النجاح لعلم المكتبات والمعلومات

التواصل بين طلبة علم المكتبات و المعلومات

مقدمة :
إلى متى ستظل شعوب الجنوب خاضعة لتيارات ثقافية عاتية قادمة من دول الشمال؟ وإلى متى ستظل ثقافة الدول النامية أسيرة لحضارة السوق لصالح الداعين والمروجين بل والمخططين لها؟ لماذا تتحول ثقافة الشمال إلى تيارات كاسحة تخترق عقول البشر؟ ولماذا أصبحت مركزة فى قطب واحد، استطاع بما يملك من قوى متعددة الأبعاد وتكنولوجيا فائقة القدرة، أن يخضع عقول البشر لتبنى ثقافته بل والدفاع عنها ضد معارضيها؟ لقد تمكن هذا القطب بالتعاون مع تجار المعلوماتية من السيطرة على شعوب العالم وحقق أرباحاً طائلة تحت دعاوى العولمة فى محاولة لخلق ظروف تشكيل المواطن الكونى. والسؤال المهم الآن هو كيف يمكن دعم قدرات الإنسان فى بلادنا؟ وما آليات تحويله إلى كتلة تاريخية متحركة تواجه تحدى الاختراق الثقافى والزخم المعلوماتى فى سبيل تأصيل ذاكرته التاريخية؟
(أ‌) العولمة والمتغيرات العالمية المستحدثة
حقا يحار المرء عندما يقف مشاهدا غير مشارك فى الأحداث الجارية، حائرا أمام كم هائل من المتغيرات العالمية التى تتدفق من خلال الوسائط الإعلامية والشبكات الاتصالية فائقة الدقة، والتى تصل إليه بل تخترق عقله دون سابق إنذار، إنها تحولات اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية متشابكة الأبعاد، تدور فى أجزاء "القرية الكونية" المزمع تشكلها.
يقف الإنسان حائرًا أمام تلك المتغيرات المؤثرة فى حياة البشر بأشكال متباينة حتى شعر بعجزه عن الفهم أحياناً، وعن التحليل والتشخيص والتفسير فى كثير من الأحيان. فهو يرى تحديات عصرية متناقضة، دعاوى للتوحد وتحطيم للحواجز بين الشعوب، ووقائع تشير إلى التفكك والتقيد، فيعجز عن إثبات ذاته وسط هذه التناقضات والمتغيرات اللانظامية، والتى تلعب فيها الثورة المعلوماتية وتكنولوجيا الاتصال والإعلام والأدوار المحورية فى تشكيل ردود أفعال البشر.
لقد اتسم العصر الراهن بثورة معلوماتية غير مسبوقة فى تاريخ الشعوب، ثورة ثالثة عابرة القارات، لا تعرف الزمان ولا تهتم بالمكان، ثورة معرفية ناقلة تخترق ثقافات الشعوب، وتقنية فائقة الدقة فى الاتصالات لا تعرف الحدود، إنه عصر الكلمة والصورة القادرتان بحق على تخدير الشعوب وتطويع العقول فى سبيل تحقيق أممية رأس المال. لقد تطورت المعرفة العلمية بشكل مذهل وغير متوقع، فاستطاعت تحطيم ثوابت الفكر، تلك الثوابت النظرية التى كادت أن تكون راسخة فى الذهن البشرى حاكمة لمنهجية الفكر الاجتماعى، حتى أن البعض وصفها بأنها تمثل ثورة مادية لم تستطع مجاراتها ثورة أخلاقية ودينية وروحية معاصرة تتوازن معها.
لقد كان من المفترض – أو هكذا أدعى أصحاب الدعوة إلى العولمة – أن النظام العالمى الجديد يشكل عهداً يتسم بتماسك الشعوب وتعاونها وإلغاء ما بينها من سدود وتقريب ما بينها من مسافات. غير أن الواقع العملى أثبت عكس ما كان متوقعاً، حيث زادت حالات التفكك والصراع والتطرف بأشكاله المختلفة، واختلت المعايير، واختفت القيم الأخلاقية وتراجعت القيم الاجتماعية الإيجابية، وحلت محلها القيم المادية المعبرة عن ثقافة المصالح وحضارة السوق. وبرزت التناقضات وازدادت حركات المعارضة والتمرد فى أجزاء كثيرة من العالم، وزادت الفجوة بين شعوب العالم، وظهرت أشكال من عدم المساواة بين الشعوب فى الحقوق والواجبات، وأصبحت سلوكيات الغطرسة والتعالى والتهميش، والاستغلال من جانب القوى الكبرى واضحة دون مواربة فى الخطابات السياسية المعلنة، خاصة بعد أحداث الحادى عشر من سبتمبر، والتدخل السافر فى العراق دون أدنى اعتبار للمواثيق الدولية.
ومع كل هذا ظل الداعون للعولمة والمناصرون لها يقدمون التبريرات لدعم توجهاتها، ولا عجب فى ذلك فالعولمة مسار تاريخى ذات طابع كونى، وهى ليست حدثاً تولد حديثا، بل مشروع ترددت أصداؤه منذ أكثر من قرنين من الزمان، وبدا محلا للصراع بين القطبين، زمن تعدد الأقطاب، بحثا عن سيطرة القوة الواحدة، وبرزت بوادره بعد الحرب العالمية الثانية، وتبلور مفهومه فى مطلع التسعينيات نتيجة لأسباب نعرض لأهمها فيما يلى:
1- التحولات الأيديولوجية التى انتابت السياسة الصينية وانفتاح الصين على العالم الرأسمالى وتطبيق سياسات الاقتصاد الحر.
2- اتجاه الهند نحو الانفتاح الاقتصادى على الخارج والتخلى عن سياسة الهند الانعزالية اقتصادياً.
3- المصارحة والمكاشفة لسياسة اتبعها المعسكر الشرقى، وانفتاحه على السوق العالمى وتطبيق سياسات ليبرالية جديدة.
4- بروز قطب اقتصادى جديد فى منطقة شرق آسيا.
5- تأسيس حضارة السوق واتباع الدول الفقيرة السياسة الليبرالية المفروضة من العالم الرأسمالى الغربى.
6- سرعة التحولات على الصعيد الاقتصادى والاتجاه نحو التكتلات الاقتصادية وبروز الشركات متعددة الجنسيات.
7- تعاظم التحولات فى مجالات الاتصالات والثورة المعلوماتية والتكنولوجية الهائلة فى مجالات الأعلام والاتصال والمواصلات.
8- سرعة التحولات الاقتصادية وبروز ظاهرة التنافس على الصعيد العالمى فى ظل تشكيل النظام العالمى الجديد..
وكانت العولمة اقتصادية بالأساس ثم اتسعت إلى الصناعة والسياسة والثقافة؛ والأخيرة أخطرها فى الهيمنة والاختراق. وللعولمة مجالات متعددة ذات أبعاد متشابكة يمكن أن نعرض لها بإيجاز فيما يلى :
(أ‌) مجالات اقتصادية تعمل على دمج اقتصاديات العالم فى الاقتصاد العالمى من خلال تحركات تجارية، وتدفق الأموال، وانتقال التكنولوجيا وتوزيع شبكات الاتصال، والهدف يتم فى ضوء منطق الربح الرأسمالى للكتل الرأسمالية والمنافسة فى الاستحواذ على الأسواق العالمية، من خلال الانتقال من الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية الثقافية. (نشاطات ترفيهية، مجتمع استهلاكى، توسيع المجال التجارى ليخص الثقافة).
