<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

حرم مشركو مكة الخير كله منذ جحدوا الرسالة، وقعدوا بكل صراط يوعدون، ويصدون عن سبيل الله من آمن به، ويبغونها عوجا.

ولئن نجحت دعايتهم الكاذبة في منع قبائل كثيرة من دخول الإسلام، فإن الحق لابدّ أن يعلو، وأن يثوب إليه المضلَّلون والمخدوعون على شرط أن يظل أهله أوفياء له، حراصاً عليه، صابرين محتسبين.

وقد قيض الله للإسلام من استنقذه من البيئة التي صادرته، فأنس بعد وحشة، واستوطن بعد غربة، وشق طريقه في الحياة، بعد أن زالت الجلامد الصلدة الملقاة في مجراه.

وبدأ هذا التحول على أيدي الوفود القادمة من "يثرب" إلى مكة في موسم الحج..

كان أهل يثرب يمتازون عن سائر العرب بجوارهم لليهود، وإلفهم عقيدة التوحيد. وربما حاورهم اليهود في شؤون الأديان، ونَعوا عليهم عبادة الأوثان فإذا اشتد الجدل وطالت اللجاجة قال لهم اليهود: يوشك أن يبعث الله نبياً فنتبعه؛ ونقتلكم معه قتل عاد وإرم...!!

والغريب أن اليهود كانوا أول من كفر بهذا النبي يوم ظهر فيهم واقترب منهم، ولذلك ندَّد القرآن بمسلكهم المتناقض:

{وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}.

أما العرب الأميون الذين هُدِّدوا بمبعثه، فقد فتحوا مسامعهم له!

فعندما وافى الموسم وقدمت قبائل "يثرب" ورأوا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو الناس إلى الله، قال بعضهم لبعض: تعلمون والله يا قوم أن هذا الذي تَوَعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه..

وأخذ ذكر الإسلام يشيع في المدينة رويداً رويداً؛ فإن لم يستقبل بترحيب لم يستقبل بالسباب والحراب.

إن عناصر النفور والمقاومة التي عهدها في "مكة" تحولت -هنا- إلى عناصر احترام وإقبال، ولم تمض ثلاثة أعوام على تسامع الأنصار الجدد بالإسلام حتى أصبحوا كهفه الحصين، وموئله القريب..

2.4 فروق بين البلدين مكة والمدينة من الناحية الاقتصادية:

عاشت مكة في بحبوحة من الحياة أمداً طويلاً، آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان، وترجع هذه السعة إلى عاملين: 1-مهارة أهلها التجارية 2-ومكانة الحرم الدينية، كلا الأمرين أدرَّ عليها أخلاف الخير، فأثرت حتى بطرت، وشبعت حتى أتخمت. ثم عراها ما يعرو كل جماعة تواتيها الحظوظ ويصبغها الترف، من: تكبر، وقسوة، وجحود، فلما ظهر فيها الإسلام، ودعا محمد (صلَّى الله عليه وسلم) إلى الحق، ردت يده في فمه، وأحدقت به وبمن معه، وملكها العناد من أول يوم، وأعلنت أن مركزها -عاصمة للوثنية، ومجمعاً للأصنام. ومثابة للحجيج- سيزول إن هي استمعت إلى هذا الدين، وأمكنته من البقاء.

وحاول الرسول عليه الصلاة والسلام -جاهداً- أن يقنع أهل مكة بأن قبولهم للحق لن يحرمهم ذرة من الخير الذي متعوا به، فأبى الظالمون إلا كفوراً.

{وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}.

ومن هنا اشتبك سادة مكة في حرب مع الإسلام، اعتبروها دفاعاً عن كيانهم المادي ووضعهم الإقتصادي، إلى جانب ما هنالك من عوامل أخرى. وهذه الحروب معروفة النتائج:

{وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ}.

