<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
الغيرة على المحارم والأعراض
الخطبة الأولى :
عباد الله : في منتصف شهر شوال من السنة الثانية للهجرة ، وبينما امرأة مسلمة ، تبيع جلباً لها بسوق بني قينقاع ( إحدى قبائل اليهود ) إذ ثارت ثائرة الحقد والضغينة في نفوس شرذمة من اليهود بالسوق ، فلما جلست إلى صائغ بالسوق جعل اليهود يراودونها على كشف وجهها ، فأبت الحرة وامتنعت ، فعمد أشقى أولئك القوم إلى طرف ثوبها ، فعقده إلى ظهرها وهي لم تشعر، فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها ، فصاحت بالمسلمين ، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله ، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ، فتطاير الخبر إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام ، فهب بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه فحاصروا أهل الغدر والخيانة ، حتى نزلوا على حكم المسلمين ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الشام وهلك أكثرهم فيها .
عباد الله : لقد انتصر محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه لتلك المرأة من أجل خلق عظيم ، وخصلة كريمة ، خصلة زالت وللأسف حقيقتها من بعض النفوس ، وتنكرت لها قلوبهم ، فلم يعدلها أثر بالكلية ، وإن وجد لها أثر عند بعضهم فهو أثر ضعيف لا قيمة له ، ولا يجاوز الفؤاد .
تلكم الصفة أيها المسلمون هي خلق الغيرة على المحارم والأعراض.
عباد الله : لئن أتت الجاهلية الحديثة - قبحها الله - بهدم صارخ للقيم ، وعداء سافر للفضائل ، ودعوة محمومة لنسيان الغيرة وجعلها من سقط المتاع ، فإن الجاهلية القديمة بالرغم مما فيها من كفر وضلال ، كانت في هذه الصفة أسعد حظاً ، وإلى الحق أكثر قرباً ، حيث جعلت للعرض مكانة عالية ، ومنزلة سامية يرخص في سبيلها كل غال ونفيس، ولقد كان من عادة العرب إذا وردوا الماء أن يتقدم الرجال والرعاة ثم النساء ، فيغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن ، آمنات ممن يؤذيهن ، فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل والمهانة، وقد اطلعت امرأة شريفةٌ على الخمر ثم سألت: هل تشرب هذا نساؤكم؟ قالوا: نعم. قالت: زَنًين ورب الكعبة .
لقد كان أهل الجاهلية لا يقبلون في مس العرض والقرب منه صرفا ولا عدلا، ومما يروى في ذلك أن أحدهم رأى رجلا ينظر إلى امرأته ، وقد لمس منها خيانة فطلقها وأخرجها من بيته ، غيره وحماية لعرضه ، فلما عوتب في ذلك، قال قولته المشهورة:
واترك حبها من غير بغض * وذاك لكثرة الشركاء فيه
إذا وقع الذباب على طعام * رفعت يدى ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء * إذا كان الكلاب ولغن فيه
أيها المسلمون : جاء الإسلام فحمد لأهل الجاهلية هذا الخلق الرفيع، وجعله شعبة من شعب الإيمان ، وخصلة من خصال الشرف والمروءة ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُؤْمِنُ يَغَارُ وَاللَّهُ أَشَدُّ غَيْرًا " رواه أحمد بإسناد صحيح . وكيف لا تكون الغيرة سمة للمؤمن ، والمولى سبحانه متصف بها ويحبها من عباده " إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ " رواه الترمذي وغيره بإسناد صحيح، يقول ابن القيم رحمه الله :" إذا ترحلت الغيرة من القلب ، ترحلت منه المحبة ، بل ترحل منه الدين كله " ا.هـ.
