نظرات

موقع اجتماعي سياسي و تربوي ونفسي يهتم بالطفل وتربيته وقصصه

 بقلم د راغب السرجاني
                            

مؤلفاته

لم يترك ابن بطوطة خلفه أي إنتاج أدبي، سوى سردٍ لأسفاره على شكل كتابٍ عنوانه: (تحفة النظار في عجائب الأمصار وعجائب الأسفار)، الشهير بكتاب (رحلة ابن بطوطة).

 

وكان السلطان المغربي أبو عنان فارس المريني الذي أعجب برحلات ابن بطوطة وقصصه المشوقة، قد طلب منه أن يمليها على كاتبه محمد بن جزيّ الكلبي، وقد أطلق ابن جزي على الكتاب اسم (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار).

 

وهو عمل مشترك قام به ابن بطوطة وابن جزي، وصبغه كل منهما بطابعه الخاص، فجعل فيه ابن بطوطة روحه التي تحب العجائب والغرائب، وجعل فيه ابن جزي أسلوبه الذي لا يخلو من صنعة وتكلف وتنميق، فهو كتاب سلس الإنشاء، وفيه رواية حوادث نادرة فكهة، وتقاليد شاذة، وقد أحس ابن بطوطة بأن ما يذكر من أخبار عن الهند تُعَدُّ غريبة، وبعيدة عما هو مألوف، وبأنها ستحمل الكثير من الناس على الشك في صحة كلامه، فأقسم على ذلك بأنه صادق فيما رأى وفيما تكلم[9].

 

تشكيك ابن خلدون فيما رواه ابن بطوطة

وكان من هؤلاء المشككين ابن خلدون إذ يقول: "أنه ورد بالمغرب لعهد السلطان أبي عنان من ملوك بني مرين رجلٌ من مشيخة طنجة يُعرف بابن بطوطة، كان رحل منذ عشرين سنة قبلها إلى المشرق، وتقلَّب في بلاد العراق واليمن والهند، ودخل مدينة دهلي حاضرة ملك الهند وهو السلطان محمد شاه، واتصل بملكها لذلك العهد وهو فيروز جوه، وكان له منه مكان، واستعمله في خطة القضاء بمذهب المالكية، ثم انقلب إلى المغرب واتصل بالسلطان أبي عنان، وكان يحدِّث عن شأن رحلته وما رأى من العجائب بممالك الأرض، وأكثر ما كان يحدث عن دولة صاحب الهند، ويأتي من أحواله بما يستغربه السامعون؛ مثل أن ملك الهند إذا خرج إلى السفر أحصى أهل مدينته من الرجال والنساء والولدان، وفرض لهم رزق ستة أشهر تُدْفَع لهم من عطائه، وأنه عند رجوعه من سفره يدخل في يوم مشهود، يبرز فيه الناس كافة إلى صحراء البلد ويطوفون به، ويُنصب أمامه في ذلك الحقل منجنيقات... ترمى بها شكائر الدراهم والدنانير على الناس، إلى أن يدخل إيوانه. وأمثال هذه الحكايات، فتناجى الناس بتكذيبه، ولقيت يومئذ وزير السلطان فارس بن وردار البعيد الصيت، ففاوضته في هذا الشأن، وأريته إنكار أخبار ذلك الرجل لما استفاض في الناس من تكذيبه.

 

فقال لي الوزير فارس: إياك أن تستنكر مثل هذا من أحوال الدول؛ بما أنك لم تره، فتكون كابن الوزير الناشئ في السجن. وذلك أن وزيرًا اعتقله سلطانه، ومكث في السجن سنين رَبَّى فيها ابنه في ذلك المجلس، فلما أدرك وعقل سأل عن اللحمان التي كان يتغذى بها، فقال له أبوه: هذا لحم الغنم. فقال: وما الغنم؟ فيصفها له أبوه بشياتها ونعوتها. فيقول: يا أبت، تراها مثل الفأر؟ فينكر عليه ويقول: أين الغنم من الفأر! وكذا في لحم الإبل والبقر؛ إذ لم يعاين في محبسه من الحيوانات إلا الفأر فيحسبها كلها أبناء جنس الفأر، ولهذا كثيرًا ما يعتري الناس في الأخبار كما يعتريهم الوسواس في الزيادة عند قصد الإغراب"[10].

 

لقد شكك ابن خلدون فيما رواه ابن بطوطة من عادات الشعوب وتقاليدهم، وربما كان السبب في ذلك أنه لم يكن هناك مَنْ يتحدَّث عن تلك العادات وتقاليد، فعندما سمعوا ذلك كان الأمر عندهم أشبه بالخيال.

 

وقد أيدَّت بحوث العلماء فيما بعدُ أن كل ما ذكره ابن بطوطة عن الهند كان صحيحًا؛ مما يدلُّ على أن ابن بطوطة كان ثقة أمينًا، ويمتاز عن غيره من الرحَّالين السابقين أنه لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أَلَمَّ بها[11].

 

أهمية رحلة ابن بطوطة

لقد كان ابن بطوطة يتمتع بقدرته على تذكُّر ما رآه في رحلاته، على الرغم من مرور السنوات، وتعدُّد المناطق التي زارها، وكان ما يميزه أيضًا أنه ذكر حقائق لأول مرة ولم تُذْكَر عند غيره، فقد ذكر استعمال أوراق النقد في الصين، وأشار إلى استخدام الفحم الحجري[12].