(ب) مجالات الابتكار التكنولوجى: حيث يُقسم العالم – على أساس المعرفة- إلى مجتمع مُصنع للمعرفة ومبتكرها (مجتمع المعرفة)، ومجتمع مستهلك لمنتوج هذا الابتكار.
(ج) القفزة العلمية الصاعدة، خاصة فى مجال الإعلام الآلى وتطور ما يسمى بالذكاء الاصطناعى والاستنساخ، وما أدى إليه من جدل أخلاقى ومشاكل دينية وقيمية وإنسانية.
(د) مجال الاختراق الثقافى وتشويه الهوية الوطنية. (تزييف العقول أو عولمة مصطنعة كما يقول زيجلر).
وعلى الرغم من اختلاف العلماء حول هذا المفهوم الجديد – القديم إلا أنها تعنى تعميم الشىء وتوسيع دائرته ليشمل أجزاء العالم ككل، وهى تعنى فى المجال السياسى – كما يشير الجابرى – العمل على تعميم خط تجارى يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات.
والعولمة بهذا المعنى أيديولوجية تعبر عن إرادة الهيمنة على العالم من قطب واحد، يملك السيطرة والاختراق فى عصر الكلمة والصورة والتحكم عن بعد. أو هى كما يراها البعض محاولة لجعل الأمم عالماً واحداً ليس للناس فيه إلا توجه واحد من مصدر واحد هو المصدر الذى يريد أن يهيمن عليه. وربما من هذا المنظور يشير البعض إلى أنها أمركة تخترق حواجز الدول وثقافات الشعوب لتذويب تلك الثقافات فى أيديولوجية ذات مصدر واحد.
ومع كل هذا أصبحت العولمة واقع يجب التعامل معه بقوة وقدرة على امتلاك آليات المنافسة، التى هى الإطار أو السياج الحامى لمكان الدول على الخريطة الكونية المزمع تشكيلها.
وإذا كان يمثل مواقف أبناء العالم الأقل نمواً من هذا التيار الكاسح النفاث، فما هو موقف الغرب من العولمة؟ وكيف تؤثر على البنى التقليدية والمؤسسات الاجتماعية فى الدول الأقل حظاً من التطور؟ وما موقف العرب منها؟
ربما يكون طرح موقف بعض علماء الغرب من العولمة يلقى الضوء على ما يمكن أن نسميه "بثقافة الكوننة أو العملقة المستحدثة" وآليات الهيمنة المتجددة فى عالم اليوم وتأثيرها على العلاقات البشرية ومؤسسات المجتمع.
يقول ديفيد روثكوب David Rothkop – الذى كان يعمل مديراً لمؤسسة كيسنجر وهو أستاذ للشئون الدولية فى جامعة كولومبيا وموظف متميز فى وزارة الخارجية الأمريكية فى إدارة الرئيس الأمريكى كلينتون – "يجب على الولايات المتحدة أن تعمل على نشر ثقافتها بكل الطرق والوسائل، لأن الثقافة الأمريكية خليط متعدد وهى من نتاج ثقافة عالمية؛ فيجب أن تمس ثقافات الشعوب.(1)
ويرى بيتر بينارت Beinart تحت عنوان عالم واحد One World New Repulic، معرفاً العولمة بأنها نرجسية القوة فى أن ترى عالماً واحداً يمثل رؤيتها.
ويؤكد تقرير الأمم المتحدة الصادر فى اليونسكو أن التجارة العالمية ذات المحتوى الثقافى قد تضاعفت من عام 80-1991 ثلاث مرات، إذ ارتفع من 67 مليار دولار إلى 200 مليار دولار. وهذه المواد الثقافة (أفلام – موسيقى – برامج تليفزيونية – تدخل كل بيت تقريباً) تسيطر عليها الولايات المتحدة الأمريكية وفى نفس الوقت نجد أن هذه الصناعات بدأت فى الذبول فى كثير من الدول.
ومن الملاحظ أن بنجامين باربر Benjamin Barber صك مصطلح
Mc World، ليشير إلى أن حاسوب ماكينتوش أصبح معياراً للفكر والعقل، ومطاعم الهامبورجر (ماك) معياراً للطعم والمعدة.
ويقرر نورمان جونسون Norman Jonson أن الصادرات الأمريكية ليست أجهزة وبرادات وعربات فقط، لكنها أفكار أيضاً. وعندما تبدأ تصدير الأفكار والفلسفات والسلوك وطرق المعيشة فإن هذا يصبح هجوماً على ثقافات الغير.
ومن ثم فالثقافة الأمريكية هى الثقافة العالمية التى يجب أن تنتشر فى العالم لما تحمله من ثقافات عصرية متنوعة!
ويضيف تقرير الأمم المتحدة – السابق ذكره – بأن أكبر صادرات الولايات المتحدة ليست الطائرات أو السيارات أو غيرها من منتجات التكنولوجيا –فقط- بل سلع الترفيه والتسلية كذلك.
وجاء بالتقرير أيضاً أن ما حققته مدينة السينما فى هوليود فى أمريكا عام 1997 كان 30 مليار دولار، وأن حصاد ما أثمره فيلمان أنتجتها هوليود فى نفس العام هما بلوك بوستر Block Buster وتايتانيك Titanic كان 1.8 مليار دولار. ويضيف التقرير تعقيباً على ذلك أن توسع الأدوات الإعلامية ذات التأثير العالمى مثل شبكات الإعلام وتكنولوجيا الأقمار الصناعية أعطى قوة أكبر لهذه الأدوات لاختراق حواجز البيوت فى الدول النامية، من خلال البث المستمر لمدة 24 ساعة يومياً. ومع انتشار أجهزة التلفاز فى العالم ازداد تأثيره على العالم وغير من شخصية الإنسان وقيمه، إذ تضاعفت نسبة عدد الأجهزة المستخدمة من عام 80-1995 من 141 لكل ألف إلى 235 لكل ألف، بمعنى أن العالم كله أصبح يملك أجهزة تلفاز حتى القاطنون فى مجاهل أفريقيا، أو البدو الرحل الذين لا يملكون مكاناً مستقراً يحملون معهم أجهزتهم المرئية. وإذا افترضنا أن كل أسرة تتكون عادة من 4-5 أفراد فإن هذا يعنى أن التأثير الثقافى العالمى يكاد يصبح اختراقاً ثقافياً لا ينجو منه منزل فى الحضر أو البادية.
ومن هنا فإن تغيير شخصية الإنسان واختلال العلاقات العائلية، وتغيير منظومة القيم، وتهميش الثقافة المحلية والوطنية هو نتاج لهذا الزخم الثقافى الوافد، وتقبل ثقافة الآخر والهرولة نحوه، حيث أصبح يمثل رموزاً مكانية تتأصل بفعل القوة المتدفقة فى ظل غياب جهاز المناعة بالداخل. ففى الوقت التى تنتعش فيه صناعة الأفلام فى هوليود وتحقق أرباحاً عالية وفوائد بالمليارات تتراجع فيه صناعة الأفلام فى بلاد العالم خاصة النامى إزاء المنافسة الأمريكية.
