<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
مع الفاروق في خلافته2
الخطبة الأولى
عباد الله، إن لهذه الأمة سلفًا، هم أبر الناس قلوبًا، وأحسنهم إيمانًا، وأقلّهم تكلفًا، سيرة كل عظيم منهم عظة وعبرة، وفي اقتفاء أثر أحدهم هداية، وفي الحياد عن طريقهم غواية. وإننا اليوم على موعد مع واحدٍ من هؤلاء العظماء، مع علَم من أعلام هذه الأمة، ورجلٍ من خِيرة رجالاتها، صائم إذا ذكر الصّائمون، وقائم إذا ذكِر القائمون، وبطَل مِغوار إذا ذكِر المجاهدون. إذا ذكر الخوف فله خطّان أسودان من البكاء، وإذا ذكر الزّهد والإيثار فلم يكن يأكل حتى يشبَع المسلمون، وإذا ذكِرت الشدّة في الحق فهو الذي كان إبليس يفرق من ظلّه، والشياطين تسلُك فجًّا غيرَ فجِّه.
أحسبكم قد عرفتموه، إنه أبو حفص، الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه وجمعني وإياكم في زمرته.
عباد الله: جمعت للفاروق الدنيا فأعرض عنها وزهد فيها، حتى قال معاوية رضي الله عنه: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يرِدها، روِي عنه رضي الله عنه أنّه كان يقسِم شيئا من بيت المال فدخَلت ابنةٌ له صغيرة فأخذت دِرهما، فنهض في طلبها حتى سقطت مِلحفته عن منكبَيه، ودخلت الصّبيّة إلى بيت أهلها تبكي، وجعلت الدرهم في فمها، فأدخل عمر أصبعه في فمها فأخرج الدرهم وطرحه مع مال المسلمين.
وجيء له رضي الله عنه ذات يوم بمال كثير من العراق فقيل له: أدخِله بيت المال، فقال: لا وربّ الكعبة، لا يُرى تحت سقفه حتى أقسمه بين المسلمين، فجعل بالمسجد وحرسه رجال من المهاجرين والأنصار، فلما أصبح نظر إلى الذهب والفضة والياقوت والزبرجد والدرّ يتلألأ فبكى، فقال له العباس: يا أمير المؤمنين، ما هذا بيوم بكاء، ولكنه يوم بشرى، فقال: والله، ما ذهبتُ حيث ذهبتَ، ولكنه ما كثر هذا في قوم قطّ إلا وقع بأسهم بينهم، ثم أقبل على القبلة فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرَجا، فإني أسمعك تقول: سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [القلم:44].
أيها المسلمون: كان عمر رضي الله عنه يمنع من استعمال الكفار في أمور الأمة أو إعزازهم بعد أن أذلهم الله، قال أبو موسى الأشعري: قلت لعمر رضي الله عنه: إن لي كاتبًا نصرانيًا، فقال: أما سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض [المائدة:51]؟! ألا اتخذت حنيفًا ـ يعني مسلمًا ـ؟! قال: قلت: يا أمير المؤمنين، لي كتابته وله دينه، قال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله.
وكتب إليه خالد بن الوليد يقول: إن بالشام كاتبًا نصرانيًا لا يقوّم خراج الشام إلا به، فكتب إليه عمر: لا تستعمله، فكتب خالد إلى عمر: إنه لا غنى بنا عنه، فرد عليه: لا تستعمله، فكتب خالد: إذا لم نستعمله ضاع المال، فكتب إليه عمر: مات النصراني والسلام.
لقد كانت هذه السياسة العمرية الحكيمة من منع تولي غير المسلمين لأمور المسلمين ، أو جعلهم مستشارين ، أو حتى كتبة ، مستوحاة من سياسة النبي صلى الله عليه وسلم ، عندما لحقه مشرك ليقاتل معه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لا استعين بمشرك)).
عباد الله : إن من صفات عمر النادرة قبوله النصيحة، ورضاه بها على أي وجه كانت، ومن أي شخص صدرت، بل كان يأمر الناس بها ويحثهم عليها، قال له رجل: اتق الله ياعمر – وأكثر عليه – فقال له قائل: اسكت، فقد أكثرت على أمير المؤمنين، فقال له عمر: دعه، لا خير فيهم إن لم يقولوها لنا، ولا خير فينا إن لم نقبل .