أما الأمر في "يثرب" فكان على النقيض، إن الشحناء المتأصلة بين أهليها استنزفت دماءهم، وقطعت شملهم، وشغلت بعضهم بالبعض، حتى أوصلتهم الحروب الدائمة إلى درك أسف له العقلاء، وتمنّوا الإنقاذ منه. كان "الأوس" و"الخزرج" -وهم في الأصل قرابة واحدة- يعانون في "يثرب" آثار هذا الخصام العنيف، ويورثونه أبناءهم؛ حتى يشبوا -وهم في مهادهم- أعداء! والذي وضع جرثومة هذا الشقاق هم اليهود.

3.4 صنع اليهود في المدينة وفتنهم فيها:

واليهود الذين استقروا في المدينة وأرباضها هبطوا صحراء الجزيرة فارين بدينهم من الاضطهاد الصليبي الذي عمل -من قديم- على تنصيرهم أو إفنائهم، ذلك لأن رأي اليهود في عيسى وأمه شنيع.

والنصارى يعتقدون أن اليهود هم قتلة عيسى، والموعزون بصلبه!!.

ولا شك أن اليهود شعب نشيط، وأنهم -حيث حلّوا- يبذلون جهوداً مذكورة للسيطرة على زمام التوجيه المالي، ولا يبالون بأساليب الختل والمكر لبلوغ أهدافهم، وقد ألْفَوا أنفسهم قلة بين أصحاب البلاد، وخشوا أن يفنوا إذا اشتبكوا معهم في صراع سافر. فاحتالوا حتى زرعوا الضغائن بين الأقرباء، وما زالوا بها حتى آتت ثمرها المر ، فأخذ العرب يأكل بعضهم بعضاً في سلسلة متصلة من المعارك التي لا مبرر لها، على حين قوي اليهود وتكاثروا، ونمت ثرواتهم، واستحكمت حصونهم، وخيف سطوهم.

وقبل الهجرة ببضع سنين وقعت بين الأوس والخزرج معركة "بُعاث" كان النصر فيها للخزرج ثم عاد للأوس، وبلغ من حدة الخصام بين الفريقين أن كليهما فكر في استئصال الآخر وإبادة خضرائه، لولا أن تدخل أولو النهى بالنصح أن يبقوا على أنفسهم وإخوانهم، فجوارهم أفضل من جوار الثعالب -يعني اليهود-!.

وهذه الفتن المتلاحقة جعلت أهل المدينة عندما ترامت إليهم أنباء الإسلام يؤملون من ورائه الخير. من يدري؟ لعله يجدد حياتهم فيعيد السلام إلى صفوفهم ويهب لهم حياة روحية ترجح بكفتهم على اليهود...

قال ابن إسحاق: فلما أراد الله إظهار دينه، وإعزاز نبيه، وإنجاز موعده له خرج رسول الله في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار، فعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم، فبينما هو عند العقبة لقي رهطاً من الخزرج أراد الله بهم خيراً، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) قال لهم: من أنتم؟ قالوا: نفر من الخزرج . قال: من موالي يهود؟ قالوا نعم. قال: أفلا تجلسون أكلمكم؟ قالوا: بلى ! فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن...

قال: فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك. فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك فلا رجل أعز منك!!ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدقوا.

كان أولئك النفر، طليعة الدعاية الموفقة للإسلام في يثرب، وقد أثمرت جهودهم على عجل، فلم تبق دار إلاَّ دخلها الإسلام.

حتى إذا استدار العام، وأقبل موسم الحج، خرج من المدينة اثنا عشر رجلاً من الذين أسلموا -فيهم الستة الذين كلمهم النبي (صلَّى الله عليه وسلم) في الموسم السابق- وعزموا على الاجتماع برسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ليوثقوا معه إسلامهم.

4.4 بيعة العقبة الأولى بين رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ونفر من مسلمي المدينة:

وقد لقيهم النبي بالعقبة، وعقد معهم بيعة على الإيمان بالله وحده، والاستمساك بفضائل الأعمال والبعد عن مناكرها.

عن عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله ليلة العقبة الأولى "أن لا نشرك بالله شيئاً، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف".

قال: "فإن وفيتم فلكم الجنة وإن غشيتم من ذلك شيئاً فأخذتم بحده في الدنيا فهو كفارة له. وإن سترتم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله. إن شاء عذب، وإن شاء غفر".