(كانت المكسيك تنتج مثلا مائة فيلم سنوياً، هبط هذا الإنتاج إلى 10 أفلام سنوياً) (تقرير عام 99 U.U.Report) بعنوان Scientific Cultural Organization)(2).

(2) حضارة السوق والأمن الثقافى : سيناريوهات التهميش الاجتماعى
فى عصر الانهيارات الكبرى وفى ظل آليات الهيمنة العالمية تحولت الثقافة الاستهلاكية Consumer Culture – إحدى مجالات تدويل النظام الرأسمالى – إلى آلية فاعلة لتشويه البنى التقليدية وتغريب الإنسان وعزله عن قضاياه، وإدخال الضعف لديه والتشكيك فى جميع قناعاته الوطنية والقومية والأيديولوجية والدينية. وذلك بهدف إخضاعه نهائياً للقوى والنخب المسيطرة على القرية الكونية، وإضعاف روح النقد والمقاومة عنده حتى يستسلم نهائياً إلى واقع الإحباط فيقبل بالخضوع لهذه القوى أو التصالح معها(3). وهكذا تعد العولمة إحدى التحديات التى تقف أمام بناء المجتمعات التقليدية لأنها تحطم قدرات الإنسان فيها، تجعله إنساناً مستهلكاً غير منتج، ينتظر ما يجود به الغرب ومراكز العالم من سلع جاهزة الصنع، بل تجعله يتباهى بما لا ينتجه، فهو القادر على استهلاك ما لا يصنعه، مما تشكل لديه قيم الإتكالية والتواكل، والتطلع إلى اقتناء السلع الاستهلاكية التى تتغير يوماً لا فى سبيل التطوير – فقط- بل فى سبيل زيادة حدة الاستهلاك على المستوى العالمى.
ولا جدال فى أن النظام الرأسمالى المزمع تشكيله لا يختلف – كثيراً – من حيث أهداف تحقيق الهيمنة الخارجية، نظراً لأنها السبيل الوحيد للمحافظة على قدرة النظام الرأسمالى فى تطوير ذاته، وتوزيع منتجاته، وتأمين استقرار أوضاعه، ووصوله إلى مراحل الرفاهية داخل نطاق حدوده. إلا أن الأوضاع لا تستمر دائماً على هذا النحو بسبب أن طبيعة الدورة الاقتصادية فى النظم الليبرالية الحرة – كما أشارت المدرسة الكينزية – تقوم على مبدأ الأزمات، حيث تمر هذه المجتمعات بأزمات متلاحقة، تكون هى القوة الدافعة للتطوير والإنتاج وتحسين الأداء وتنمية القدرات لحل هذه الأزمات التى تنتاب دورة الإنتاج وتعمل على تكاملها. ولتجنب هذه الأزمات تطورت آليات الهيمنة الخارجية نحو تغيير أساليب الاستغلال وإن كان الهدف – كما سبق القول – واحد، والعولمة هى إحدى آليات الهيمنة المعاصرة.
ففى مرحلة التقارب بين القطبين الرأسمالى والشيوعي قبل انهيار الأخير، كان الاهتمام منصباً على تدعيم الوجود والاستمرار المطرد لتفوق النظام الرأسمالى فى مواجهة النظم الشمولية، وبعد نجاح النظام الليبرالى الحر، وانفراده بالنفوذ العالمى، اتجه إلى تغيير أسلوب الهيمنة الخارجية، فأصبحت رأسمالية العلم والتقنية فى حاجة إلى توحيد النخب المدعمة لهذا النظام، وظهرت فى رأسمالية متعددة القوميات Multinational. ولقد أسهمت التطبيقات التى تمت إلى الآن فى مجال تقنية المعلومات والاتصال والتقنية الحيوية فى تجديد القوى المنتجة وإتاحة فرص هائلة لإعادة هيكلة الإنتاج الرأسمالى كماً وكيفاً، فبتغيير الهيكل الصناعى تقدمت إلى الصدارة صناعة المعلومات والمعرفة والثقافة، وبتغيير أدوات الإنتاج وفنونه، تغير هيكل قوة العمل وبنية الطبقة العاملة، تركيباً ونوعاً، واتسع نطاق الفئات والشرائح الوسطى، وهى أمور ذات أهمية فى تحقيق الاستقرار الداخلى للنظام الرأسمالى(4).
ويعد "تعميم ثقافة الاستهلاك" هو واحد من آليات الهيمنة المفروضة على الشعوب والأمم التقليدية، وهى مجال مكمل "ومتمفصل" مع أنماط أخرى من التدويل فى الإنتاج والمال والتقنية ... وتشكلت مؤسسات لهذا الغرض حتى تضمن الفئات الرأسمالية، مديرة الشئون العالمية، تصريف منتجاتها، وتوزيعها عالمياً وعلى أوسع نطاق. ولعبت الشركات متعددة الجنسية دوراً مؤثراً فى ذلك واهتمت بإنتاج رموز وبنود ثقافة الاستهلاك لتتكامل مع السلع المادية المنتجة. ولا يختلف ذلك عن استخدام هذه المؤسسات للعلوم الاجتماعية والسلوكية، وتوظيفها فى خدمة هذا الغرض.
ويمكن إيجاز هذه الأهداف التى تسعى إليها الفئات الرأسمالية الموحدة وتأثيرها على تغير البنى التقليدية فى المجتمعات المحيطية فى التالية:
1- التحكم فى مسار تطوير البنى التقليدية(5) بالقدر الذى يسمح فقط بتصريف منتجات هذه الدول (المركز الرأسمالى المعولم) وبالقدر الذى يسهم فى تطوير قوى الإنتاج بالداخل. ولقد لعبت آلية تعميم ثقافة الاستهلاك دوراً مؤثراً فى ذلك حيث يمكن رصد مظاهر التلطعات الاستهلاكية لدى الفئات والشرائح المختلفة فى هذه الدول. والعالم العربى خير مثال على ذلك حيث نجد التطلع الشديد للبحث عن الجديد فى الأسواق بغض النظر عن حاجة المجتمع إلى هذا الجديد من السلع. ولم يقتصر الأمر على الفئات العليا فى هذه المجتمعات، وهو ما كان هدفاً فى حد ذاته فى النظام الاستعمارى القديم حيث كانت الاستراتيجية تقوم على خلق شرائح قادرة على الاستهلاك. لقد أصبح الاستهلاك –وهذا هو الجديد- معمماً على الفئات العمرية والفئوية المختلفة، فانتشار لعب الأطفال مثلاً التى انتقلت من المرحلة التقليدية المعروفة إلى المرحلة الحديثة التى تدفعهم بصورة مبهرة نحوها، هو خير دليل على ذلك.
