تسأل عن موقف عبد الفتاح السيسي مما يدور، وأظن أنه يمكن قراءة ذلك في ضوء تصريحاته الأخيرة في نيويورك بشأن الدعوة إلى توسيع معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، لتضم الدول العربية، وأيضاً حديثه عن استحالة فطام النظام المصري عن حليب الإدارة الأميركية، باختلاف مذاقاته، ديمقراطياً كان أم جمهورياً، كما يمكنك الرجوع إلى تحولات الموقف الرسمي وتبدلاته من عاصفة الحزم ضد الميليشيات الحوثية في اليمن، وهو الموقف الذي يستند على مغازلة كل الأطراف، فيغمز لطهران بعين، ويضع الأخرى على "الأرز"، فالمبدأ هنا هو: من يدعم انقلابي أقول له يا عمي.
وهكذا يحسبها أيضا بشار: من يحفظ لي سلطتي هو سيدي.
***مصر الغارقة في مستنقعات "حرب القفا" لا يمكن أن تكون حاضرة في حروب التتار والمغول والفرس والروم على أمتها. مصر التي يختطفها من لا يحفظ لها تاريخاً، ولا يعرف لها جغرافيا، لا يمكن أن تكون إلا ما تراه الآن: مجرد صبي يتفرج على معركة، عارضاً خدماته وانحيازاته على من يدفع، ومن يكسب. لا موقف مبدئياً هنا، بل هي تلك الأخلاق الفريدة التي تبدت على أداء خاطفيها وقاتلي ثورتها.
مصر "الجديدة" التي باعت عمرو بن العاص وصلاح الدين، وعادت عز الدين القسام وشامل باسييف، وأنجبت أكبر هدية لإسرائيل، لا تنتظروا منها دوراً ولا تتحرّوا لها هلالاً في مطالع الأزمات والحروب.
***"أكتوبر" كان انتصارا للأمة المصرية، والعربية، شارك فيه الجميع، عسكريين ومدنيين، ومن السخف أن يتحول إلى وسيلة لابتزاز المواطنين، بتصويره على أنه منّة، أو منحة من الجيش للشعب. هو ملحمة من ملاحم نضال الشعوب، التي هي أم الجيوش، وحاضنتها، ففي البدء كانت الشعوب، فتكونت وولدت من رحمها الجيوش، وليس العكس. وبالتالي، من الجنون أن يعتبر أحد أن أفراح الشعوب هبة الجيوش، وعطاياها
* يقايض الجنرال شعبه: في الوقوف مع حكم الجنرالات السلامة، وفي معارضتهم الندامة. لم تخل جملة واحدة في خطاب السيسي من كلمة "الجيش" كصاحب أفضال على الشعب، وولي لنعمته، مخوّفاً الجميع من التفكير في التغيير والمعارضة
***من "بشرة خير" التي قدمها مطرب إماراتي خصيصاً لمناسبة جلوس السيسي على كرسي حكم مصنوعٍ من الدماء والأشلاء، إلى احتفالية ذكرى حرب أكتوبر، بأوبريت لا يمت للمناسبة بصلة، يحرص السيسي على إظهار أن مصر التي يحكمها هي صنيعة الهبات والمنح والمساعدات الإماراتية، من الأرز إلى الغناء، على نحو يصيب الجميع بالدهشة من أن "هوليوود الشرق" وخزّان فنونه استبد بها القحط، حتى صارت غير قادرة، أو بالأحرى غير راغبة في الاعتماد على نفسها، حتى وهي تغني لعيد وطني
*صادروا "أكتوبر" أيضاً لحساب سلطة الانقلاب، فأخرجوه من كونه مناسبة لتذكّر الأعداء الحقيقيين للشعب المصري، إلى حفلة، أو سهرة، مبتذلة، لتجديد الولاء والانتماء لمن ساعدوا في الإجهاز على عبور المصريين إلى التغيير والديمقراطية في ملحمة الشعب، يناير/ كانون الثاني 2011، وصار الحدث مناسبة لابتزاز الجماهير، بأن كل من يعارض حكم العسكر هو من أعداء الوطن الذين يعملون على هدم الجيش.
