لله جل وعلا أسبغ علينا نعما كثيرة، ولم يزل يسبغ على عباده النعم الكثيرة، وهو المستحق لأن يشكر على جميع النعم. والشكر قيد النعم، إذا شكرت النعم اتسعت وبارك الله فيها وعظم الانتفاع بها، ومتى كفرت النعم زالت وربما نزلت العقوبات العاجلة قبل الآجلة
إِنَّ مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ الَّتِي تَسْتَوْجِبُ الشُّكْرَ وَتَسْتَحِقُّ الذِّكْرَ: مَا مَنَّ اللهُ بِهِ عَلَى بِلاَدِنَا مِنْ نِعْمَتَيِ الاِسْتِقْلاَلِ مِنْ نِيرِ الاِسْتِعْمَارِ، وَالتَّحَرُّرِ مِنْ بَرَاثِنِ الاِحْتِلاَلِ؛ فَإِنَّهُمَا مِنَ النِّعَمِ الْجَلِيَّةِ الْعَمِيمَةِ، وَالْمِنَحِ الْمُبَارَكَةِ الْعَظِيمَةِ، إِذْ مَنَّ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا أَنْ خَلَّصَنَا مِنْ بَطْشِ الطُّغَاةِ الْغَاشِمِينَ، وَجَوْرِ الْبُغَاةِ الظَّالِمِينَ، وَرَدَّ إِلَيْنَا بِلاَدَنَا عَزِيزَةً كَرِيمَةً، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا بِنِعْمَةِ الإِيمَانِ وَالأَمَانِ، وَالْحُرِّيَّةِ وَالاِسْتِقْلاَلِ، وَالتَّخَلُّصِ مِنْ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ.
وَإِنَّ نِعْمَةَ الأَمْنِ وَالأَمَانِ - يَا عِبَادَ اللهِ - وَالاِسْتِقْرَارِ فِي الأَوْطَانِ، مَعَ لِبَاسِ التَّقْوَى وَرُسُوخِ الإِيمَانِ: لَمِنْ أَجَلِّ مَا يَسْتَوجِبُ الْحَمْدَ وَالذِّكْرَ وَالشُّكْرَانَ، أَلَمْ يَمْتَنَّ اللهُ - تَبَارَكَ وَتَعَالَى - عَلَى قُرَيْشٍ بِنِعْمَةِ الإِطْعَامِ وَالأَمْنِ مِنَ الْخَوْفِ؛ )لإيلافِ قُرَيْشٍ* إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ* الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ( [قريش:1-4].
تَأَمَّلُوا يَا رَعَاكُمُ اللهُ فِيمَا سَبَقَ، ثُمَّ انْظُرُوا إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ نِعَمِ اللهِ الَّتِي لاَ تُعَدُّ وَلاَ تُحْصَى، فَقَدْ كَثُرَتِ الْخَيْرَاتُ وَازْدَادَتِ الْبَرَكَاتُ، وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا، وَتَنَوَّعَتْ أَسْبَابُهَا؛ مَآكِلُ وَمَشَارِبُ، وَمَلاَبِسُ وَمَرَاكِبُ، وَمَسَاكِنُ وَآلاَتٌ، وَعَلُومٌ وَأَدَوَاتٌ، عَافِيَةٌ فِي الأَبْدَانِ، وَأَمْنٌ وَأَمَانٌ، نِعَمٌ ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ تَجِلُّ عَنِ الْحَصْرِ وَالإِحْصَاءِ، )وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّالإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ( [إبراهيم:34].