هذا ما كان محمد (صلَّى الله عليه وسلم) يدعو إليه، وكانت الجاهلية تنكره عليه.

أيكره هذه العهود إلا مجرم يحب للناس الريبة ويود للأرض الفساد؟؟

أتم وفد الأنصار هذه البيعة ثم قفل عائداً إلى "يثرب"، فرأى النبي أن يبعث معهم أحد الثقات من رجاله، ليتعهد نماء الإسلام في المدينة ، ويقرأ على أهلها القرآن، ويفقههم في الدين، ووقع اختياره على "مصعب بن عمير" ليكون هذا المعلِّم الأمين.

ونجح "مصعب" أيّما نجاح في نشر الإسلام وجمع الناس عليه، واستطاع أن يتخطى الصعاب التي توجد -دائماً- في طريق كل نازح غريب، يحاول أن ينقل الناس من موروثات ألفوها إلى نظام جديد، يشمل الحاضر والمستقبل، ويعم الإيمان والعمل، والخلق والسلوك...

ولا تحسبنَّ "مصعباً" كأولئك المرتزقة من المبشرين الذين دسهم الإستعمار الغربي بين يدي زحفه على الشرق، فترى الواحد منهم يقبع تحت سرير مريض ليقول له: هذه القارورة تقدمها لك العذراء! وهذا الرغيف يهديه إليك المسيح!

وربما فتح مدرسة ظاهرها الثقافة المجردة، أو ملجأ ظاهره البر الخالص، ثم لوى زمام الناشئة من حيث لا يدرون، ومال بهم حيث يريد...!!

هذا ضرب من التلصص الروحي يتوارى تحت اسم الدعوة إلى الدين. والذين يمثلون هذه المساخر يجدون الجرأة على عملهم من الدول التي تبعث بهم، فإذا رأيت إصرارهم ومغامراتهم فلا تنس القوى التي تساند ظهورهم في البر والبحر والجو.

أما مصعب فكان من ورائه نبيٌّ مضطهد ورسالة معتبرة ضد القانون السائد، وما كان يملك من وسائل الإغراء ما يطمع طلاب الدنيا ونهازي الفرص، كل ما لديه ثروة من الكياسة والفطنة، قبسها من محمد (صلَّى الله عليه وسلم)، وإخلاص لله، جعله يضحي بمال أسرته وجاهها في سبيل عقيدته.. ثم هذا القرآن الذي يتأنق في تلاوته، ويتخير من روائعه ما يغزو به الألباب، فإذا الأفئدة ترق له، وتتفتح للدين الجديد.

وعاد "مصعب" إلى رسول الله بمكة قبيل الموسم الحافل، يخبره بما لقي الإسلام من قبول حسن في "يثرب"، ويبشره بأن جموعاً غفيرة دخلت فيه عن اقتناع مسَّ شغافهم، وبصر أنار أفكارهم، وسوف يرى من وفودهم بهذا الموسم ما تقر به العين.

5.4 بيعة العقبة الكبرى بين محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ورجال من الأنصار:

إن الرجال الذين اعتنقوا الإسلام عرفوا-دون شك-تاريخه القريب، والصعاب الهائلة التي لقيها، وحز في نفوسهم أن يستضعف إخوانهم في مكة وأن يخرج نبيهم وهو يدعو إلى الله فلا يجيبه إلا آثم أو كفور!.

ولذلك تساءلوا -وهم خارجون من المدينة قاصدين البيت العتيق- حتى متى نترك رسول الله يطوّف ويطرد في جبال مكة ويَخاف؟

لقد بلغ الإيمان أوْجهُ في هذه القلوب الفتية، وآن لها أن تنفِّس عن حماسها، وأن تفك هذا الحصار الخانق المضروب حول الدعوة والداعية.

قال جابر بن عبدالله: فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال (صلَّى الله عليه وسلم) تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقوموا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني -إذا قدمت عليكم- مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة.