*** في موضوع استيراد الغاز، لم تعد هناك ألغاز، ومات الخجل في الوجوه البليدة، وما كان يدور سراً، صار علنياً وبكل فخر، حتى أنهم باتوا لا يجرؤون على ذكر "إسرائيل"، وهم يحتفلون بذكرى انتصار أكتوبر، وكأن المعركة كانت ضد قوى غيبية، مخافة أن توضع دولة الاحتلال الصهيوني كعدو في خطبة الجنرال المشمول برعايتها.
**لو أن طفلا من مواليد بداية الألفية الجديدة استمع إلى خطاب عبد الفتاح السيسي الأخير، لظن أن الجيش المصري ربح معركة 1973 ضد الفلسطينيين، أو ضد الإخوان المسلمين، أو ضد الإرهاب، حيث لا حرب إلا الحرب على الإرهاب، حسب عقيدة النظام المصري الحالي، منذ قرر الانقلاب على ثورة يناير، منتزعاً صيحات الإعجاب والتأييد من الصهاينة، حكاماً ومستوطنين. محوا فلسطين من خرائط كتب الجغرافيا، وغيّبوها من حصص الإعلام المسموم، وأصبح الكلام عن "إسرائيل" كحليف وصديق، بلا تورية، ومن دون لف أو دوران.
***وائل قنديل يكتب : الاتحاد الاشتراكي السيسي
*لا مفاجأة على الإطلاق أن يواصل حمدين صباحي لعب الدور المحدد له، بوصفه الدوبلير الخاص بالجنرال عبد الفتاح السيسي، بإطلاقه دعوة لتعبئة الأحزاب التي عاونت وزير الدفاع في انقلابه على الديمقراطية، داخل كيان واحد، يعلق على واجهته الخارجية "معارضة"، بينما هو من الداخل يمكن اعتباره "تنظيم أنصار بيت السيسي".
* إذن، القصة كلها محاولة لتذويب انبعاثات 30 يونيو السامة، في نهر 25 يناير الصافي، وتلك كانت الكيمياء التي أنتجت الانقلاب العسكري، وبذلك، تكون النتيجة المباشرة لهذه المناورة "العميقة" أن السيسي قرّر أن يبني معارضة، بمواصفاته وشروطه، بالطريقة نفسها التي بُنِيٓ بها الاتحاد الاشتراكي في زمن عبد الناصر *الذين يصيحون بشعارات الاشتراكية والناصرية، ويغازلون "قوى الشعب العامل"، لم تجد غضاضة في إبداء الرغبة في ركوب "قطار حمدين" الذي يسير بالفحم السيسي
***كل ما يجري على الأرض في مصر الآن ينطق بأنها دولة دستورها "الفوتوشوب"، تقودها زعامة كارتونية، مصنوعة في ورش إعلام بلغ من العبط عتياً.
الدولة التي مارست القرصنة على صور شخصية للمواطنين، واستخدمتها بدون علمهم أو إذنهم في ملصقات دعائية لترويج مشروعات الجنرال عبد الفتاح السيسي وأوهامه القومية، مثل مشروع تفريعة قناة السويس وخلافه، لم تتورّع عن سرقة ألعاب البلاي ستيشن والفيديو جيم، في ترويج انتصارات سيّدها الروسي، الوهمية، في لعبة "الحرب على الإرهاب" التي تستهدف بها انتشال نظام بشار الأسد في سورية.
آخر الفضائح، في هذا الصدد، أفرطت مواقع التواصل الاجتماعي في السخرية منها، طوال الساعات الماضية، بعد أن سطا الإعلام السيساوي على لعبة إلكترونية شهيرة، وقدمها للمشاهدين، على أنها أعمال عسكرية روسية على الأرض السورية
***أي منصف يعكف على تحليل مضمون خطاب عبد الفتاح السيسي سيجد أنه ينتمي كلياً إلى عالم "والت ديزني" و"ميكي ماوس"، وينطبق ذلك أيضا على الخطاب الصادر عن إعلامه وخبرائه الاستراتيجيين ورجال دينه، حيث لا يقل مأساوية عن توظيف لعبة فيديو لإظهار عبقرية العسكرية الروسية
**هي مصر في طورها "العكاشي" الذي اندلع قبل أكثر من عامين، ثم أخذ الأمر يتطور ويستفحل، حتى تجاوز مرحلة الكوميديا التجارية الرخيصة، وبلغ حد الخلل العقلي، والجنون الرسمي، وبعد أن كانت المسألة محصورة في شخص مولع بتقمص شخصيات هاربة من فصول الفانتازيا، في كتب التاريخ الصفراء، تحولت إلى سياق عام من الهزل، تذوب فيه الفروق بين ما يصدر عن الدبلوماسية وما "ينشع" من ملاهي الـ"توك شو" الليلية.