2- العمل على تغريب الثقافات الوطنية من خلال آليات أصبحت أكثر قوة مثل وسائل الإعلام والتقنية الحديثة واحتكارها على مستوى المعرفة وعلى مستوى التشغيل. وكان لصناعة الثقافة دوراً هاماً فى هذا الإطار، حيث تم توجيه نمط الثقافة من منطلق ما بعد الحداثة، نحو إعادة إنتاج وتقوية منطق الاستهلاك لدى الشعوب(6). ومن يستعرض – مثلاً – الأسواق الخليجية والعربية بوجه عام سوف يشهد بأن التوكيلات التجارية الأجنبية المسيطرة على هذه الأسواق تستأثر بالنصيب الأعظم من جملة العمليات التجارية القائمة.
3- توظيف العلم للاختراق الثقافى والهيمنة على الثقافات التقليدية بهدف طمس هوية الشعوب، وقد تعددت آليات هذه الهيمنة كماً وكيفاً بين ثقافة قومية وأخرى. ولا شك أن المتابع للبرامج التى تبثها الإذاعات المختلفة حتى العربية منها يلحظ بوضوح إظهار تفوق الحضارة الغربية، وتغلغل قيم الرأسمالية فى المؤسسات الوطنية ذات الصلة بالثقافة. فمناهج المدارس والجامعات ومراكز البحوث كلها تشير إلى ذلك. بالإضافة إلى ما تقدمه المؤسسات من منح ومواد إعلامية وبحوث تجرى عن طريق المؤسسات الرأسمالية، كلها تصب فى إطار ترسيخ تفوق الغربى إلى ماعداه من الجنسيات الأخرى(7).
4- دعم السياسات الاقتصادية والاجتماعية التى تقدمها المؤسسات الدولية (البنك الدولى، صندوق النقد الدولى، وغيرهما من المؤسسات) للدول الأقل تطوراً طالما أنها تحقق مصالح القوى الرأسمالية الجديدة، وكم من قررات محلية تتعثر بسبب توحد مصالح المراكز الرأسمالية والوقوف ضد هذه القرارات! لأنها تحقق ما تربو إليه من خدمة النظام الرأسمالى المعولم.
5- نقل الصناعات التقليدية من المراكز الرأسمالية(8) إلى بعض الأجزاء الأخرى من العالم، إما لاستغلال الأيدى العاملة الرخيصة فى الدول المتلقية لهذه الصناعات، أو تفادى تلوث البيئة فى المراكز. ومع أن هذه العملية (نقل الصناعات) تدخل فى عملية تدويل الاقتصاد، إلا أن أبعاده الثقافية أهم بكثير من أبعادها الاقتصادية. فهى ترسخ ثقافة "تخليص المجتمعات التقليدية من دائرة التخلف"(9) برغم أن الواقع الفعلى يثبت عكس ذلك، حيث تعمل الرأسمالية على استخلاص فائض إنتاج الدول المتخلفة ويضاف لحساب الفئات الرأسمالية العالمية ويحل من أزمة الداخل فى المراكز وليس فى المحيطات.
وإذا كان البعض ينقل ويردد مقولات سائدة فى "سوسيولوجيا التحديث" حول إيجابيات الاحتكاك؛ والانتشار الثقافى الناتج عن نقل ثقافة المجتمع الحديث إلى المجتمع التقليدى، مع نقل التكنولوجيا إلى داخل البنى التقليدية من شأنه أن ينقل المجتمع الأخير إلى مرحلة الحداثة، ومن ثم يستطيع تخطى الفارق الزمنى الذى يفصل بين المرحلة التى يعيش فيها المجتمع التقليدى، وبين المرحلة التى وصل إليها المجتمع الحديث (الرأسمالى). فإننا نقول : يخطئ من يتصور أن التبادل الثقافى أمر وارد بين ثقافتين غير متكافئتين، بل يخطئ أكثر من يرى أن الاحتكاك الثقافى والانتشار يساعد الدول الفقيرة فى تخطى مرحلة التخلف، ففى كل حالات التبادل الثقافى غير المتكافئ (الاختراق أو الغزو) فإن الثقافات الأدنى (التقليدية) تفقد تدريجياً مقومات استمراريتها وبذلك تتفكك وتنهار.
(3) سيناريوهات العولمة وثقافة التهميش
بات لا مناص من تحليل آليات الهيمنة الموجهة من تلك التكتلات الاقتصادية فى زمن العولمة. وواقع الأمر أن العولمة(10) – كما أشرنا من قبل – تمثل مراحل متتالية من السيطرة على كافة أجزاء العالم، مستغلة أساليب متعددة للوصول إلى الهدف الحقيقى فى نشر ثقافة كونية جديدة ومتجددة تلغى الحواجز والحدود بين الدول لمصلحة الليبرالية الجديدة فى النظام الرأسمالى العالمى لصالح تلك التكتلات. وربما يكون الاختلاف الوحيد فى هذا المجال هو التحول من سيطرة دول على دول أخرى، لسيطرة تكتلات لصالح دول على شعوب العالم بإقحامها فى نظام مستحدث يعلن المساواة والتوحد ولكنه ينطوى على التميز والعنصرية وتفكيك الشعوب، مستعيناً فى ذلك بكل أدوات التقنية الحديثة ووسائل الاتصالات المعاصرة، والسيطرة عن بعد، واضعاً مجموعة من السيناريوهات التى من الممكن إلقاء الضوء عليها فى مراحلها المتتالية :
السيناريو الأول : بعد انتهاء الحرب الباردة والتحول نحو النظام الليبرالى واختفاء العدو الشرقى أصبح من المفيد إلقاء اللوم على الحضارة العربية الإسلامية باعتبارها مصدر الإزعاج، ومن ثم ظهرت الأفكار وكثرت الكتابات عن صدام الحضارات، ونهاية التاريخ، والكتابات التى تشير إلى ضرورة التصدى للثقافة الإسلامية باعتبارها تمثل العنف والإرهاب والتعامل بحد السيف. وهكذا تشكل السيناريو الأول فى محاولة التشكيك فى سماحة الدين الإسلامى وتخلفه عن ركب الحضارة الغربية (النموذج المثالى للبشرية). وواقع الأمر أن هذا ليس بجديد على الفكر الليبرالى، ومن يستعرض فكر القرن العشرين وبخاصة أفكار ماكس فيبر Max Weber، يلحظ بوضوح مدى الجهود التى بذلها من أجل الحفاظ على الرأسمالية ضد النظم الأخرى، بل أنه دعا ألمانيا إلى ضرورة التوسع الرأسمالى عن طريق الغزو الاستعمارى لتطبيق الليبرالية الرأسمالية.
وانتقالاً إلى السيناريو الثانى نجد تشويه الثقافة العربية حيث ظهرت الدعوى إلى تجسيد تخلف الأمم العربية، وإبراز ملامح الانقسام والتشرذم والجمود الحضارى. وهنا لعب الإعلام الغربى دوراً بارزاً فى تشويه صورة العرب سواء على مستوى الحوارات الثقافية، أو الدراما، أو البرامج الإعلامية، بل استغلال الإعلان فى تشويه صورة الإنسان العربى وعقليته المتجمدة.