فقمنا إليه، وأخذ بيده "أسعد بن زرارة" -وهو أصغر السبعين بعدي، فقال رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مناوأة للعرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف.

فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله!

فقالوا يا "أسعد" أمِطْ عنا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة ولا نستقيلها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً فبايعناه.

وعن كعب بن مالك: نمنا تلك الليلة -ليلة العقبة - مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ، ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب وأسماء بنت عمرو بن عدي.

فلما اجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، جاءنا ومعه العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه ويستوثق له، فلما جلس كان أول متكلم، قال: يا معشر الخزرج إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عزة من قومه ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما تحملتم من ذلك!! وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم، فمن الآن فدعوه فإنه في عزة ومنعة من قومه وبلده...

قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت فتكلم يا رسول الله، فخذ لنفسك وربك ما أحببت، فتكلم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، فتلا القرآن، ودعا إلى الله، ورغَّب في الإسلام، ثم قال: أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.

قال كعب: فأخذ البراء بن معرور بيده وقال: نعم، فوالذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن -والله- أبناء الحروب، ورثناها كابراً عن كابر، فاعترض هذا القول -والبراء يكلم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال -يعني اليهود- حبالاً وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا قال: فتبسم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)، ثم قال: بل الدم الدم والهدم الهدم، أنا منكم وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم...

وأمرهم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يخرجوا منهم اثني عشر نقيباً يكونون على قومهم بما فيهم، فأخرجوا منهم النقباء، تسعة من (الخزرج) وثلاثة من (الأوس)، فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم وأنا كفيل على قومي.

تلكم بيعة العقبة، وما أبرم فيها من مواثيق، وما دار فيها من محاورات...

إن روح اليقين والفداء والاستبسال سادت هذا الجمع وتمشت في كل كلمة قيلت، وبدا أن العواطف الفائرة ليست وحدها التي توجه الحديث أو تملي العهود كلا، فإن حساب المستقبل روجع مع حساب اليوم، والمغارم المتوقعة نظر إليها قبل المغانم الموهومة.

مغانم؟ أين موضوع المغانم في هذه البيعة؟ لقد قام الأمر كله على التجرد المحض والبذل الخالص.

هؤلاء السبعون مُثُلٌ لانتشار الإسلام، عن طريق الفكر الحر والاقتناع الخالص...

فقد جاءوا من "يثرب" مؤمنين أشد الإيمان، وملبين داعي التضحية، مع أن معرفتهم بالنبي كانت لمحة عابرة؛ غبرت عليها الأيام؛ وكان الظن بها أن تزول.

لكننا لا يجوز أن ننسى مصدر هذه الطاقة المتأججة من الشجاعة والثقة؛ إنه القرآن!! لئن كان الأنصار قبل بيعتهم الكبرى لم يصحبوا الرسول إلا لماماً فإن الوحي المشع من السماء أضاء لهم الطريق، وأوضح الغاية..

لقد نزل بمكة قريب من نصف القرآن، سال على ألسنة الحفاظ وتداولته صحائف السفرة الكرام البررة، والقرآن النازل بمكة صوَّر جزاء الآخرة رأي العين، فأنت توشك أن تمد يدك تقطف من أثمار الجنة، ويستطيع الأعرابي المتعشق للحق أن ينتقل في لحظة فداء من رمضاء الجزيرة إلى أنهار النعيم والرحيق المختوم!

وحكى القرآن أخبار الأولين وكيف أخلص المؤمنين لله فنجوا مع رسلهم، وكيف طغى الكفار وأسكرهم الإمهال فتعنتوا وتجبروا، ثم حل العدل الإلهي، فذهب الظالمون بدداً، وتركوا وراءهم دنيا مدبرة، ودوراً خربة.

فأدبروا ووجوه الأرض تلعنهم كباطل من جلال الحق منهزم...!!

ثم إن الرسول جعل من هذا الإيمان بالحق رباطاً يعقد من تلقاء نفسه صلة الحب والتناصر بين أشتات المؤمنين في المشرق والمغرب.