***عندما يخلو بيان شيخ الأزهر، لمناسبة بدء العام الهجري الجديد، من كلمة واحدة عن المسجد الأقصى الذي يهينه الإسرائيليون، كل ساعة، يمكنك أن تحدد أين تقف مصر الآن، من الصراع.
وعندما تعرف أن الجامعة الوحيدة في مصر التي تمكّن الطلاب فيها من تنظيم فعالية أحرقوا فيها علم العدو الإسرائيلي هي الجامعة الأميركية في القاهرة، تستطيع أن تدرك أن كاتب "جيروزاليم بوست" الصهيونية لم يحلق في الخيال، وهو يقول إن "عبد الفتاح السيسي هو هبة مصر لدولة إسرائيل".
*كانت أهم ثمار العدوان الإسرائيلي على غزة في صيف 2014 ما عبرت عنه صحيفة "معاريف" الصهيونية بالقول إن "أهم نتيجة للحرب على حماس هو تعزيز الشراكة الاستراتيجية مع مصر".
*هم يدركون أن انتفاضة ثالثة في فلسطين المحتلة لا تشكل خطراً على الاحتلال الصهيوني فقط، بل تمتد لتشمل العواصم العربية المتحالفة مع إسرائيل،، في ظل الأنظمة العربية التي تدين ببقائها في الحكم للدعم السياسي الهائل القادم من تل أبيب
***بشكل درامي مثير، اكتشفت مصر السيسية أن "الشيوعية هي الحل"، وراحت جيوش إعلام وثقافة الجنرال تبشّر بالفكر الأحمر، وانطلق سباق محموم نحو "بَلْشفة" الدماغ المصرية، بترويج أن روسيا بوتين هي الخير كله. وتحوّل الجميع، من رأس الدولة، ممثلاً في السيسي ووزير خارجيته، إلى مؤخرتها الإعلامية، إلى دعاة ومبشرين بالأفكار والمبادئ والطموحات السوفييتية القديمة التي لم يعد يتذكرها الروس أنفسهم.
بضغطة زر، أصبح بوتين في مصر زعيماً وقائداً لمحور الخير، في مواجهة محور الشر الذي يضم أميركا والسعودية وقطر وتركيا، وكل من يرفض الغزو الروسي لسورية، من أجل القضاء على ثورة شعبها، والحفاظ على الحكم الطائفي العائلي برئاسة بشار الأسد.
*نجوم إعلام القفا اكتشفوا فجأة أنهم أحفاد ماركس ولينين وأبناؤهما، يتحدثون عن قيصر روسيا الحالي وكأنه المسيح المخلّص ورسول العناية الإلهية لإنقاذ مصر وسورية والعراق واليمن
***ابتزوا مدخراتهم في وهم قناة السويس الجديدة، بوعود الأرباح السريعة، التي تنقلهم إلى عالم الثراء في غمضة عين، فباعوا كل شيء، ووضعوا ثمنه تحت تصرفهم، وانتظروا جريان أنهار العسل والسمن، فما حصدوا إلا السراب. قالوا لهم ستصبح "قد الدنيا"، فما رأوا إلا انكماشاً وتقزماً، ووقوفاً على أبواب المانحين في وضاعة ذليلة، حدثوهم عن "بكرة" الأخضر، فما وجدوا إلا القحط والجفاف.. وعدوهم بتشييد صروح الحرية وركوب قطار التحضر، فما لقوا إلا التوسع في بناء الزنازين التي ضاقت بالمحشورين فيها، والارتداد إلى أزمنة الإقطاع. قدم المصريون السبت والأحد والإثنين، فلم يحصلوا إلا على الماضي الكئيب، فكان قرارهم بالتمرد على دعوتهم إلى صناديق خداعة وكذابة
*أعلنها المصريون بشكل عفوي بسيط: لم تعد في الذاكرة مساحة للأكاذيب وعمليات النصب، فقررنا عدم استقبال المزيد
***المشكلة الحقيقية أن السياسة ماتت في مصر، قتلها السيسي في الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، حين قضى على فكرة احترام إرادة الناخب التي تعد الصناديق وحدة القياس العلمية الوحيدة لها، وكرّس مفهوماً جديداً لما أسماها الإرادة الشعبية، المصنوعة، بغسيل الدماغ إعلامياً، وزراعة الخوف، بحيث يسهل ابتزاز الجماهير وخداعها واقتيادها، عن طريق التفزيع الأمني، والترهيب الاقتصادي والاجتماعي.