وينتقل السيناريو الثالث فى محاولة التشكيك فى قدرة الأمة العربية على التقدم ومواكبة التطور الحضارى الغربى. ولاشك أن اتجاهات التحديث ونظرية الانتشار الثقافى تلعب هذا الدور بحنكة وفعالية، فهى تبرز ثقافة التخلف وثقافة الفقر وملامح الشخصية العربية المتأصل فيها عدم القدرة على الإبداع والابتكار. إنها نظريات تعالج التخلف والنمو من منظور التقسيم الكلاسيكى بين مجتمعات تملك إمكانات التقدم وأخرى تفتقر إلى هذه الإمكانات، على الرغم من أن تقدم الأولى قد تم على حساب تقدم الثانية كما تشير نظريات التبعية الكلاسيكية والمحدثة.
من هذا المنطلق يبرز السيناريو الرابع الذى يبغى التشكيك فى مستقبل الأمة العربية والعالم الثالث، حيث يبرر ضرورة الربط بين تحديث تلك المجتمعات وبين آليات الاحتكاك الثقافى من ناحية، والنقل التكنولوجى من ناحية أخرى، ومن ثم فالسبيل إلى تقدم تلك الأمم مرهون دائماً بما يجود به الغرب الرأسمالى من تكنولوجيا ونشر ثقافة التقدم، ودون ذلك ستظل تلك الأمم على ما هى عليه من تخلف وتأخر!
ويأتى السيناريو الخامس بالدعوة إلى ضرورة خلق مواطن كونى تذوب شخصية أمته فى الثقافة الوليدة المستحدثة، من خلال خلق حضارة السوق والتنافس الحر وإلغاء كافة الحواجز بين الشعوب والأمم. إن تقدم تلك المجتمعات مرهون إذن بمدى تقبل تلك الأمم للثقافة الليبرالية الجديدة والنظام العالمى الجديد، الذى تذوب فيه شخصية الأمم وخصوصيتها الثقافية وخلق ثقافة موحدة على مستوى العالم ككل.
والطريق الأمثل يتمثل فى السيناريو السادس الذى يهتم بإحلال عناصر ثقافية جديدة، وغرس ثقافة مستحدثة من خلال تكنولوجيا الإعلام وخلق مجتمع استهلاكى بتقنية إعلامية فائق السرعة والتطور.
إن أفكار "هانجتون"، و"فريد مان"، ومقولات نهاية التاريخ وصدام الحضارات وصراعاتها هى أيديولوجيا جديدة فى سلسلة الهيمنة على مر التاريخ. فأين السبيل لوقف، أو على الأقل، التخفيف من تحديات العولمة وخاصة الثقافية منها؟
وهذا يستدعى عرض لدور الاتصال الجماهيرى والتدفق الإعلامى والمعلوماتى وأثره على المجتمعات البشرية.
(4) التغريب الثقافى وسوسيولوجيا الاتصال الجماهيرى :
كثر الجدل والحوار حول الدور الذى يقوم به الاتصال الجماهيرى فى المجتمعات البشرية، وربما يرجع هذا الجدل إلى بعد أيديولوجى واضح، فهناك من يرى الثقافة عالمية، وهناك من يؤكد على محلية الثقافة الإعلامية communal Mass Culture. وعلى الرغم من الترابط بين الثقافات، إلا أن الرويتين متباعدتين إلى حد بعيد. فالرؤية الأولى تلغى فكرة الحواجز الثقافية، بمعنى أن الثقافة هى عبارة عن المخزون الجماعى للمعرفة العامة المتداولة بين الشعوب. من هنا جاء التركيز على إلغاء الحواجز بين الثقافات. ومن المتوقع إذاً أن يكون هناك أنصار لهذه الرؤية من المدافعين عن ضرورة نقل التجارب الغربية إلى الدول الأخرى(11).
بينما ترى الرؤية الثانية خطر الثقافات الأخرى على ثقافة المجتمع المحلى، على أساس أنها تلغى الهوية والتراث نظراً لعدم التكافؤ، وبالتالى أتاحت الفرص للاختراق الثقافى والمعلوماتى والارتباط بثقافات مغتربة لا تتلاءم معها. ومن هنا تأتى فكرة تبعية الثقافات الدنيا للثقافات الكبرى(12).
وعلى الرغم من هذا التباعد بين الرؤيتين إلا أننا يجب أن نعترف بأن الثقافة الإعلامية تجمع بين الخبرة العالمية والمحلية. إلا أن الإشكالية الحقة فى مدى التفوق والهيمنة التى يفرضها الطرف الأقوى فى التقنية الإعلامية، هذا إلى جانب. ومن جانب آخر مدى تقبل الثقافات الأضعف للتغلغل والإختراق الثقافى. لهذا يجب علينا البحث فى وظائف الثقافة الإعلامية، ومدى سيطرتها فى واقعنا العربى.
1- المجتمع العربى والثقافة الإعلامية :
كلما كان الاتصال الجماهيرى أكثر ارتباطاً بثقافة الشعب، وأكثر قدرة على المحافظة على تراثه، زادت درجات الإبداع، وانتشرت الثقافة الواقعية وترسخت القيم الإيجابية. لذا يحذر الباحثون والمثقفون من خطر سقوط الثقافة وتدنى مستواها. لأن ذلك يقود لانهيار الأمة واضمحلالها على كافة المستويات. لذا يمكن القول بأن حضارة أى أمة تقاس بنوعية الناتج الثقافى المبدع والملتزم، بمعنى مدى ملائمة الناتج الثقافى وتعبيره عن قضايا واقع الأمة(1).
وإذا حاولنا أن نحدد وظائف الاتصال نجد أنها تنطوى على ثلاثة وظائف أساسية(14) :
الأولى : إعلامية
تقوم على تزويد الجماهير بمعلومات عن الأحداث التى تقع فى المحيط الإنسانى. وهذه الوظيفة لا تقوم إلا من خلال مرحلة ميدانية تجمع فيها المعلومات على المستويين الداخلى والخارجى.
الثانية : دعائية
تتولى فيها وسائل الإعلام الإيحاء للجماهير المتلقية بالأفكار والمواقف التى يجب أن تتنباها، ومعنى ذلك توظيف المعلومات التى جمعت فى إطار ربط قطاعات المجتمع من أجل إحداث تجاوب محدد إزاء الأحداث التى تقع فى البيئة الاجتماعية : ويتوقف ذلك على قدرة وسائل الإعلام فى عمليات الإقناع والتفسير والتحليل.
الثالثة : تربوية
تنقل فيه وسائل الإعلام التراث الاجتماعى، المتمثل فى القيم والمعايير والتقاليد الاجتماعية، من جيل إلى آخر، أى تنشئة الفرد نشأة اجتماعية ملائمة لأهداف المجتمع وقيمة ومثله.
واقع الأمر أن هذه الوظائف مجتمعة تشكل محور العلاقة بين الاتصال والتراث الاجتماعى، حيث نقل التراث وتجديده يعمل فى اتجاه إيداع الفكر ويعمل فى إطار استغلال الثقافة وترسيخ القيم الإيجابية والحضارية؛ من هنا كانت العلاقة بين الثقافة والاتصال الإعلامى. فبقدر ما يكون الترابط بين الواقع وبين الثقافة الإعلامية بقدر ما ينشأ الفكر المبدع الخلاق.