فالمسلم في المدينة -وإن لم يرَ أخاه المستضعف في مكة - يحنو عليه، ويتعصب له، ويغضب من ظالمه، ويقاتل دونه، وذلك ما استقدم الأنصار من يثرب تجيش في حناياهم مشاعر الولاء لمن أحبوهم بالغيب في ذات الله.

عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله قال: يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عباداً ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله. فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي (صلَّى الله عليه وسلم)، فقال يا رسول الله: ناس من الناس ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم من الله!! انعتهم لنا، حلِّهم لنا -يعني صفهم لنا- فسر وجه النبي بسؤال الأعرابي وقال: هم ناس من أفناء الناس، ونوازع القبائل، لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسون عليها، فيجعل وجوههم نوراً، وثيابهم نوراً، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون، وهم أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

الإيمان بالله، والحب فيه، والأخوة في دينه، والتناصر باسمه، ذلك كله كان يتدافع في النفوس المجتمعة في ظلام الليل بجوار مكة السادرة في غيها، يتدافع ليعلن أن أنصار الله سوف يحمون رسوله كما يحمون أعراضهم، وسوف يمنعونه بأرواحهم فلا يخلص إليه أذى وهم أحياء.

إن مشركي مكة حسبوا أنهم حصروا الإسلام في نطاق لا يعدوه، وأرهقوا المسلمين حتى شغلوهم بأنفسهم، فناموا نومة المجرم الذي اغترف الإثم وأمن القصاص.

حسنّت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر

وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر

أجل، ففي هذه الليلة تحالف جند الحق أن يقصموا ظهر الوثنية، وأن ينتهوا بالجاهلية ورجالها إلى الفناء.

واستمع شيطان من المشركين كان يجول في مضارب الخيام ومنازل الحجيج إلى الضجة المنبعثة قريباً من العقبة ، واستطاع أن يقف على جلية الخبر، فصرخ ينذر أهل مكة : "إن محمداً والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.."!!

وكان صوته جهيراً يوقظ النيام.

وشعر المبايعون كأن ائتمارهم بالمشركين قد انكشف، فلم يكترثوا للنتائج.

وقال "ابن عبادة": يا رسول الله والذي بعثك بالحق إن شئت لنميلنَّ على أهل "منى" غداً بأسيافنا، فقال رسول الله: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم.

قال كعب: فلما أصبحنا غدت علينا جلّة قريش حتى جاؤونا في منازلنا فقالوا: يا معشر الخزرج، إنه قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا هذا تستخرجونه من بين أظهرنا، وتبايعونه على حربنا، وإنه -والله- ما من حي من العرب أبغض أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قومنا يحلفون، ما كان من هذا شيء وما علمناه، وصَدَقوا لم يعلموا. قال كعب وبعضنا ينظر إلى بعض.

بيد أن القرائن تجمعت على أن ما قيل حق، فخرجت قريش تطلب الأنصار ففاتوهم، ولم يدركوا غير سعد بن عبادة.

فعادوا به مغلولة يداه إلى عنقه، وأخذوا يجذبونه من شعره ويلكزونه، فأنقذه منهم جبير بن مطعم، والحارث بن حرب، إذ كان "سعد" يجير لهما قوافلهما المارة بالمدينة.

6.4 طلائع هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة:

إن نجاح الإسلام في تأسيس وطن له، وسط صحراء تموج بالكفر والجهالة هو أخطر كسب حصل عليه منذ بدأت الدعوة له، وقد تنادى المسلمون من كل مكان: هلمّوا إلى يثرب.. فلم تكن الهجرة تخلصاً فقط من الفتنة والاستهزاء، بل كانت تعاوناً عاماً على إقامة مجتمع جديد في بلد آمن.

وأصبح فرضاً على كل مسلم قادر أن يسهم في بناء هذا الوطن الجديد، وأن يبذل جهده في تحصينه ورفع شأنه، وأصبح ترك المدينة -بعد الهجرة إليها- نكوصاً عن تكاليف الحق، وعن نصر الله ورسوله، فالحياة بها دين لأن قيام الدين يعتمد على إعزازها.