قتلها السيسي، حين مارس أكبر وأوضح عملية نصب على المواطن المصري، بأن دعاه إلى حرق محصول ديمقراطيته الوليدة، على أن يساعده في زراعتها مجدداً، فيتخلص من رئيسه المدني صاحب الشرعية الانتخابية، بزعم اختلال شرعية الأداء، على وعد بتهيئة التربة لانتخاب رئيس مدني آخر، مع تأكيدات وأيمانٍ مغلظة بأنه غير طامع في الحكم، ولا عازم على الترشح لانتخابات رئاسية قادمة.. ثم جرى ما جرى، واستحوذ السيسي على السلطة، من خلال مسرحية هزلية، استدعى لها حمدين صباحي من مقهى "بعرة" السياسي، و"بعرة" لمن لا يعلم هو المقهى الشهير في وسط القاهرة الذي يجد فيه المخرجون والمنتجون ضالتهم من "الكومبارس" أو "الدوبلير" اللازمين لإبراز قوة بطل العمل الدرامي.
***في اللحظة التي كان فيها نظام عبد الفتاح السيسي يهرع إلى الإسكندرية، تنفيذا لتوجيهات الزعيم بالسيطرة على الأوضاع، وتلقين "الأحوال الجوية" درسا لا تنساه، وفيما كانت الحكومة تعلن عن تعويضات عاجلة لشهداء الفاجعة، كان النظام نفسه يقتل بدم بارد ثلاثة من معارضي الانقلاب في محافظة الإسماعيلية. تلخص هذه المفارقة فلسفة النظام في التعامل مع البشر، إذ يصبح الحق في الحياة للمواطن السيساوي فقط، ومن هو خارج السياق يتم قتلة بلا تحقيق أو اتهام أو محاكمة. وعلى الرغم من ذلك، لا يشعرون بالخجل، وهم يضعون أقنعة الإنسانية والرحمة على وجوههم، في محاولة مستميتة لمنع استيقاظ الوعي لدى الشعب المسجون في زنازين الأحلام الوردية الكاذبة. زخة مطر كشفت هشاشتهم، وأظهرت أن القصة ليست عربدة الطقس، أو خلاعة الأحوال الجوية.