وقال حذيفة: دخلت على عمر فرأيته مهوماً حزيناً، فقلت له: ما يهمك يا أمير المؤمنين؟
فقال: إني أخاف أن أقع في منكر فلا ينهاني أحد منكم، تعظيماً لي، فقال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك، ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقومونني إذا اعوججت.
انظروا رعاكم الله إلى فهم الراعي والرعية، فالصحابة ر ضوان الله عليهم لم يتخلوا عن نصح الخليفة مع فضله ومكانته، والخليفة يطلب النصيحة ويأمر بها، لأنه علم أن الله استرعاه أمانة، وأنه سائله عنها ، وعلم رضي الله عنه أن الناصح هو المحب، وأن الصادق هو من صدق لا من مدح وصدق.
أيها المسلمون: كان عمر الفاروق رضي الله عنه، يقضي بالحق على نفسه وأهله وعشيرته، ويسوّي بين الناس، ولا يحابِي ولا يجامِل، وكان إذا نهى عن شيء جمع أهله وأقاربه وقال لهم: إني نهيت الناس عن كذا وكذا وإنهم لينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم، ولا أجد أحدًا منكم فعل ما نهيت عنه إلا أضعفت عليه العقوبة.
خرج رضي الله عنه ذات مرة إلى السوق فرأى إبلاً سمانًا تميزت عن الإبل، فسأل: إبل من هذه؟ فقالوا: إبل عبد الله بن عمر، فغضب وأرسل في طلبه، وسأله عن الإبل فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: إنها إبل هزيلة اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى الحِمى لأرعاها، فقال له عمر: ويقول الناس حين يرونها: ارعوا إبل أمير المؤمنين واسقوها، وهكذا تسمن إبلك ويربو ربحك يا ابن أمير المؤمنين، يا عبد الله خذ رأس مالك الذي دفعته في هذه الإبل، واجعل الربحَ في بيت مال المسلمين، وثبت في الصحيحين أنه أعطى المهاجرين الأوائل أربعة آلاف درهم، وأعطى ابنه عبد الله ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: إنه كان من المهاجرين الأوائل، فقال: إنما هاجر به أبوه،
هذا هو عدل عمر وهذه سيرته ، القرابة عنده لا تعني المحاباة وإلغاء القوانين وأكل أموال الناس، بل القرابة عند أمير المؤمنين تعني المسؤولية والبعد عن كل شبهة ومطالبة ذويه أن يكونوا عونًا على الحق والعدل.
عباد الله : تعالوا لنتأمل في إدارة الفاروق رضي الله عنه لحالة مشابهة لما نعاني منه نحن في هذه الأزمان من غلاء وفحش في الأسعار والأثمان ، في السنة الثامنة عشرة من الهجرة دخل ما يسمى بعام الرمادة وهو العام الذي حصل فيه قحط وجوع شديد قضى على الأخضر واليابس، ومات الناس منه جوعًا، فحرم عمر على نفسه طيِّب الطعام وقال : كيف يعنيني شان الرعية إذا لم يصبني ما أصابهم ، وحلف رضي الله عنه أن لا يأكل سمينًا حتى يرفع الله الضائقة عن المسلمين، وضرب لنفسه خيمة مع المسلمين حتى يباشر توزيع الطعام على الناس، ولقد كان رضي الله عنه يمضي إلى الجماعة من الناس وبيده الزيت وما تيسر من الطعام فيطرح ردائه، ويطبخ لهم ويطعمهم، وكان يبكي ويقول: آه يا عمر، كم قتلت من نفس؟ وذات يوم وقف على المنبر ببُرْده المرقّع، وأثناء الخطبة قرقر بطنه، وهو يقول لبطنه: (قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين).
جاء عن يحيى بن سعد أنه قال: اشترت امرأة عمر لعمر فرقاً من سمن، فقال عمر: ما هذا؟ قالت: هو من مالي ليس من نفقتك، فقال عمر رضي الله عنه: ما أنا بذائقه حتى يحيى الناس.