وفي عصرنا هذا أعجب اليهود بأنفسهم، وعانق بعضهم بعضاً مهنئاً لأنهم استطاعوا تأسيس وطن قومي لهم، بعد أن عاشوا -مشردين- قروناً طوالا.

ونحن لا ننكر جهد اليهود في إقامة هذا الوطن، ولا حماس المهاجرين من كل فج للعيش به، ومحاولة إحيائه وإعلائه.

ولكن ما أبعد البون بين ما صنع اليهود اليوم -أو بتعبير أدق، ما صُنع لليهود اليوم- وبين ما صنع الإسلام وبنوه لأنفسهم، يوم هاجروا إلى يثرب نجاة بدعوتهم، وإقامة لدولتهم.

إن اليهود جاؤوا على حين فرقة من العرب وغفلة وضعف، وحاكوا مؤامراتهم في ميدان السياسة الغربية الناقمة على الإسلام وأهله. فإذا بالعالم كله يهجم على فلسطين بالمال والسلاح والنساء والدهاء، فلم يستطع مليون عربي حصرتهم الخيانات في مآزق ضيقة أن يصنعوا شيئاً، فهاموا على وجوههم في الأرض، نتيجة اتفاق "أمريكا وروسيا وانكلترا وفرنسا" و..ملوك العرب على خذلان أولئك العرب التعساء، وبذلك قام الوطن القومي لليهود، وبثّت الدعاية لتشجيع الهجرة إليه، وإسداء العون له من دهاقين السياسة والمال في أنحاء الدنيا !!

أين هذا الحضيض من رجال أخلصوا لله طواياهم، وترفعت عن المآرب هممهم، وذهلوا عن المتاع المبذول والأمان المتاح، واستهوتهم المثل العليا وحدها في عالم يعج بالصم البكم، وربطوا مستقبلهم بمستقبل الرسالة المبرأة التي اعتنقوها، وتبعوا صاحبها المتجرد المكافح، وهو لا يني يقول:

{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ}!!

إن المدينة الفاضلة التي تعشَّقها الفلاسفة، وتخيلوا فيها الكمال، وجاءت في سطور الكتب، دون ما صنع المهاجرون الأولون، وأثبتوا به أن الإيمان الناضج يحيل البشر إلى خلائق تباهي الملائكة سناء ونضارة.

إن المسلمين -باذن رسول الله- هرعوا من مكة وغيرها إلى "يثرب" يحدوهم اليقين، وترفع رؤوسهم الثقة.

ليست الهجرة انتقال موظف من بلد قريب إلى بلدٍ ناءٍ، ولا ارتحال طالب قوت من أرض مجدبة إلى أرض مخصبة.

إنها إكراه رجل آمنٍ في سربه، ممتد الجذور في مكانه على إهدار مصالحه، وتضحية أمواله والنجاة بشخصه فحسب، وإشعاره -وهو يصفِّي مركزه- بأنه مستباح منهوب، قد يهلك في أوائل الطريق أو نهايتها. وبأنه يسير نحو مستقبل مبهم، لا يدري ما يتمخض عنه من قلاقل وأحزان، ولو كان الأمر مغامرة فرد بنفسه لقيل: مغامر طياش، فكيف وهو ينطلق في طول البلاد وعرضها، يحمل أهله وولده؟ وكيف وهو بذلك رضيَّ الضمير، وضّاء الوجه ؟!

إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش! وإيمان بمن؟ بالله الذي له ما في السموات وما في الأرض، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير.

هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن، أما الهيّاب الخوار القلق، فما يستطيع شيئاً من ذلك، إنه من أولئك الذين قال الله فيهم: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنْ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوْ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ..}.

أما الرجال الذين التقوا بمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) في مكة ، وقبسوا منه أنوار الهدى، وتواصوا بالحق والصبر، فإنهم نفروا خفافاً ساعة قيل لهم: هاجروا إلى حيث تعزون الإسلام وتؤمنون مستقبله.

ونظر المشركون، فإذا ديار بـ (مكة) كانت عامرة بأهلها قد أقفرت، ومحال مؤنسة قد أمحلت.