***ما جرى في الإسكندرية كاشف وفاضح، فهذا نظام أجوف، يتغذى على الشعارات والأكاذيب، محض قشرة مهترئة تخفي تحتها العطن والخراب. ليست الإسكندرية وحدها التي غرقت مع أول هبة رياح في نهايات الخريف، إذ يمكنك القول إن ما جرى يعبر عن حالة مصر الآن. محافظ شاب، مفتون بوسامته وتحركاته السينمائية، يتحدث عن العالمية والريادة، ويغرق الناس في استعراضات ركيكة، أكبر مائدة طعام على الكورنيش لدك حصون موسوعة الأرقام القياسية، تتحول إلى معركة بالأيدي ومهانة إنسانية حقيقية.. وجولات بالدراجة يرتدي فيها ملابس كاجوال وسلسلة في الرقبة، دليلاً على حداثة ما بعد الانقلاب. وشغل الناس بمظاهر تافهة وطنين أهبل عن بكرة الجميل المختلف. وفجأة، يأتي المطر فتغرق المدينة، وترتد إلى عصور الظلام، ويبدو النظام كله عارياً من أي قيمة، أو أي كفاءة، أو قدرة على الفعل
***محافظ الإسكندرية هو الصورة المصغرة من والي مصر الجديد، الخديوي عبد الفتاح السيسي، يمارس الدجل على الناس بالطريقة نفسها، سباق دراجات "مفبرك" وكلام كبير عن النهوض والانطلاق وملامسة المجد، وتحويل مصر إلى جنة، خارج المنافسة، وهروب من مواجهة الواقع إلى السباحة في بحار الأحلام والأوهام، وكلما انهار وهم يحقنون الجماهير بوهم جديد، يخطفهم من القديم، ويواصل المسير بهم في خضم من الوعود الزائفة والإنجازات الافتراضية، كي لا يترك لهم فرصة للمراجعة والتدقيق في كشف الحساب. قبل ثلاثة أسابيع، كتبت في هذه المساحة عن "الحذاء المنسي في بطن مصر"، لمناسبة حوار دار بيني وبين عالم مصري مرموق في أحد المطارات، كانت خلاصته أن الحياة تسير، غير أنها الحركة باتجاه الانفجار، ثم راح يشرح بلغة الطب: كأنهم فتحوا بطن مريض لإجراء جراحة فوجدوا فردة حذاء، لم يستطيعوا التصرف فيها، فأغلقوا الجرح، وقالوا للمريض أنت بخير، وصدق المريض أنه على ما يرام، كما صدق الأطباء الذين أغلقوا بطنه على الحذاء أنهم مبدعون، وناجحون، وصدق المحيطون بالمريض أنه شفي، وأن معالجيه نوابغ. أضاف: لا أحد يريد أن يعترف بأن كارثة في الطريق، ولا أحد يعرف متى ينفجر بطن المريض، الذي هو بمعيار علمي، ميت على قيد الحياة.
***أزعم أن ما حدث في الإسكندرية عينة مما تمضي إليه مصر، حيث يقف الجميع أمام مرآة الحقيقة الجارحة، لكنهم، كالعادة، سيحقنون الأعين بكميات إضافية من موانع الرؤية، وستنشط آلة سحق الوعي في إغراق الناس بأحاديث المؤامرة، ولم لا والمجلس الأعلى للعالم موجود، وجماعة الإخوان حاضرة، يمكن اعتبارهما مسؤولين عن اللعب بالمناخ، وإفساد أحوال الطقس، واستهداف مصر بالسيول، لمنعها من الانطلاق، لتصبح محل حسد العالم بأسره. هم جاهزون دائماً بالروايات البديلة، بحيث لا تكون هناك مساحة، ولو ضئيلة، لإعمال العقل، واستنهاض الضمير، سيدارون سوءات عجزهم وفشلهم، بإيقاعات موسيقى الوطنية المبتذلة، ويسحبون الجموع من أمعائها إلى "تحيا مصر .. تحيا مصر.. تحيا مصر"، ويغرقونهم بمئات من ساعات البث عن الشامتين والمتآمرين
***كتبت تعليقاً ساخراً يقول "أحمّل الإخوان المسؤولية كاملة عن سوء الأحوال الجوية"، على سبيل الأسى على منهجهم القائم على استغفال الجمهور واستحماره، وقبل أن يروّجوا هذه الشماعة. غير أن ما تصورته سخريةً تنتمي إلى اللامعقول، تحوّل بعد ساعات إلى واقع، وانتشرت رواية أن "الإخوان" سدّوا بالوعات صرف الأمطار في الإسكندرية، لصناعة الكارثة.. ليس هذا فحسب، بل هناك من ذهب إلى أبعد من ذلك، وانهال بالسباب على منكري مؤامرة المجلس الأعلى للعالم، الذي وُجد خصيصاً لإلحاق الأسى بمصر، ومنعها من الحركة إلى الأمام، وقفزها إلى الأعلى.
غرقت الإسكندرية، فقرروا ردم منصب المحافظ فيها بجنرال جديد، لواء آخر يضاف إلى ثمانية ألوية آخرين، يهيمنون على حكم أحيائها وإداراتها، وتهيئتها لاستقبال كارثة الغرق منذ شهور طويلة، ليصبح الشعار "الجنرال ينعى شعبه ويعين لواءات"، والحجة أن الكارثة وقعت، لأن حاكم الإسكندرية مدني، فلا مناص من عسكرتها التامة.***"الزعيم الملهم لدولة الخرافة" الذي لا يحكم مصر بالحديد والنار فقط، بل يحكمها أيضاً "بالبيضة والحجر"، هذه الثنائية الخالدة في أدبيات الشعوذة، الممتدة عبر قرون من الجهل واحتراف الاستثمار في اللاوعي.
