طائر بلا جناح

 

أزلتُ تلك الستائر الثقيلة المحملة بالأتربة… نفضتُ الغبار المتراكم عليها منذ تسع سنوات…. تذكرتُ يومي الأول في هذه الزنزانة … تذكرتُ أبشع شجار دار بيني وبين زوجي الراحل بلا رجعة… عندما قدم من عمله ووجد النافذة مفتوحة…
تذكرت تسع سنوات مضت ولم أر فيها ضوء النهار ولا عتمة الليل… فقط أرى هذه الستائر الكحلية الثقيلة التي تمنع مرور أشعة الشمس ونسمات الهواء….

أما أبواب المنزل فقد كانت منطقة محرمة ممنوع الاقتراب منها… اتذكر المرات القليلة التي خرجت فيها من باب هذا المنزل… والتي كان آخرها أمس، خرجت لأشيع جنازة زوجي…

تسع سنوات مضت في الأسر… ربما كان العون في انقضائها الأعباء الملقاه على عاتقي، والتي كنت أفني فيها جل وقتي…

اليوم أول يوم تُفتح فيه النوافذ والأبواب على مصراعيها بعد وفاة السجان….

واليوم ولأول مرة منذ تسع سنوات سيدخل بيتنا ضيوفا لا حصر لهم؛ فعائلتنا كبيرة…

يا للعجب حتى هؤلاء البشر القادمين إلينا اليوم، كم بتُ أحلم بأُنسي من وحشة وحدتي بهم، وكم اشتقتُ لسماع صوت إنسيا يتردد صداه في هذه الزنزانة…

الآن باتت الزنزانة تعج بصنوف من البشر، يتردد فيها صوت نحيب ونواح وعويل النسوة الموشحات بالسواد…

أرغب أن أغمض عيناي كي لا أراهم، أرغب أن أسد أذناي كي لا اسمع صوت نواحهم…

أرغب في لحظات من الهدوء كي أُلملم شتات نفسي، أضمد جروحي، استجمع قوتي، أدبر حالي… حالي الذي أصبح يُرثى له !!!

تبدل الحال… فالشوق الذي كان يراودنى لرؤية ما خلف الستائر أختلط مع خوفي من مصيري المجهول الذي تحجبني عنه تلك الستائر، فربما كان مصيري مثل مصير زوجي الراحل!!!

ربما كانت تلك الزنزانة تحميني من حر الصيف وبرد الشتاء، من تحمل المسئولية خارجها، من البشر، وربما من غيرهم!!!
لكنها لا تستطع أن تحميني وأبنائي اليوم من الجوع القارص، عندما ينفذ أخر طعام في ثلاجتنا بعد بضعة أيام… لكن ماذا أفعل؟؟؟

لي تسع سنوات لم أر شكل النقود… لا أعرف قيمة الأشياء… حتى رغيف الخبز الذي كان متوفرا بالأمس… ربما في الغد أجده بعيد المنال….

تركني أسيرة سجنه القديم ، لم أعد استطع الفكاك من أسره حتى بعد موته… نعم مات، وتركني وحدي بعد أن قص جناحاي، وقلم أظافري، وربط لساني بحجر …
حتى موتته البشعة لم تقدم لخلاصي، بل قدمت لترغمني على البقاء خلف الستائر المنسدلة، خلف الأبواب الموصدة..

مات الحارس …. لكني أظن أن النوافذ والأبواب ستظل مغلقة… والستائر الغامقة ستظل منسدلة….ربما بسبب الخوف الذي عشش في قلبي…

أصبحتُ أخشى الخروج بوابة المنزل، ربما لكون بيتنا في زاوية معزولة عن البشر……
ففي تلك المنطقة الخاوية تماما من البشر، لم أسمع قط صوت مؤذن يُنادي ولا صوت ناقوس يدق… ربما سمعتُ نهيق وصهيل عربات اليد التي تمر من خلف الأسوار متجهه نحو السوق الذي يبعد عنا بكثير… حتى شوارد الكلاب والقطط تأبي أن تأتي إلى هذا المكان كي لا تموت جوعا وعطشا… فقط الذئاب تعوي من ناحية الجبل…..

لكن لابد أن أخرج… ولكن كيف لي أن أخرج ؟؟
حتى تلك السيارة التي تراكم عليها تراب الخماسين الأصفر لا استطع أن أُحرك عجلاتها…
ربما “عبد الله” و”إيمان” عيناي التي كنت أرى بها العالم الخارجي وأذناي التي أسمع بها كل ما يجري خلف تلك الأسوار… سوف يظلان هنا… لأني لا أعرف طريق مدرستهم… بل ربما لا أعرف طريق العمار…

ففي المرات القليلة التي خرجت فيها من منزلي كنت أخرج موشحة بالسواد معصوبة الجبين… الستائر السوداء ذات الطوابق الثمانية المنسدلة على وجهي كانت تشوش الرؤية… والغبار الذي كان يكسو زجاج السيارة من سرعتها كان يمنعها تماما… فكيف لي أن أرى!!!