عباد الله : وكما كان رسول الله أشد الخلق غيرة كان أصحابه رضوان الله عليهم أشد الناس غيرة، ، فأضحت مواقفهم مضرب المثل ، لأنهم فهموا الغيرة فهماً واضحاً ، فحموها مما يكدرها ويضعفها أو يزيلها ، فاستفادت مجتمعاتهم ، وحسنت أحوالهم ، وساد الأمن والاستقرار ربوع بلادهم، روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوماً لأصحابه إن دخل أحدكم على أهله ، ووجد ما يريبه أشهد أربعا ، فقام سعد بن معاذ متأثراً فقال : يا رسول الله : أأدخل على أهلي فأجد ما يريبني انتظر حتى أشهد أربعا ؟ لا والذي بعثك بالحق ! إن رأيت ما يريبني في أهلي لأطيحن بالرأس عن الجسد، ولأضربن بالسيف غير مصفح، وليفعل الله بي بعد ذلك ما يشاء ؟ وفي رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم ؟ قالوا : يا رسول الله لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء ، ولا طلق امرأة له فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته .. فقال صلى الله عليه وسلم : أتعجبون من غيرة سعد والله أنا أغير منه ، والله أغير مني ، وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يروى عنه أنه لما رأى الأسواق يزدحم فيها الرجال والنساء قال غيرة على نساء المسلمين: ألا تستحيون ألا تغارون ؟ فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج ( أي الأجانب ) في الأسواق ، وقد سمعت عائشة رضي الله عنها؛ تقرأ قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33]، ثم تضع خمارها على وجهها وتبكي وتقول: (خان النساء العهد، خان النساء العهد).
عباد الله : إن الأسف كل الأسف ، والأسى كل الأسى أن نرى هذه الخصلة الكريمة ، قد بدأت تتناقص في نفوس بعض الخلق ، بسبب ماجلبته لنا مدينة هذا العصر من ذبح صارخ للأعراض ، ووأد كريه للغيرة ، فهذه أغان ساقطة ، وتلك أفلام آثمة ، وسهرات فاضحة ، فضلاً عن الملابس الخالعة ، والحركات الفاجرة ، والعبارات المثيرة ، التي تبثها وسائل الإعلام ما بين مسموع ومقروء ومشاهد .
أيها المسلمون: إن من يبصر ما وصل إليه حال بعض المسلمين والمسلمات من ضياع للحشمة والعفة ، وفقدان للغيرة والرجولة في الأسواق والطرقات ، والشواطئ والمنتجعات ، والمصائف والمنتزهات ، لا يملك إلا أن يرد الطرف خاسئاً وهو حسير ، فشباب المسلمين الذين تعقد عليهم الآمال أضحى بعضهم وللأسف محاكياً لعدوه في كل صغير وكبير، يلعق أحذيتهم ويحاكي لبسهم ويفعل بشعره فعلهم في لهاث دائم ونفسية مهزومة مهزوزة ، ولو اقتصر التقليد على اللباس والشعر والزي الظاهر لهان وما هو وربي بهين، ولكن فئاماً نراها تأخذ قذر الأعادي بعجره وبجره، بقضّه وقضيضه حتى أصبحنا نرى مناظر مزريةً وأخلاقاً مرذولةً تنم عن دياثة وبهيمية وموت في الغيرة، وتعجب كيف يحدث هذا ؟ ومن أين ؟ ومن أي مستنقع أخذ هؤلاء هذا العفن ؟.
واما النساء المسلمات وخروج فئام منهن سافرات متبرجات بأبهى زينة إلى الأسواق والمجمعات التجارية والأماكن العامة فحدث عن ذلك ولا حرج ، فلم يعد سراً تحدّث الناس عن فتيات وبنات مسلمات لوّثن المدارس وقصور الأفراح والتجمعات النسوية بملابس خليعة وعادات ذميمة وأخلاق وضيعة، فتيات مسلمات يقلدن الكافرات والضائعات، ويجعلن المومسات وعارضات الأزياء مراجع ومصادر في اللباس والزينة، فلا المرأة تعتصم بحجابها، ولا تعتز بدينها، ولا تحرص على عفتها وأخلاقها.
فيا أهل الغيرة وحماة الفضيلة: ما هذا الداء ؟ ومن أين وصل إلينا هذا البلاء ؟
كيف يستسيغ ذوو الشهامة من الرجال ، والعفة من النساء لأنفسهم ولأطفالهم لفتياتهم ولفتيانهم هذا الغثاء من ابتكارات البث المباشر ، وقنوات السوء ، وصفحات الإنترنت الموبوءة؟
أين ذهب الحياء ؟ وأين ضاعت المروءة ؟ أين الغيرة من بيوت هيأت لناشئتها أجواء الفتنة ، وجرتهم إلى مستنقعات التفسخ جراً ، جلبت لهم محرضات المنكرات ، تدفعهم إلى الإثم دفعا ، وتدعهم إلى الفحشاء دعا !