نعم، هي مرحلة حكم مصر بالخرافة، بدأت منذ ما قبل الثلاثين من يونيو 2013، حيث نشطت جرافات الوعي وحفارات الضمير في شقّ قنوات للكذب والوهم، مرت فيها كل أنواع الأكاذيب،
بمشاركة جيش هائل من مثقفين، زعموا طويلاً أنهم فرسان الاستنارة، فلما أفلت شمس 30 يونيو، تبيّن أنهم مقاتلون في جيوش الخرافة.
رأسمال هذا النظام هو عوائد احتراف الشعوذة السياسية، والاستثمار في الجهل. لذا، تنشط كل أدواته في استئصال مراكز الإدراك عند الجماهير، بوسائل عدة، أهمها تجريف البلاد من كل عقل ناقد، أو فكر مخالف، أو صوت مختلف، سواء بالتهجير الإجباري، أو الإسكات والمنع من الكلام ومن الظهور ومن الكتابة، وبموازاة ذلك التمكين للمشروع القومي للتجهيل والإسفاف والهلوسة.
***لم يكن غريباً في هذا السياق أن يصدر القرار بتخفيض رواتب أساتذة الجامعات، من دون مسوغ دستوري أو قانوني، في وقت يتم فيه الإنفاق بسخاء على عسكر الحكم، وعسكر الإعلام، وعسكر الدعوة، في إطار التحكم والسيطرة والحفاظ على الدماغ خاملاً ومظلماً ومستجيباً لكل ما يلقون فيه من خطابهم المُغرق في لا إنسانيته، ليصبح كل من ينتقد صنمهم المقدس كافراً بالوطن، وكل من يعارض فاشيته ودمويته وتعثره في فشله وبلادته خائناً وعميلاً، وكارهاً للوطن، يستحق اللعنة، والطرد من نعيمهم العسكري، أو ما أسميته سابقاً، هذا الجحيم السعيد الذي صنعه قائدهم، واستفادوا منه، وأدمنوه، فقرّروا أن يكتبوا على أبوابه "ابتسم أنت في الجنة".
في بلد ينادي فيه المذيع الذي تربى في كنفهم على معاونيه، لكي يحضروا له حزمة من البرسيم، لتناول غدائه على الهواء مباشرة
***ليست مصادفة أن الإعلان عن طائرة استطلاع صهيونية تمسح وسط سيناء، بعد كارثة طائرة الركاب الروسية، يأتي من تل أبيب.. ليس بين الأحبة حساب ولا عتاب. ومن هنا ، العادي والمنطقي والطبيعي أن يكون صوت حكومة السيسي لإسرائيل، وكان سيصبح غريباً وصادماً ومفاجئاً، لو أن القاهرة صوّتت ضد تل أبيب، أو امتنعت عن التصويت لها، فالقصة ليست فواتير على السيسي، لإسرائيل فقط، وإنما تتجاوز ذلك إلى حالة من الالتقاء الوجداني والعاطفي بين الطرفين، إذ يتبادلان أنخاب الكراهية لمشروع المقاومة، الفلسطيني الإخواني، ويتقاسمان فطيرةً معجونةً بدماء المنخرطين فيه، ويطلقان صيحة الحرب المقدسة، حتى جلاء آخر إخواني عن مصر، وآخر مقاوم عن أرض فلسطين،
"معادلة السيسي بوضوح هي: كلما أردت الاقتراب من إسرائيل، عليك الابتعاد عن الإخوان. وبالتالي، فإن إقصاء الإخوان يساوي إدماج إسرائيل،