والسؤال الذى يطرح نفسه هنا إلى أى حد تعبر الثقافة الإعلامية العربية عن واقع المجتمع العربى وقضاياه ؟
إذا اتفقنا على أن الإعلام العربى يتصل بقضايا عديدة تتعلق بحاجة المجتمعات العربية إلى التنمية الشاملة والتحرر من التبعية بكافة أشكالها، وضمان الحريات الفردية والجماعية، وتطوير الشخصية الثقافية، وحماية الهوية والتراث القومى من الاختراق الثقافى، وتمكين الأمة العربية من الإسهام فى الحضارة الإنسانية، وتدعيم التعاون والتقارب بين الشعوب، والنهوض بالمرأة والطفولة والشباب، والدعوة إلى العمل المنتج. إذا اتفقنا على ذلك، فمن الواجب أن نقرر أن النظام العربى للإعلام والاتصال يفتقد الكثير من تلك الوظائف الثلاث السابقة؛ حيث نجد نقائص عديدة تميز الوضع الإعلامى السائد.
ويمكن رصد أهم النواقص فى التالى (15):
1) اختلال التوازن فى تدفق المعلومات على صعيد القطر الواحد كجزء، ثم على الصعيد القومى ككل.
2) انعدام الصناعات العربية لوسائل الإعلام والاتصال حيث تقوم الدول العربية باستيراد كميات ضخمة من أجهزة الالتقاط الإذاعى، والتلفازى، وورق الصحافة، وغيرها من الموارد الاستراتيجية التى لها مساس بأمن الوطن العربى.
3) انعدام التوازن بين قطاعات الإعلام المختلفة حيث يتطور انتشار التلفزة بسرعة أكثر من الصحافة المكتوبة أو الكتاب.
4) ارتفاع فى نسبة الأمية، ولعل الأمر الذى يزيد من خطورة هذه المشكلة أن البعض من شبه الأميين هم من العاملين فى قطاع الإنتاج الثقافى والإعلامى، وأمام هذه النسبة المخيفة يصبح الاتصال بجميع وسائله عقمياً(16).
أضف إلى ذلك أن الإعلام باعتباره مؤسسة اجتماعية هامة فى المجتمعات البشرية، يحمل مضامين اقتصادية وسياسية وأيديولوجية إن لم تكن لها القدرة على ترسيخ ثقافة المجتمع وهويته، فإنها تؤدى إلى تزيف الوعى وإفساد العقول. وربما لذلك يختفى التراث الإيجابى من الأمة العربية ويرتمى فى أحضان الثقافة الاحتكارية العالمية، ولاشك أن ذلك مرهون أيضا بعوامل سياسية تلعب فيها عناصر من الصفوة السياسية دوراً هاماً فى هذا المجال(17).
وواقع الأمر أن العلاقة بين الثقافة الإعلامية والعلاقات السياسية الدولية لا تقتصر على تلك العلاقة غير المتكافئة بين الخارج والداخل، بين المركز الإعلامى المسيطر، والأطراف المسيطر عليها، وإنما وأيضاً بين ثقافة النخبة (الصفوة) وبين ثقافة العامة (الجمهور).
إن تدفق الثقافات الأجنبية داخل دول العالم الثالث (المحيطات) لا يتم دون أن تكون هناك صفوة سياسية وثقافية تعمل فى سبيل هذا التدفق: فليس بوسع الثقافات الأجنبية التغلغل داخل أبنية هذه المجتمعات وممارسة نفوذها، ما لم تكن هناك صفوة على استعداد لمعاونتها وتسهيل مهامها(18).
فالمتتبع للثقافة الإعلامية العربية يستطيع – دون جهد- أن يرصد العلاقة بين الثقافة الإعلامية والبعد السياسى فى الحقائق التالية :
أولاً : غياب الديموقراطية الثقافية والإعلامية :
لهذا يغيب الخلق والإبداع فى الناتج الثقافى الإعلامى العربى، فالثقافة الإعلامية يجب ألا تقتصر على الأقليات المتميزة (الصفوة) على حساب الفئات الشعبية الأخرى.
ثانياً : غياب المشاركة الجماعية :
حيث نجد أن العلاقة الطبقية أو القبلية أو الطائفية هى القانون العام الذى يحكم أجهزة الإعلام والثقافة فى كثير من المجتمعات العربية.
ثالثاً : فقدان الهوية الثقافية :
فمع تسهيل التغلغل الثقافى، وفى ظل شروط عدم التكافؤ الذى يحكم عملية التبادل الثقافى، تصبح الثقافة سلعة تجارية ومن ثم يصبح التراث العربى رموزاً تقليدية تختفى من الوجود(19).
رابعاً : غياب الحوار الموضوعى :
فى كثير من الدول العربية نلحظ انقطاع الصلة بين أجهزة الإعلام والجماهير، فالسياسة الإعلامية يتم التحكم فيها والتخطيط لها من أعلى دائماً، دون حتى التعرف على اتجاهات الجماهير المتلقية للسلع الثقافية.
الثقافة إذن طبقية منحازة – بصفة دائمة – لمن يملك مصادر المعلومات وأجهزة الإعلام.. وإذا كانت جريدة "لوموند الفرنسية" اعترفت أخيراً فى قولها : "إننا كنا نعتقد أن الثقافة لا تمتاز بأنها بعيدة كل البعد، فظهر أن حيادها هذا ربما كان إزاء الأخلاق لا غير!!" (20). فإننى أؤكد مرة أخرى أن انحياز الثقافة للسياسة ينطبق أيضاً حتى على مجال الأخلاق.
2- الإعلام وثقافة النخبة :
إذا كانت الثقافة هى مجموع المعارف والمعانى والرموز والمعتقدات والقيم التى تكتسب عبرالتاريخ، فإن الإعلام هو المحرك لكل هذه المعارف، بحيث يربط بين أجزاء المجتمع ويشكل شخصية الفرد ويحدد هويته. فهو وسيلة تحول الفكر إلى عمل. من هنا كان الربط بين الثقافة والإعلام، فلا يمكن تصور الثقافة بدون تعبير أو إبلاغ. كما أنه لا سبيل أمام أجهزة الإعلام للنجاح بدون زاد ثقافى يشد اهتمام الجمهور إليها، والسماع بإبلاغ رسالتها إلى مختلف المجالات. فأجهزة الإعلام التى تساعد الثقافات على التلاقح، مطالبة فى الوقت نفسه بوقاية هذه الثقافات من العواصف والتيارات الهدامة. "لقد أصبحت تيارات تدفق الإعلام من الشمال نحو الجنوب كالسيل العارم تطيح بكل ما يعترض سبيله ويعصف به فى مهب الرياح، فيحطم كل توزان طبيعى لا يتمشى مع أهوائه ولا يستجيب لأغراضه"... "وهذا ما يقيم الدليل على العلاقة المتينة بين السياسة من جهة والإعلام والثقافة من جهة ثانية"(21).