 

وقد طبعت رحلة ابن بطوطة في باريس مع ترجمة فرنسية في منتصف القرن التاسع عشر على يد المستشرق ديفريمري وسانجنيتي، وطبعت في القاهرة طبعتين عربيتين، ونشر الأستاذ جب ملخصًا لها بالإنجليزية في سلسلة (Broodway Travellers) عام 1929م، كما طبعت في لبنان في سلسلة الروائع اللبنانية، تحقيق فؤاد أفرام البستاني، وكذلك تُرجمت إلى كثير من لغات العالم[13]؛ مما يدل على مدى أهمية تلك الرحلة.

 

وتُعتبر رحلاته من أطرف القصص رغم ما تحتويه من غرائب العادات، فإن تسجيل عادات تلك الأقوام وتقاليدهم أفاد كثيرًا في معرفة عادات تلك الشعوب البعيدة، كما أفاد في معرفة تاريخ تلك البلاد، ومعرفة جغرافيتها من خلال وصف البلاد وجبالها وبحارها.

 

ومن الغرائب التي ذكرها ابن بطوطة عن نظام التأمين الاجتماعي في الصين؛ أن العامل أو الصانع كان يُعفى من العمل وتنفق عليه الحكومة إذا بلغ الخمسين، وأن من بلغ ستين سنة عَدُّوه كالصبي فلم تُجْر عليه الأحكام[14].

 

شهادة علماء الغرب

لقي ابن بطوطة الكثير من الثناء من علماء الغرب؛ لمَّا قدَّمه من وصف لأسفاره، فيقول عنه المستشرق ريجيش بلاشير عن كتابه (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار): "لهذا الكتاب أهمية فائقة في التعرف على العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر الميلادي؛ ففي هذا الكتاب يكثر الاستطراد وتختلط فيه الأساطير مع الحكايات البعيدة عن التصديق، والأوصاف المتكررة تكشف فيها أيضًا معلومات تاريخية دقيقة ومفيدة، لا سيما تلك التي لا تحصى والمتعلقة بعقائد وعادات وأخلاق السكان كما يراها هذا الرحالة المسلم، الذي يتفوق عنده حبُّ الاستطلاع على حدَّة الذكاء".

 

أما المستشرق الروسي كراتشكوفسكي فيعتبره: "آخر جغرافي عالمي من الناحية العلمية، أي أنه لم يكن نقَّالة اعتمد على كتب الغير؛ بل كان رحالة انتظم محيط أسفاره عددًا كبيرًا من الأقطار، وقد جاوز تجواله مقدار مائة وخمسة وسبعين ألف ميل، وهو بهذا يُعَدُّ منافسًا خطيرًا لمعاصره الأكبر منه سنًّا (ماركو بولو) البندقي الإيطالي (1254- 1323م)، الذي دفعه حب الأسفار إلى اجتياز كل آسيا عن طريق منغوليا، وعاد عن طريق سومطرا، والذي عهد إلى كاتب له في إخراج مذكراته إخراجًا أدبيًّا، واسمه (كتاب ماركو بولو)".

 

ويقول الباحث الياباني ياموتو: "إنه من العسير القول بأن جميع حكايات ابن بطوطة عن الصين هي من نسج الخيال وحده، حقًّا إن وصفه لتلك البلاد يشمل عددًا من النقاط الغامضة، ولكنه لا يخلو أحيانًا من فقرات معينة تعتمد على ملاحظة مباشرة عن الصين، فضلاً عن أنه من المستحيل القول بأن رواياته التي وجدت توكيدًا في المصادر الصينية وفي أسفار ماركو بولو قد كانت من تلفيق مخيلته"[15].

 

وفاته

توفي ابن بطوطة في مراكش عام 779هـ/ 1377م، وقد أطلقت عليه جمعية كمبردج لقب "أمير الرحّالين المسلمين".

 

لقد كان لابن بطوطة الفضل على الجغرافيين العالميين؛ لأنه ترك صورًا صادقة للحياة في العصر الذي عاش فيه، بعد أن قطع ما يقرب من خمسة وسبعين ألف ميل، بحثًا عن المعلومة الجغرافية الصحيحة.


[1] ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 5/227. [2] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص559. [3] حسين مؤنس: ابن بطوطة ورحلاته تحقيق ودراسة وتحليل ص17. [4] د/ أحمد رمضان أحمد: الرحلة والرحالة المسلمون ص370. [5] المصدر السابق ص370، 371. [6] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص559، 560. [7] د/ أحمد رمضان أحمد: الرحلة والرحالة المسلمون ص379، 380. [8] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص560. [9] محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص294. [10] تاريخ ابن خلدون 1/181، 182. [11] محمد الصادق عفيفي: تطور الفكر العلمي عند المسلمين ص295. [12] مجموعة من العلماء: موسوعة الشروق 1/16. [13] د/ أحمد رمضان أحمد: الرحلة والرحالة المسلمون ص384. [14] د/ زكي محمد حسن: الرحالة المسلمون في العصور الوسطى ص161. [15] د/ عبد الرحمن حميدة: أعلام الجغرافيين العرب ص563، 564.
  • Currently 98/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
32 تصويتات / 1935 مشاهدة
نشرت فى 11 مايو 2010 بواسطة nazrat

ساحة النقاش

محمدمسعدالبرديسي

nazrat
( نظرات ) موقع إجتماعي يشغله هم المجتمع سياسيا وتربويا بداية من الاسرة الى الارحام من جد وعم وخال الى آخره , الاهتمام السياسي أساسه الدين النصيحة و يهتم بالثقافةبألوانها ويعد الجانب النفسي والاهتمام به محور هام في الموقع كذلك الاهتمام بالطفل ثقافة وصحة »

ماذا تود البحث عنه ؟

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

645,697

مصر بخير

                         
* الشكر واجب للسيد العقيد هشام سمير  بجوازات التحرير , متميز في معاملة الجمهور على أي شاكلة ..

* تحية للمهندس المصري محمد محمد عبدالنبي بشركة المياه