***الإشتباك حول الثنائية العبثية: الدولة الدينية والدولة العلمانية.
وظني أن هذا الاشتباك يقدم هدية مجانية لدولة العسكر في مصر، ولا يغيب عن الأذهان أن افتعال هذا الصراع وصناعة الفزع من هيمنة الدولة "الدينية الإخوانية الإرهابية" كانا الثغرة التي نفذ منها الجنرالات، للانقضاض على ما جاءت به ثورة يناير من ديمقراطية وليدة. ولعلك تذكر تلك القائمة الطويلة من منتجات آلة الدعاية السوداء التي راحت تدغدغ العواطف، باستخدام شبح الهوية والتخويف من ردة إلى عصور الظلام ومحاكم التفتيش، وتزويج الفتيات في سن التاسعة، ومنع المايوه البيكيني، وتحريم الفن وتجريم الإبداع.. إلى آخر هذه الكوابيس المصنوعة في ورش الانقلاب. والنتيجة أن لا دولة مدنية قامت، ولا دولة دينية تحققت، بل هيمنت الدولة العسكرية، وتحكمت في مفاصل البلاد ومصائر العباد، حتى صارت السماء تمطر جنرالات، والأرض تنبت عسكرة، لتعود البلاد ستين عاماً إلى الوراء.
***على عجل، خرجوا من كل الاتجاهات، في محاولة لملمة أجزاء الصنم الذي حطمته الجولة الأولى من انتخابات برلمان، أشرف على سيرها بنفسه، ووزّع حصصها على من أراد. جاءوا جميعاً بصوت واحد ، والهدف وضع الزعامة المزيّفة على جهاز التنفس الصناعي، في محاولة لإنعاش الوهم، قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
أنت أمام مرحلة سقوط الوهم، وما يحدث أمامك محاولات يائسة وبائسة، لاستعادة الهيمنة على الوعي الذي افترسوه بالأكاذيب الملوّنة، والحواديت المزركشة، غير أنهم لا يقدمون جديداً، حيث يُستعاد الكلام التافه عن رغبته في جعل "مصر قد الدنيا"، بينما الجميع يعلمون أنها تتضاءل وتنخفض وتتقزّم، بفعل إدارة سفيهة، يدرك النافخون فيها والمروّجون عبقريتها أنها فاقدة القدرة على التفكير والفهم والفعل، وأنها باتت عالة على الإنسانية، منذ ارتضت أن ترهن قرارها لرغبات المانحين، وتؤسس تحالفاتها على المبالغ، لا المبادئ.
***على من يضحك عبد الفتاح السيسي هذه المرة، حين يقول إن "الإخوان المسلمين" جزء من الشعب المصري، وأحكام الإعدام لن تنفذ؟
يبدو أن جملة "أحكام الإعدام لن تنفذ" صارت بنداً أساسياً في حقيبة سفر جنرال الدم إلى أوروبا، للاستعمال خارج القطر المصري فقط، وحين يعود ينسفها، ويعلن خطاباً آخر دموياً واستئصاليا.في زيارته إلى برلين، وقف الجنرال بين يدي أنجيلا ميركل، والصحافة الألمانية، يتصبب عرقاً، بمواجهة سيل من الأسئلة عن المناخ الذي تعيش فيه مصر، على وقع أحكام الإعدام الجماعية، فقال القولة نفسها التي يستخدمها في لندن اليوم "الأحكام لن تنفذ"، ثم حين عاد، استعاد وجهه العنيف، وأعلن على الهواء مباشرة أن أي حكم بالإعدام يجب أن ينفذ فوراً، وبلا هوادة، معطياً الإشارة لتعديلات في قوانين التقاضي، تتيح تسريع وتيرة التصفية بأحكام القضاء المسيس.الأكثر مدعاة للعجب هو كلام السيسي الناعم عن أن "الإخوان جزء من الشعب"، وهو ما يضع البريطانيين في ورطة حقيقية، إذ تحاول حكومة ديفيد كاميرون منذ فترة طويلة، وتحت تأثير إغراءات وضغوط إماراتية، تمرير تقرير يصنف "الإخوان" جماعة إرهابية ويدينها، ويحظر نشاطها، الأمر الذي يصطدم بقرار محكمة النقض المصرية باعتبار قرار النيابة العامة إدراج قيادات الإخوان ضمن الكيانات الإرهابية لغواً منعدم الأثر.ولا يخفى على أحدٍ، هنا، أن نظام السيسي أسس خطابه الموجه للغرب، تبريراً لانقلابه على الحكم المنتخب في مصر، على أنه اضطر لقتل الديمقراطية، لكي يخلص العالم من الإرهاب "الإخواني"، وكان أول ما فعله هو ونظامه العسكري أن صنفوا "الإخوان" جماعة إرهابية محظورة، بقرار من الحكومة التي عينها الجنرال، عقب الانقلاب العسكري مباشرة.
