على رغم اتفاق فقهاء المسلمين قديماً وحديثاً على ان الدين الإسلامي جاء لرعاية مصالح الناس، وتحقيقاً لما فيه إسعادهم، غير ان تطبيقات هذا الموضوع بقيت دوماً مثار جدل، ونستطيع ان نميز في هذا المجال بين تيارين متباينين في اسلوب تعاطيهم مع المصلحة، حيث رفض الفريق الأول – وهم الغالبية – ان تكون المصلحة بمفردها دليلاً شرعياً، وقرر اهمالها ان صادمت النص الشرعي، باستثناء حال الضرورة القاطعة، غير انها يمكن ان تكون عاملاً مرجحاً عند التعارض، لا مستقلة بإنشاء الحكم الشرعي، بينما اعتبر الفريق الآخر المصلحة دليلاً شرعياً قائماً بذاته. ودون الخوض في ادلة الطرفين وتبريراتهم فيما ذهبوا إليه، نحاول فيما يأتي ان نسلط الضوء على طبيعة العلاقة بين المصلحة والنص في الفكر والتراث الفقهي الإسلامي، وأن نقارب ميزان الترجيح بينهما في حال تعارضهما، هذا الميزان الذي تزداد اهمية ضبطه وتحديده في السنوات الأخيرة بالنظر لما يقوم به بعض الإسلاميين من اعمال قتل وتدمير، في سائر اصقاع المعمورة، بذريعة ان ما يفعلونه يصب بالنهاية في مصلحة الإسلام المستقبلية. فما مدى مقبولية هذا الكلام فقهياً، وهل يمكن ان ترقى المصلحة لتكون دليلاً شرعياً مستقلاً؟ وبمعنى آخر هل يمكن ان تبرر مخالفة النصوص القطعية بدعوى المصلحة المنشودة؟
يمكن بداية مقاربة المصلحة كمفهوم شرعي من خلال تحديد مدلول المصطلح لغوياً وشرعياً، فالمصلحة في اللغة: الإصلاح، والإصلاح: نقيض الإفساد (لسان العرب، ابن منظور 711هـ:2/516) والمصلحة هي في الأصل – كما يذكر الغزالي – عبارة عن جلب منفعة او دفع مضرة، اما في الاصطلاح فيعرفها ايضاً بأنها: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو: ان يحفظ دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعه مصلحة (المستصفى من علم الأصول، الغزالي 505هـ: 1/636). وبناء على ذلك فكل ما كان فيه نفع سواء كان بالجلب والتحصيل – كاستحصال الفوائد واللذائذ – او بالدفع والاتقاء – كاستبعاد المضار والآلام – فهو جدير بأن يسمى مصلحة.
اما فيما يتعلق بميزان الترجيح بين المصالح والمفاسد، فيمكن ان نميز اجتماع المصالح والمفاسد بإحدى الحالات الآتية: تعارض المصالح او تعارض المفاسد او تعارض المصالح مع المفاسد.
وفي هذا المجال يعتبر العز بن عبدالسلام المتوفي سنة 660هـ من اوائل من فصل القول في هذا المجال حيث بيّنها وفق ما يأتي:
- في حال اجتماع المصالح نحاول تحصيل الكل، فإن تعذر فأصلحها هو المطلوب، فإن تساووا فنرجح المصلحة الأشمل، ويراعى في الجميع التحقق الفعلي من الوقوع.
- وإن تعارضت المفاسد، نحاول درء الكل، فإن تعذّر فالأفسد، فإن تساويا فتُدرأ المفسدة الأشمل، ومع مراعاة التحقق من وقوع المفسدة.
- وإن تعارضت المصالح مع المفاسد نحاول تحصيل المصالح ودرء المفاسد، فإن تعذر ندرأ المفاسد إن كانت أعظم او مساوية للمصالح، فإن كانت المصالح اعظم فتحصل المصلحة، ونقدم تبعاً لذلك المصلحة الشاملة على المفسدة القاصرة، وكذا نقدم درء المفسدة الشاملة على جلب المصلحة القاصرة، مع مراعاة التحقق من وقوع المصلحة او المفسدة. (قواعد الأحكام في مصالح الأنام: 133).
مما تقدم نستنتج ان الترجيح بين المصالح والمفاسد ليس امراً اعتباطياً، يتم وفق الأهواء والتصورات الموهومة فأساس الترجيح قائم على مدى التأكد من التحقق الفعلي للمصلحة، فلا عبرة بما يدعيه البعض من إهدار لأرواح البرّاء في سبيل تحقيق مصالح متخيلة في اذهانهم، اذ اساس اعتماد المصلحة كدليل شرعي يمكن ان يعمل به، ويقدم على النص، هو بالشروط التي ذكرها الغزالي (المستصفى: 1/642) وتبعه بها علماء الأصول كافة عند تعرضهم لمسألة دقيقة وهي: اذا تترّس الكفار في الحرب بجماعة من اسرى المسلمين، فلو تركناهم ولو نرمي هذا الترس لغلب الكفار، وقتلوا المسلمين كافة، فهل يجوز لنا رمي هذا الترس؟ مع كون من نرميهم هم مسلون معصومون. وهي حال فريدة فقتل الأبرياء مفسدة ومحرم لكن في هذه الحال يتوقف على عدم قتلهم مفسدة كبيرة قد تمتد لتشمل سائر الأمة، فهل يمكن ان نضحي بعدد محصور من الأبرياء في سبيل النظر الى المصلحة الأشمل؟
يشترط الغزالي في هذه المسألة، لجواز رمي المتترَّس بهم، ثلاثة شروط:
1- الضرورة: أي ان تكون حاجتنا لرمي الترس حاجة ضرورية، بحيث لا يمكن الاستعاضة عنها بطريق آخر، ويخرج بالتالي بهذا القيد: ان يتترس الكفار في قلعة بمسلم، لأننا يمكن ان نستغني عن تلك القلعة، وبالتالي تخرج بالضرورة محاولات البعض لنصرة الإسلام بارتكاب ما يخالف النصوص القطعية، لأن ما يفعلونه لا يرقى لمرتبة الحاجة فضلاً عن الضرورة.
2- القطعية: أي ان نكون متيقنين – ويُعتبر الظن القريب من القطع كالقطع – من النصر في حال رمينا الترس، وأن نكون متيقنين اننا لو لم نرم الترس لتسلط الكفار علينا، فأي مصلحة قطعية يتعلق بها من يفجر ويدمر دون مراعاة المدنيين من أي دين.
3- الكلية: أي ان يكون الخطر المحدق بنا لو لم نرم الترس يشمل جميع الأمة، لا جماعة محصورة، وهذا القيد يخرج ما لو اوشك جماعة في سفينة على الغرق، فلا يباح لهم رمي احدهم، ان ظنوا نجاتهم بذلك، لأن المصلحة هنا ليست كلية اذ يحصل بها هلاك عدد محصور.
فهذه الشروط الثلاثة هي ضابط العمل بالمصلحة لتقوى على مخالفة الأدلة الشرعية، وباستطاعة من ينشد الوصول لحكم الشرع في افعاله، ان يعرض هذه الضوابط عليها، ويلاحظ مدى مقبولية هدر دماء الأبرياء استناداً لمصالح قاصرة، مشكوكة، لا ترتقي لمرتبة الضرورة.
كاتب سوري
ساحة النقاش