3- الإعلام العربى بين التغريب والأمن الثقافى :
تحتل إشكالية التغريب الثقافى – فى الوقت الراهن- مركز الصدارة فى تفكير الباحثين العرب، وربما يرجع ذلك إلى أن واقع الثقافة فى مجتمعاتنا العربية يشير إلى تلك الحقيقة التى ترى أن هناك أخطاراً كبرى تهدد كيان الثقافة العربية وتطمس التراث وتفضى إلى نتائج سلبية مما يزيد الأمر تعقيداً، فالثقافة العربية (فى ظل التقنيات المطورة فى مجال الاتصال الجماهيرى، وفى ظل ثورة المعلومات والأقمار الصناعية والتوابع الفضائية المستمرة للاتصالات المختلفة) لا تملك حرية الاختيار فى المضمون الإعلامى الذى تتلقاه. ومن ثم تنعزل الثقافات العربية وتضعف أمام الغزو الخارجى، وتحدث عملية إحلال لثقافات أخرى فتتحول معها العادات والممارسات والسلوك اليومى والقيم ونمط الحياة الاجتماعية، مما يطمس هوية تلك المجتمعات ويعيد صياغتها فى ضوء أهداف اقصادية وسياسية لخدمة المجتمعات ذات الثقافات الأقوى(22).
من هنا كان استعادة الثقافة العربية يتوقف على كبح هذا الاختراق الثقافى والتحصن ضد استراتيجيته وآثاره السلبية. ومن هنا ظهر مفهوم "الأمن الثقافى العربى" للحفاظ على مقومات الثقافة، وأداء دورها التاريخى والحضارى فى سياق المعاصرة، عن طريق المشاركة الفاعلة على المستوى القومى والعالمى، فى التصدى للقضايا العربية والدولية، فى صورة تنظيمية مخططة. بما يتحقق به قومية المعرفة فى التكامل بين الموارد البشرية والموارد المادية العربية. ويتوفر به أفضل الظروف لتنمية الثقافة فى هذا الإطار الجماعى الهادف، وذلك بتأمين موارد الإنتاج الثقافى وأدواته(23).
الأمن الثقافى بهذا المعنى يهدف إلى تنمية الوعى الثقافى، لا فى صورته الفردية وإنما فى صورته الجماعية، لذا يتطلب الأمر إطاراً عربياً شاملاً يعمل فى إطار الوحدة الفكرية، ورفع المستوى الثقافى وتنظيم الوعى الإعلامى.
لا غرو بعد هذا، أن تحتل إشكالية التغريب الثقافى قائمة الدراسات الإعلامية المعاصرة فى المجتمع العربى. ففى دراسة حديثة اتضح أن 46.7% من الأنباء الدولية المستخدمة فى صحف تسعة بلاد عربية، مستمدة من أربع وكالات أنباء غربية دولية هى "اليونايتدبرس"، و"الأسوشيتدبرس" و"وكالة الصحافة الفرنسية" و"رويتر". "كما تبين هذه الدراسة أن وكالات الأنباء الغربية كانت مصدراً لما نسبته 43.7% من أنباء حول البلاد العربية، بينما كانت الوكالات العربية مصدراً لـ 42% من الأنباء من البلاد العربية فقط".
كما تبين دراسة تحليلية أخرى للصفحات الخارجية لثمانى صحف دولية عربية وهى (الأهرام، والدستور الأردنية، والأنوار اللبنانية، والعرب القطرية، والوحدة الإماراتية، والشعب الجزائرية، والثورة العراقية، والبعث السورية) خلال ديسمبر 1976، أن هناك تركيزاً واضحاً على أنباء الولايات المتحدة الأمريكية (45%) يليها البلدان العربية التى نالت أخبارها (35%) من مساحة الصفحات الخارجية بالصحف المدروسة، ثم دول العالم الثالث (بنسبة 15%) ثم الدول الأخرى (5%) فقط(24).
كما أن هناك الكثير من الدراسات التى قامت بهدف تحليل المضمون الإعلامى الذى تقدمه وسائل الإعلام فى المجتمعات العربية وهو يشير إلى :
1) أن الإعلام أصبح أداة دعاية لنموذج معيشى غربى.
2) عدم التوازن فى تدفق المعلومات بين الدول، بل وأيضاً بين القطاعات المحلية الريفية والحضرية.
3) الاهتمام بالثقافة الأجنبية بدعوى التحضر ومجاراة الحداثة(25).
4) سيطرة النخب الحاكمة سياسياً واقتصادياً وأيديولوجياً على الثقافة والفكر والإعلام فى الدول العربية.
5) أصبح جيل اليوم يبحث عن "بطل خيالى" أو قوى خارقة مثل "السوبر مان"، و"مايكل جاكسون"، فهذا النمط هو القادر على حل مشكلات الواقع المتناقض الذى يعيش فيه الفرد فى المجتمع العربى.
6) شغف الشباب العربى بالمغامرات والعنف وأفلام الكاراتيه، والمصارعة الحرة والأغانى الهابطة والثقافة الأجنبية، بدعوى مجاراة روح العصر.
7) طغيان المركزية على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، فهى غالباً وسائل تمتلكها الحكومات وتسخرها لخدمتها والتبرير لسياستها.
وهكذا نجد أن الإعلام العربى يعانى من كثير من المشكلات لا على المستوى الخارجى فقط، بل وأيضاً وربما بقدر أكبر على المستوى الداخلى. إلا أنه بين الداخل والخارج اتفاقاً ضمنياً لصالح فئات اجتماعية لن تكون من بينها بأى حال الجماهير الشعبية.

(5) الجرائم المستحدثة فى ظل المتغيرات الدولية :
إذا كنا تحدثنا فيما سبق عن التأثيرات السلبية لتحديات العولمة، خاصة الثقافية، من تهميش لثقافات الشعوب والاختراق الثقافى لتطويع عقول البشر وإخضاعهم لسيطرة القوى الكبرى على المستوى العالمى، من خلال التقدم التكنولوجى الهائل فى عصر المعلوماتية. فإنه من المفيد البحث فى تطور السلوك الانحرافى والجريمة فى مجال نظم المعلومات وجرائم الشبكة الدولية للاتصالات أو ما يعرف بجرائم الإنترنت.