*** لا تهتم كثيرا لكثافة أعداد الضباط، من اللواء حتى ضابط الصف، في البرلمان المصري الجديد، فليس هذا الدليل الأكبر على أنك بصدد غرفة تحقيق واحتجاز، وليس بيتاً للتشريع والرقابة.
النواب المسموح لهم بعضوية برلمان السيسي، ممن يحفظون نصوص تلمود "دولة الأخ الكبير" الذي لا تجوز مناقشته أو معارضته، بحيث يتحول بيت التشريع إلى بيت للزواحف، الجاهزة للتخلي عن وظيفتي التشريع والرقابة للرئيس القائد الملهم العبقري.وما يدور أمامك من معارك وهمية بين كتل وائتلافات ليس أكثر من كوميديا من النوع الرخيص، يُراد بها الإيحاء بالتنوع والاختلاف
يريدون أن يخدعوك بأنه توجد حياة سياسية في مصر، بينما يعلم القاصي والداني أن أول ما فعلوه أنهم قتلوا السياسة، وأحرقوا نصوص الديمقراطية
*** حسم عبد الفتاح السيسي الجدل بشأن سد النهضة الإثيوبي. أكد المؤكد وأقر بالثابت: هذا رجل لا يمارس السياسة، ولا يطيقها، بضاعته الوحيدة هي الدجل، والشعوذة، والهروب فوق سحابة من دخان الكلام الذي لا يقيم معنى، ولا يجيب سؤالا.
"ما تخافوش، الوضع مطمئن، وأنا ما ضيّعتكوش قبل كده، عشان أضيّعكم تاني".
العطش على الأبواب، والمهانة القومية في أوجها، والرجل يطلق النكات السخيفة، ولا يبالي بتقديم إجابة قاطعة تبدّد المخاوف المسيطرة على الجميع، بشأن مستقبل النهر.
يقرأ الجواب من عنوانه، وقد بدا واضحاً منذ ذهاب السيسي إلى أديس أبابا، مارس/ آذار الماضي، أنه رضي من الزيارة بالاستقبال الرئاسي والتقاط الصور، لضمها إلى ألبوم الشرعية الغائبة.
قلت، في ذلك الوقت، إن هذا رجل مولع بالصور والحركات السينمائية، يحرّكه، في كل خطواته، ذلك الوله القاتل بصيحات الجمهور، من الطبيعي، إذن، أن يكون ذهابه إلى إثيوبيا بحثاً عن لقطة، لا دفاعاً عن قطرة مياه النيل.
*** دراما رحلة عبد الفتاح السيسي إلى بلاد الحبشة لا تختلف عن رحلة أنور السادات إلى القدس المحتلة، كلتاهما تراجيديا مؤلمة، أفسدت المستقبل، من أجل لحظة نشوة فردية عابرة، وكلاهما عينه على لجنة تحكيم مهرجان الانسلاخ من استحقاقات التاريخ، وبديهيات الجغرافيا.
كلاهما كان يبحث عن ذاته الفردية، ويستدرّ آهات الإعجاب بالقفزة التاريخية، طلباً لمجدٍ شخصي زائف، تعرف الميديا الغربية جيداً كيف تصنعه، وتقدمه في أغلفة أنيقة لكل مهووس بالعظمة والصور التذكارية، وكما ذهب خمر لقب "بطل الحرب والسلام" برأس أنور السادات، ها هو رأس السيسي يشتعل بجنون عظمة ما أسبغه عليه الإثيوبيون من صفات، عقب إذعانه أمام الحلم الحبشي بسد النهضة، وتقديمه صك الاعتراف المجاني بالسد الذي يضع مصر في فوهة العطش، تماماً كما منح السادات صك الاعتراف بالعدو الصهيوني، مُخرجاً مصر من معادلة الصراع، وبانياً سداً شاهقاً بينها وبين محيطها العربي.