فَحَرِيٌّ بِالْعُقَلاَءِ أَنْ يَشْكُرُوا، وَقَرِيْبٌ بِالنُّبَلاَءِ أَنْ يَتَذَكَّرُوا وَيَذْكُرُوا، وَكَيْفَ لاَ وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ r بِأَنَّ مَنْ أُوتِيَ أَقْلَّ الْقَلِيلِ مِمَّا ذَكَرْنَا آنِفاً فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا؛ فَعَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ – أَيْ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي قَوْمِهِ- مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ؛ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ]. وَأَظُنُّكُمْ تَرَوْنَ مَا نَرَى مِنْ تَجَاوُزَاتٍ وَتَصَرُّفَاتٍ مِنْ بَعْضِ الشَّبَابِ فِي أَثْنَاءِ احْتِفَالِهِمْ بِالاِسْتِقْلاَلِ وَالتَّحْرِيرِ لاَ تَلِيقُ بِشَبَابِنَا؛ مِنْ إِغْلاَقٍ لِلطُّرُقِ وَتَضْيِيقٍ عَلَى النَّاسِ، وَإِطْلاَقِ الْمُفَرْقَعَاتِ النَّارِيَّةِ الْمُؤْذِيَةِ، وَالتَّحَرُّشِ بِالآخَرِينَ، وَإِلْقَاءِ الأَوْسَاخِ وَالأَوْرَاقِ وَالْمُخَلَّفَاتِ فِي الشَّوَارِعِ وَالأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ، وَرَشِّ السَّوَائِلِ وَالرَّغْوَةِ حَتَّى إِنَّهُ سَبَّبَ لِبَعْضِ النَّاسِ الْعَمَى وَذَهَابَ الْبَصَرِ. وَمَا يَحْصُلُ مِنْ سِبَابٍ وَشَتَائِمَ وَلَعْنٍ مِمَّا لاَ يَلِيقُ، إِضَافَةً إِلَى مَا يَكُونُ مِنَ الطَّيْشِ وَالرُّعُونَةِ فِي قِيَادَةِ السَّيَّارَاتِ، وَالاِسْتِهْتَارِ بِالنَّاسِ وَالأَمْلاَكِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ، وَتَضْيِيعِ الصَّلَوَاتِ، وَالصِّيَاحِ وَرَفْعِ الأَصْوَاتِ، وَإِزْعَاجِ النَّاسِ، فَهَلْ هَذَا مِنْ شُكْرِ نِعْمَةِ اللهِ عَلَيْنَا يَا عِبَادَ اللهِ فِي الاِسْتِقْلاَلِ وَالتَّحْرِيرِ؟!.
فَلْنَحْمَدِ اللهَ تَعَالَى عَلَى مَا أَوْلاَنَا مِنْ نِعَمٍ عَظِيمَةٍ، وَلْنَشْكُرْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا أَغْدَقَ مِنْ آلاَءٍ عَمِيمَةٍ، نَنْعَمُ بِهَا صَبَاحَ مَسَاءَ، فَمَنْ كَانَ فِي نِعْمَةِ الإِيمَانِ فَلْيَتَذَكَّرِ الْكُفْرَ وَالْكُفَّارَ، وَمَنْ كَانَ فِي نِعْمَةِ الأَمْنِ وَالأَمَانِ فَلْيَتَذَكَّرْ مَا فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الْفَوْضَى وَالْقَتْلِ وَالْخَوْفِ الدَّائِمِ عَلَى النَّفْسِ وَالْعِرْضِ وَالْمَالِ، وَمَنْ كَانَ فِي نِعْمَةِ الْغِنَى فَلْيَتَذَكَّرِ الْفَقْرَ وَالْفُقَرَاءَ، وَمَنْ كَانَ فِي نِعْمَةِ الْعَافِيَةِ فَلْيَتَذَكَّرِ الْمَرَضَ وَالْمَرْضَى، وَهَكَذَا فِي كُلِّ نِعْمَةٍ مِنَ النِّعَمِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ يَنْبَغِي أَنْ نَتَذَكَّرَ مَا يُضَادُّهَا؛ لِنَكُونَ أَكْثَرَ مَعْرِفَةً بِنِعَمِ اللهِ عَلَيْنَا؛ فَنَزْدَادَ شُكْراً وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا.
قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ: (عَلَيْكُمْ بِمُلاَزَمَةِ الشُّكْرِ عَلَى النِّعَمِ، فَقَلَّ نِعْمَةٌ زَالَتْ عَنْ قَوْمٍ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ) وَيُصْدِّقُ هَذَا قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: )وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَاكَانُوا يَصْنَعُونَ( [النحل:112].