حسب قانون حياته وتجسده. ليس هناك أي نص في القرآن يحرم الصور ولكن القانون الأساسي في الاسلام يحتم أن لا يكون انتباه المؤمن مشتتاً خلال تأمله في الوحدة الإلهية. وهذه رغبة في الانعتاق من ظواهر العالم وإغراءاتها الوثنية بقصد إعادة النفس لى الواحد المتعالي على كل حقيقة جزئية. فلا يمكن التعبير عن التوحيد إلا عبر نظام رياضي، عقلاني، متناسق وموسيقي في آن واحد يتجاوز كل تصوير مادي. فالاشكال الوحيد الذي يمكن أن نجدها في المسجد هي إذن أشكال هندسية، يعادل تكرارها الفتان بالنسبة للمسلم الصلاة المسماة عند مسيحيي الشرق بصلاة يسوع والقائمة على تكرار اسم الله دون نهاية. فالمنحنيات التي لا تعرف الحدود والتوريقات والمسدسات المرسومة ضمن دوائر، والمثلثات متقابلة الرؤوس ترمز إلى وجود عظمة الله اللامتناهية، وكما قيل في القرآن: (ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور) آل عمران/ 109. يذكرنا تعدد الأشكال وتكرارها بمبدأ التوحيد. كما في النوازل مثلاً تلك البلورات ذات الأشكال المتجددة في قبة المحراب في مساجد تلمسان أو في القبة كلها في قاعة ابن سيراج، أو في قاعة الشقيقتين في الحمراء بغرناطة. الصلاة المحفورة في الحجر وضياء المساجد: في هذه المساجد يلعب النور، يسطع ويتنوع إلى ما لا نهاية له أو يشع كألف شمس مثلما هو على قباب مساجد اصفهان السيراميكية الأثيرية التي تتغير ألوانها مع الشمس والسماء في كل ساعة من ساعات النهار، كما لو أنها تنغم ترنيمة الضياء لأن: ((الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره مَن يشاء…)). تتلألأ في الجوامع ثريات بلورية كبيرة أو مصابيح نحاسية صغيرة ذات زجاج متعدد الألوان كما تتلألأ النجوم. وينضم نور الشمس عبر كوى القباب الفسيفسائية أو السيراميكية المذهبة أو المزينة بالنوازل، إلى لمعانها منيراً المساجد بلون رمادي مخملي غني بكل التموجات اللونية الرائعة التي تزين ريش عنق الحمام. في هذا النور الذي يوحي بعالم خفي يشع في عالمنا، تسري على الجدران توريقات متشابكة ومنحنيات وأوراق نخل هندسية مشبوكة مع وريقات منمنمة حتى درجة التجريد، وآيات من القرآن وأبيات من الشعر. فالخط، والأشكال الهندسية والتوريق، هو الوسيلة الثالثة للتذكير بالوجود الإلهي. هذا الوجود الذي يكلمنا عنه الحجر الذي نقش كدعوة مباشرة للإيمان، تحت شكل الكتابة النسخية، ان الأشكال المستقيمة في الخط الكوفي أو تشابك المنحنيات في النسخي أو المحفورة أو النافرة لا تظهر على أنها أشكال بارزة على خلفية وإنما تبدو كانسياب حركة متعرجة منطلقة في الفضاء حتى تكاد أنظارنا وأجسامنا تتبع انحناءاتها والتشبه بها، كما لو أننا نؤدي رقصة مقدسة. ويصبح كلام الله المنقوش على الحجر كنابض يدفعنا إلى اللانهاية. لكل عنصر من عناصر الهندسة الاسلامية إذن مهمة رمزية تتحكم ببنيتها، فتصبح القباب المتماوجة في الشمس من الداخل قباباً تحصر قبة السماء لكي يستطيع المؤمن أن يركز انتباهه في تأمله. فالإيوانات، وبخاصة في العراق وإيران، هي نوع من القباب المبتورة يستقبل فضاؤها النور الناشئ من آلاف الإشعاعات الواردة من كسائها المطلي بالميناء الذي يسطع تحت أشعة الشمس فيختلط هذا النور مع الظل الذي يحضن المصلين الخاشعين كما تحضن الأم أولادها؛ وقد بقي القوس الكبير في القصر الساساني في المدائن خلال عدة قرون نموذجاً يستوحي منه البناؤون أعمالهم. ويظهر تنوع الأقواس، من الأقواس الوتدية ذات الأناقة المتقشفة في فارس وحتى الأقواس المتجاوزة أو المتعددة القويسات في المغرب أو الأندلس، وكأنه مجموعة من المقامات الموسيقية في غاية التوافق. فقد تمثل هذه الأقواس خيام تيمور لنك، كما في المقبرة التي يضيئها اللون الذهبي الكامد المنبعث من رخام سقف مسجد الشيخ لطف الله في اصفهان، أو يمثل انحناء سعف النخيل في الواحة كما في كثير من مساجد المغرب أو تدفق نوافير المياه في برك الأندلس. وكذلك يمكن للأقواس المتراكبة والمتقاطعة أن تشكل سيمفونية، ترتيلية تعزف نغماتها غابة الأعمدة في مسجد قرطبة. المدينة حول المسجد: مجتمع ينبت في بيئة التسامي فن الصلاة هذا، المنقوش في صخر المسجد ونوره، لا يعرف الحدود بين ما هو دنيوي وما هو مقدس. لذا ولدت المدينة بشكل عضوي متكامل حول المسجد كما ولد المجتمع الاسلامي الجديد من التسامي عند كل فرد. فكلام الإمام أمام المحراب وهو يرأس المصلين هو الكلام الإلهي ذاته الذي يدعو به المؤذن المصلين إلى الصلاة من أعلى مئذنته، ويمر الكلام الإلهي هكذا من داخل المسجد إلى خارجه أو بالأحرى يوحد بين الداخل والخارج فنهما لا يشكلان بالنسبة للمسلم إلا رؤيتين للوحدة ذاتها، كما يرتبط الواحد والمتعدد، المقدس والدنيوي، التسامي والأمة |
ساحة النقاش