تشير هدى صلاح(26) فى دراستها حول الجريمة فى مجال نظم المعلومات – إلى أن العالم يشهد أنماطاً جديدة من الجرائم، وقيماً انحرافية متعددة بسبب التقدم الهائل فى صناعة الإلكترونيات وما يحققه من تطور هائل فى تطبيقاتها العملية. فهناك من يقوم بسرقة المعلومات عن طريق الشبكات الاتصالية Distributed Computers Networks ، ومن يختلس الملفات والبرامج، ومن يدرس الأمراض والحشرات التى تهاجم الحاسبات وتصيبها بالعطل باختلاف درجاته. وتضيف الدراسة إلى أن هذه الأعمال ينخرط فيها عناصر شبابية تبحرت فى علوم الحاسب، وحاولت أن تثبت ذاتها فى هذا المجال. وهكذا يشهد العالم حوادث اقتحام الحاسبات وانتهاك أمن المعلومات Break in Data Security مما دعى إلى ضرورة الاهتمام بتطوير السياج الأمنى لنظم المعلومات. إن ما حدث فى التسعينيات اختلف عما كما يحدث فى منتصف الثمانينيات، فحتى منتصف الثمانينات انحصرت هذه الأحداث فى دائرة العاملين فى مجال الحاسبات، خصوصاً من لهم حق التعامل مع الملفات، ومن يعرفون الدودة worm والفيروس virus فهى عبارة عن شكل من أشكال البرمجة التى ترتب آثاراً – متفاوتة فى الدرجة – تؤدى إلى إصابة العمل بالعطل والشبكة بالتوقف. ومما يذكر أن الانتهاكات تعرضت لها شبكات الاتصال واستهدفت ملفاتها وبرامجها. إلا أنه مع انتشار صناعة الحاسبات الشخصية تزايد اهتمام الشباب باكتشاف الأساليب الفنية وتطوير التعامل معها بطرق غير مشروعة من بينها اختلاص المعلومات، - ونسخ البرامج والتلاعب فى الملفات والتى بدأت بانتهاكات فردية (سرقة برامج، كتب، مستندات، ملفات..) ثم تطورت حتى أصبحت ظاهرة عامة (تصميم الفيروسات لتصيب مكونات الشبكة، وسرقة أسرار الصناعة التكنولوجية لأجهزة من شركات)، الامر الذى لفت الانتباه إلى أهمية نظم الامان برغم تكلفتها المادية الكبيرة التى تشكل عبئاً على إدارات الحاسبات. وتشير الدراسات فى هذا المجال إلى أن هذه العمليات غير المشروعة، والتى انتشرت بسبب كثافة الاستخدام، أدت إلى إضعاف قبضة الأمن والمراقبة والتحكم وازدهار عمليات التجسس على المعلومات المتاحة إليكترونيا وسرقتها. مما يشكل تهديداً مستمراً لسائر المنظمات الحكومية والخاصة التى تعتمد أعمالها على الحاسبات والشبكات الاتصالية. وترتفع مخاطر إساءة استخدام الحاسبات والتلاعب فى البرامج وملفات المعلومات المخزنة آلياً، بقصد الحصول على أموال أو أصول أو خدمات غير مستحقة، وتهيئ نسخ البرامج وتداولها عن غير طريق منتجها الأصلى مجالاً واسعاً لدس الفيروسات المعلوماتية، التى لا تلبث أن تتفشى وتصيب الأنظمة والشبكات بأنواع ودرجات من العطب والضرر مختلفة.
هكذا جاء تقدم تقنيات الحاسبات والمعلومات، وتزايد الاعتماد عليها فى تسيير شئون المجتمعات، مصحوباً بفرص جيدة لارتكاب أشكال وصور مستحدثة من الجرائم الفنية Technocrimes، تحمل طابع هذه التقنيات، وتساير على الدوام تيار تقدمها، باعتمادها على الحاسب كأداة لارتكابها. وقيام فكرتها على الوصول غير المشروع إلى المعلومات المعالجة إليكترونياً وإساءة استخدامها.
وواقع الأمر أن زيادة نسبة الجرائم، وتنوع أساليبها، وتعدد اتجاهاتها، زاد من أخطارها على الأمن القومى للدول. حيث تحولت هذه الجرائم من مجرد انتهاكات فردية لأمن النظم والمعلومات إلى ظاهرة تقنية Technological Phenomenon عامة، ينخرط فيها الكثير مما تتوافر لديهم المهارة والمعرفة فى مجال الحاسبات. ولاشك أن تلك الأنواع من الجرائم تزداد على مستوى كافة الدول مما يستدعى التعامل معها من الناحيتين الفنية والقانونية.
والسؤال المطروح يتعلق بجرائم الانترنت باعتبارها نتاجاً للتطور التكنولوجى الحديث، وظهور وسائل جديدة للاتصال مجال الأقمار الصناعية وشبكة المعلومات الدولية، والجرائم التى ترتكب على شبكة الإنترنت بعضها تقليدى، والبعض الآخر مستحدث حيث تطورت أساليب ارتكابها فى المرحلة المعاصرة بصورة واضحة.
(6) الآثار السلبية لجرائم الانترنت
لا جدال فى أن التطور التقنى فى مجال الاتصالات والأقمار الصناعية كان له تأثيرات بالغة الأهمية على الشعوب، حيث اتسعت مساحة التعامل مع شبكات الاتصالات الدولية واستخدام الأقمار الصناعية، مما شكل أنواعاً جديدة من العلاقات بين البشر. فقد اختصر الزمان، وألغى المكان فى تداول المعلومات والبيانات، وكان للتعامل مع الإنترنت نتائج إيجابية بلا شك، إلا أن هناك نتائج أخرى سلبية ارتبطت بشكل التعامل مع الإنترنت. وفى هذا الصدد سنعرض لأنواع الجرائم التى ترتكب فى حق الإنسان فى تعامله مع الإنترنت. والجرائم نوعان، بعضها تقليدى وبعضها مستحدث(*)، وكل منهما له آثاره السلبية عندما أصبح سلوكاً مجرماً. لذلك سوف نوضح الآثار السلبية لما يسمى بجرائم الإنترنت التى تستدعى وعياً اجتماعياً وتدخلاً تشريعياً، للحد من تلك الجرائم التى ترتكب باسم الانترنت.
لقد أفرز التقدم التقنى والتطور العلمى فى مجال الاتصالات الوصول إلى وسائل أكثر سهولة فى تبادل المعلومات والبيانات فى مختلف المجالات. فمن خلال البريد الإلكترونى استطاع الباحثون تبادل أبحاثهم، بالإضافة إلى الإنترنت قدم خدمة تبادل الملفات بين المتعاملين على الشبكة، إلى جانب خدمة إدخال جميع الدساتير والتشريعات والقرارات الحكومية والوزارية.. إلا أن ذلك لا يمنع من الاستخدام السلبى للتعامل مع شبكة الإنترنت حيث تشير الدراسات إلى سلبيات نذكر منها:
1) نشر الصور الإباحية والمعلومات المشبوهة والأفلام المخلة بالآداب العامة.
2) انتهاك حقوق المؤلفين الأدبية وعمليات الإرهاب، وعمليات الابتزاز من قبل بعض العصابات ضد شركات، بإفشاء أسرارهم والتزوير والسطو على أموال البنوك والإعلانات الكاذبة.
ويمكن حصر الجرائم التى ترتكب على شبكة الإنترنت فى التالى :
أولاً : الجرائم التقليدية
1- جرائم أمن الدولة (الإرهاب – بث أفكار متطرفة سياسياً أو دينية أو عنصرية – ا�

المصدر: أ.د. أحمد مجدى حجازى المستشار الثقافى ومدير المركز الثقافى المصرى بالرباط (المغرب) ( 2005-01-06 )
nassirmoussi

نصير موسي

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 2115 مشاهدة
نشرت فى 9 مارس 2012 بواسطة nassirmoussi

ساحة النقاش

نصير موسي

nassirmoussi
نصـــير موســــي تكنولوجيا جديدة وانظمة المعلومات الوثائقية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

403,758