السكون يخيم على أرجاء المكان… غادر المقرئون المكان … لم أعد أسمع سوى صوت نعال النسوة الخارجات بلا رجعة… وحوقلات الرجال من هذا الحادث المؤلم… يتجهون نحو سياراتهم… السيارات تتباعد شيئا فشيئا….

فقط يتردد في هذا المنزل آخر ما نطق به المقرئ “يا أيتها النفس المطمئة أرجعي إلى ربكِ راضية مرضية”

لم يبق معي سوى أخت زوجي؛ تلك الخرساء التي تعاني من نوبات صرع….

كنا ولازلنا لا حيلة لنا… ربما آن الوقت الذي أمحو فيه صدأ تلك الرأس… وأحاول أن أدبر أحوال هؤلاء الثلاثة… مصائرهم الآن معلقة في رقبتي….

تبا لك يا “عاصم”… لماذا جعلتني هكذا؟

بتُ أتساءل مرات ومرات عن الوازع الذي جعله يفعل بي هكذا… حتى وجدت أنه لا وازعا دينيا ولا أخلاقيا ولا حتى عرفيا يبرر فعلته… فقط دافع الغيرة والشك، وربما تفكيره في الخيانة…
فلقد ورث ثأر أبيه؛ الذي انقض بالسكين على زوجته الخائنة… وورثه ثأرا من كل النساء…. نظرات الازدراء التي كانت تطل من عينيه لم تكن تفرق بيني ولا بين أخته المسكينة ولا بين “إيمان” الطفلة الصغيرة…

موروثات كان يجب أن تستأصل شأفتها وتجتث من جذورها… جعلت رجلا في الخمسين يتزوج من ابنة عمه اليتيمة التي على مشارف العشرين… التي رباها وظل طيلة عمره يراقبها…. وتزوجها وزجها في زنزانة بعيدة عن أعين البشر… الآن هى في أمس الحاجة لمن يعينها… ولا تجد في هذه الصحراء من يعينها…

جنى علينا… ولم يفكر قط في يوم رحيله… ربما تسببت هذه الحادثة المفاجئة في لخبطة حساباته… فللقدر حسابات أخرى… ربما كان يعد العدة ليسلم “عبد الله” الراية… ويسلمه قبلها موروثاته… حمدا لله إنه لازال صغيرا

الآن قد أرخي اليل سداوله بظلمته وكآبته…. وتطاول حتى قلتُ ليس بمنقضي… ليلا دامسا لا نجم فيه ولا قمر…
هيهات أن تفارقني تلك الظلمة، ويملأ شعاع الشمس الأفاق وأأنس بقبس من نورها…

حتى بعد طلوع الشمس لا زلتُ واقفة خلف النافذة … لعلي أعد جموع الطيور الخارجة من أعشاشها خماصا تبحث عن أرزاقها…. وأنا لا حول لي ولا قوة، مكبلة، ليس لي جناح كي أطير مثلهم…. أشعر الآن وكأني أنزلق إلى الهاوية إن لم أجد مخرجا!!!

لكن كيف لي أن أخرج وشبح عاصم يطاردني… وإن استطعت الفكاك من شبحه… فقد يطاردني شبح قاتله… شبح الذئب الذي فتك به ومزق جسده إربا إربا، وأبي أن يأكل من لحمه المر إلا النذر اليسير…

استغاث وظل يتغيث حتى فارقت الروح الجسد… ربما الأبواب المغلقة هي التي منعتنا من إغاثته… ربما الخوف المزروع بداخلنا هو الذي منعنا من الاقتراب من الأبواب المغلقة…

لولا الرصيد الباقي في تليفونه المحمول ما استطعت أن أدفنه، أن أأخذ عزائه….

 

آيات شعبان

[email protected]

المصدر: آيات شعبان
  • Currently 73/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
24 تصويتات / 357 مشاهدة
نشرت فى 2 يناير 2011 بواسطة novels

ساحة النقاش

novels

مشكورة أختي على مروركِ الكريم
تحياتي ومودتي

آيات شعبان فى 21 مايو 2011
aldramainquran

جميل جدا هذه القصة
ولنا عودة لكى نفندها
تقبلى مرورى ومودتى

novels

الكاتب والناقد الكبير الأستاذ فتحي
سلام الله ورحمته وبركاته عليك
أشكرك على مرورك الكريم، وأرحب بجميع الرؤى النقدية.

مع جزيل شكري وتقديري لكم

آيات شعبان فى 15 يناير 2011

آيات شعبان

novels
نقوش على جدران الزمن الآتي حكايات مصرية، تعكس نبض المجتمع المصري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,308