يا أهل الغيرة : كم خدشت من أعراض ، وكم هدمت من فضائل ، كم امتدت من أيد وأبصار ؟ كم تحدث الناس وتواطأ كلامهم على ذكر حوادث تستحي الألسنة من ذكرها ، وتستبشع الآذان سماعها ؟
يا أهل الغيرة : نحن المسؤولون عندما سمحنا للتيارات الفاسدة بالولوج إلى ديارنا، وعندما أعطى آباء وأولياء الأذن بإدخال وسائل الإفساد إلى منازلهم، فهل تتصورون عباد الله أن تلكم الفضائيات ومواقع الانترنت الموبوءة تربي جيلا وتحفظ خلقًا أو تحفظ دينا وتحمى عرضا ؟! كلا والله، ولا تغالطوا أنفسكم أو تخادعوا غيركم يا طلاب الرياضة وعشاق الأخبار ومتابعي التحليلات، فقد صنعت وسائل الإعلام والتقنية بشتى أنواعها بيوتكم، وربت لكم أبنائكم وبناتكم، فلماذا نستغرب حينئذ طيش الأبناء وتفلت البنات والركض وراء لبس عار أو قصة جديدة أو تضايق من الدين والأخلاق.
يا أيها المسلمون: ما حفِظ الغيرةَ من قرّب أسباب الانحراف للفتيان وللفتيات، وما صان الأمانة من كان سهل وسائل الانحراف للأبناء والبنات ، وإنه لجدير أن يبوء بمغبة قول النبي صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم وغيره: ((ما من راع يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة)) .
عباد الله :
إن الرجال الناظرين إلى النساء * مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها * أكلت بلا عوض ولا أثمان
اللهم جنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن أقول ما تسمعون واستغفر الله .
الخطبة الثانية :
عباد الله : إن الغيرة نوعان: غيرة محمودة، وهي المعتدلة الشرعية التي تجعل صاحبها يحمي المحارم والشرف والعفاف من كل مجرم وغادر، والنوع الثاني: غيرة مذمومة، وهي أن يشك الرجل في أهله ويتجسس عليهم ويظن بهم السوء وهم بعيدون عنه كل البعد، وكم تفككت من بيوت وانهارت من اسر بسبب هذا الظن السيئ من غير دليل ولا بيان، وهذه الغيرة يبغضها الله تعالى، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَتِيكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إنَّ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ ، وَمِنْ الْغَيْرَةِ مَا يَبْغُضُ اللَّهُ ، وَإِنَّ مِنْ الْخُيَلَاءِ مَا يُحِبُّ اللَّهُ، وَمِنْهَا مَا يَبْغُضُ اللَّهُ فَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُحِبُّهَا اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي الرِّيبَةِ وَأَمَّا الْغَيْرَةُ الَّتِي يُبْغِضُ اللَّهُ فَالْغَيْرَةُ فِي غَيْرِ الرِّيبَةِ ، رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَقَدْ صَحَّحَ الْحَدِيثَ الْحَاكِمُ وغيره .
أيها المسلمون :إن كريم العرض يبذل الغالي والنفيس عن شرفه ، يصون عرضه بماله لا يدنسه ، فإذا ذهب العرض فلا بورك في المال الذي لا يصون العرض، وإن المؤمن يحمي عرضه بدمائه ، ويرخص نفسه في سبيل الدفاع عن شرفه ، ومن فعل ذلك فمات بسببه فهو ممن بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالشهادة ، قال صلى الله عليه وسلم : " من قتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد " رواه أصحاب السنن .
أيها المسلمون : إن خلق الغيرة ليس شيئاً يكتسب بالقراءة والكتابة، ولا بالموعظة والخطابة، ولكن الغيرة منزلة لا تنال – بعد توفيق الله ورحمته – إلا بالتربية والتهذيب والصرامة والحزم وقوة الإرادة والعزم, إنها لا تنال إلا في ظل الحياة الطيبة حياة المحافظة والفطرة السليمة التي لم تتعرض لعواصف التغيير والإفساد. ألا فاتقوا الله عباد الله ، واعلموا أن الحمو الموت، واحذروا السائق والخادم وصديق العائلة وكل غريب عن الدار، ناهيك بالطبيب المريب والممرض المريض، ولا تنسوا تحذير محارمكم من الخلوة بالباعة أو المدرسين في المنازل، حذار ثم حذار أن يظهر هؤلاء وأشباههم على عورات النساء، فذلكم طريق يتسع فيه الخرق على الراقع وتصبح فيه الديار من الأخلاق بلاقع.
ثم صلوا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه .
ساحة النقاش