ولم يزل به الهمّ رضي الله عنه حتى تغيّر لونه وهزل و كان لا ينام الليل إلا قليلا، قال أسلم: كنا نقول لو لم يرفع الله سبحانه وتعالى الضائقة عام الرمادة، لظننا أن عمر يموت هماً بأمر المسلمين، وعن طاووس عن أبيه قال: أجدب الناس على عهد عمر، فما أكل سمناً ولا دسماً حتى أكل الناس، ولقد جاءته يومًا قافلة من مصر تحمل اللحم والسّمنَ والطعام والكِساء، فوزّعها على الناس بنفسه وأبى أن يأكل شيئا، وقال لقائد القافل:ة ستأكل معي في البيت، ومنَّى الرجل نفسَه وهو يظنّ أن طعام أمير المؤمنين خير من طعام الناس. وجاء عمر والرجل إلى البيت جائعَين بعد التّعب، ونادى عمر بالطعام فإذا هو خبز مكسّر يابس مع صحنٍ من الزيت، فاندهش الرجل وتعجّب، وقال: لِمَ منعتني من أن آكل مع الناسِ لحمًا وسمنا؟! فقال عمر: ما أطعمك إلا ما أطعم نفسي، فقال الرجل: وما يمنعك أن تأكل كما يأكل الناس وقد وزّعتَ اللحم والطعامَ عليهم؟! قال عمر: لقد آليتُ على نفسي أن لا أذوقَ السمن واللحم حتى يشبعَ منهما المسلمون جميعا.
عباد الله: كان عمر يحاسب نفسه، حتى الخطرات يخشى أن تغلبه في لحظة من لحظات الضعف فينساق لها، جمع الناس يوماً في المسجد، واعتلى المنبر فقال: كنت أرعى إبل الخطاب في شعاب مكة، ومعها إبل لخالتي وكنت ألبس الصوف (الخشن) من الملابس، وكان الخطاب يرهقني (ضرباً ومساءلة) ثم نزل عن المنبر فاقترب منه ابنه عبدالله وقال : ما هذا يا أمير المؤمنين!؟والله ما زدت أن حقرت نفسك فنظر عمر إليه وقال دعني يا عبد الله رأيتُ نفسي ليس بينها وبين الله أحد فأحببت أن أحقرها وانصرف .
عباد الله: هكذا كانت سيرة الخلفاء في صدر هذه الأمة حين كانت الرعية قائمة بأمر الله، خائفة من عقابه، راجية لثوابه، فلما بدلت الرعية وغيرت وظلمت نفسها، تبدلت أحوال الرعاة، وكما تكونوا يولى عليكم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
الخطبة الثانية:
عباد الله: إن الحديث عن سيرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سطروه من عظمة واجب في هذا العصر الذي نعيش فيه اضطراب الموازين ومولاة الكفار والوقوع في الدين وحملته من قبل أهل البدع والرفض والفجار، وإن ذكر الصحابة ونشر سيرهم واجب لردع أهل الهوى من الزنادقة وأهل الكفر والابتداع الذين انتقصوا وسبّوا خيَر جيل وجِد على الأرض، لا لشيء إلا لأنهم حملة الإسلام ورواة الأحاديث التي تهدم بدعهم وتظهر ضلالاتهم، فرضي الله عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرضاهم، وسلط العذاب على من أبغضهم وعاداهم.
أيها المسلمون: إن أمر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها، وإن دراسة السير والتاريخ لسلفنا الصالح، أمر في غاية الأهمية لنقدم رجالاته ونساءه للجيل الناشئ وللأمة كلها لتعلم تاريخها، وتعرف من هم آباؤها وأجدادها، وعلى أكتاف من قام تاريخها ومجدها.
ما أحوجنا إلى أمثال هذه القدوات في زمن قلت فيه القدوات التي تحتذى، ولمَّعت وللأسف أبواق الشرّ أعدادًا من المغنين والمغنيات والتافهين والتافهات، ليكونوا قدوات للشباب الصاعد والجيل الواعد.
عباد الله : صلوا على البشير النذير ...
ساحة النقاش