حاول أن تتخيّل رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المحبوس في بيته، غير مسموح له بمغادرته الآن، يذرع المكان جيئةً وذهاباً، يسترق السمع لدعوة هنا أو هناك، يطلقها واحد من ثوار الفضاء، للتظاهر ضد إقالة جنينة، وتقديم رقبته هديةً إلى مؤسسة الفساد.
ينصت الرجل بكل تركيز، مقلباً قنوات التلفاز، باحثاً عن ردود أفعال الجماهير، فلا يجد إلا الصمت المطبق.
اترك هشام جنينة، واذهب إلى ذلك الشاب العائد من غيبوبةٍ دامت خمس سنوات، دخلها في أثناء مشاركته مع جموع الثوار المطالبة بالقضاء على الفساد، وتطهير القضاء والإعلام وإسقاط حكم العسكر.. ثم ضع أمامه مفردات الصورة، أظن أنه لحظتها سيتمنى العودة إلى الغيبوبة مجدّداً، كي لا تدفعه مكونات الواقع إلى الجنون.
هي اللحظة التي باتت فيها الرموز والجماهير عاجزةً عن فعل شيء، وهي ترى الضباع والذئاب تنهش ما تبقى من ثورتها، فلا تحرّك ساكناً، ولا تتحرك سوى مسافة 140 حرفاً، بمقياس "تويتر"، فيتم اختطاف رئيس جهاز محاربة الفساد من منصبه، وتكميم فمه، فيلزم الجميع أماكنهم.
لعلك تتذكّر تلك الأيام من الشهر الأخير من العام 2012: أقال الرئيس المنتخب، محمد مرسي، نائب عام حسني مبارك، المستشار عبد المجيد محمود، بموجب إعلانٍ دستوري، فرضته ظروف عدم وجود مجاس نيابي، فانتفض نجوم ثورة يناير وأيقوناتها، وقالوا إن "شرعية الرئيس سقطت" بإصداره إعلاناً دستورياً يحقق مطلباً ثورياً، ظل مرفوعاً في ميادين التحرير أكثر من ثلاثين شهراً، ونادوا في الجماهير، لكي تبدأ الزحف المقدس إلى قصر الاتحادية، ومحاصرة الرئيس والمطالبة بإسقاطه عن الحكم.
الآن: أقال قائد الانقلاب، عبد الفتاح السيسي، رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، بموجب فرمانٍ، هو للبلطجة وممارسات التشكيلات العصابية أقرب منه إلى الأعراف الدستورية، فلم تصدر عن "بقايا ثوار يناير" سوى همهماتٍ خجولةٍ وتغريدات مرتعشةٍ على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن يجرؤ أحد على الإقدام على "فعلٍ" محترم، أو يدعو إلى تظاهرةٍ أو وقفةٍ، تضامناً مع الرجل الذي قرّروا نحره بسكين الفساد.
مرّة أخرى يخذلون ثورتهم، حين يكتفون بمصمصة الشفاه وابتلاع الألسنة، والفرجة على عمليات التنكيل بالمستشار جنينة، والتي بلغت حد وضعه تحت الحصار في بيته، ومنعه من الكلام أو استقبال أحد.
هرع الزعماء الثوريون أنفسهم إلى نادي القضاة، ملبين نداء زعيم فلول القضاء، أحمد الرند، للتضامن مع نائب عام نظام حسني مبارك، المسؤول الأول عن إتلاف قضايا قتل الثوار والمتظاهرين، وتناوبوا على إلقاء الخطب وإطلاق الهتافات بالموت لمحمد مرسي، والحياة والحرية للشهيد الحي عبد المجيد محمود.
مازلت أتذكّر مشهد العبث الثوري حينذاك، وأسترجع النظر ملياً في مكونات مسرح الاحتفال بحكم قضاء الاستئناف بالعودة المظفرة للناصر عبد المجيد محمود، لأجد خليطاً من كل هؤلاء الذين لاتزال رائحة عرقهم لهثاً في إقطاعية مبارك تزكم الأنوف، جنباً إلى جنب، وكتفاً بكتف، ثواراً حقيقيين قبلوا على أنفسهم هذه المهانة الحضارية، ومنحوا لمن اغتالوهم أخلاقياً يوماً صكوك البراءة ومفاتيح غرف الاغتسال من عاراتٍ موثقةٍ بالصوت والصورة.
سجلت ملاحظاتي على تلك الصورة البائسة في ذلك الوقت، بشأن ردود الأفعال على الحكم، أهمها استمرار هذه الحالة من المزج بين الثورة واللاثورة، ووقوع بعضهم فى شرك اعتبار عودة عبد المجيد محمود مكسباً ثورياً يستحق الاحتفال والطبل والزمر والرقص. وقلت "ربما نسمع أن "القوى الثورية" التي لطالما اعتصمت واحتشدت في الميادين، للمطالبة بإسقاط نائب عام نظام مبارك، ترتد على أعقابها، وتحمل عبد المجيد محمود على الأعناق، وتلف به ميدان التحرير على دقّات طبول الانتصار".
العمى الثوري واللدد في الخصومة، آنذاك، وصل ببعضهم إلى أن يدهس كل قيم الثورة الراسخة في الوجدان، وينسف شعاراته وهتافاته القديمة، إذ كانت مرحلة تشنجاتٍ ثوريةٍ تجعل أصحابها لا يتورّعون عن الانقلاب على كل ما نادوا وحلموا به سابقاً.
هل يجرؤ أحد من صقور الغضب ضد عزل نائب عام حسني مبارك، أن يدعو الناس إلى الاحتشاد ضد البلطجة التي يمارسها ورثة مبارك على رجلٍ كل جريمته أن يده امتدت إلى إغلاق صنابير فساد زمن مبارك العائد بشراسة؟