مر عتبة، والعباس، وأبو جهل على دار بني جحش بعدما غُلِّقت، فقد هاجر رب الدار، وزوجه وأخوه أبو أحمد -وكان رجلاً ضرير البصر- ونظر عتبة إلى الدار تخفق أبوابها يباباً، ليس بها ساكن! فلما رآها تصفر الريح في جنباتها قال:

وكل دار وإن طالت سلامتها يوماً، ستدركها النكباء والحوب

ثم قال: أصبحت الدار خلاء من أهلها، فقال أبو جهل للعباس هذا من عمل ابن أخيك، فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وقطع بيننا...

وأبو جهل بهذا الكلام تبرز فيه طبائع الطغاة كاملة.

فهم يجرمون ويرمون الوزر على أكتاف غيرهم، ويقهرون المستضعفين، فإذا أبَوا الاستكانة، فإباؤهم علّة المشكلات ومصدر القلاقل..!!

وكان من أول المهاجرين "أبو سلمة: وزوجه، وابنه" فلما أجمع على الخروج قال له أصهاره: هذه نفسك غلبتنا عليها، أرأيت صاحبتنا هذه؟ علام نتركك تسير بها في البلاد؟ وأخذوا منه زوجته. فغضب آل أبي سلمة لرجلهم، وقالوا: لا نترك ابننا معها إذ نزعتموها من صاحبنا، وتجاذبوا الغلام بينهم، فخلعوا يده وذهبوا به وانطلق أبو سلمة وحده إلى المدينة، فكانت أم سلمة -بعد ذهاب زوجها وضياع ابنها- تخرج كل غداة بالأبطح، تبكي حتى تمسي، نحو سنة، فرقّ لها أحد ذويها وقال: ألا تخرجون هذه المسكينة؟ فرقتم بينها وبين زوجها وولدها، فقالوا لها: الحقي بزوجك إن شئت، فاسترجعت ابنها من عصبته، وهاجرت إلى المدينة ..

ولما أراد "صهيب" الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكاً حقيراً، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلُّون سبيلي؟ قالوا: نعم، قال: فإني قد جعلت لكم مالي. فبلغ ذلك رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) فقال: ربح صهيب!

وهكذا أخذ المهاجرون يتركون مكة زرافات ووحداناً، حتى كادت مكة تخلو من المسلمين. وشعرت قريش بأن الإسلام أضحت له دار يأرز إليها وحصن يحتمي به، وتوجست خيفة من عواقب هذه المرحلة الخطيرة في دعوة محمد، وهاجت في دمائها غرائز السبع المفترس حين يخاف على حياته.

إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) لا يزال في مكة، وهو -لابد- مدرك أصحابه اليوم أو غداً، فلتعجل به قبل أن يستدير إليها..

7.4 اجتماع طواغيت الكفر في دار الندوة للقضاء على محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ودعوته التوحيدية:

واجتمع طواغيت مكة في دار الندوة ليتخذوا قراراً حاسماً في هذا الأمر.

فرأى بعضهم أن توضع القيود في يد محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ويشد وثاقه، ويرمى به في السجن لا يصله منه إلا الطعام، ويترك على ذلك حتى يموت..

ورأى آخر أن ينفى من مكة فلا يدخلها، تنفض قريش يديها من أمره.

وقد استُبعد هذان الاقتراحان لعدم جدواهما واستقر الرأي على الاقتراح الذي أبداه "أبو جهل". قال أبو جهل: أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شاباً نسيباً وسطاً فتياً، ثم نعطي كل فتى سيفاً صارماً، ثم يضربونه -جميعاً- ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، ولا أظن بني هاشم يقوَوْن على حرب قريش كافة، فإذا لم يبق أمامهم إلا الدية أديناها.

ورضي المؤتمرون بهذا الحل للمشكلة التي حيرتهم وانصرفوا ليقوموا على إنفاذه، وقد أشار القرآن إلى تدبير هذه الجريمة بقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

إن هذا الحكم لم يتخذ في مجلس سر، بل في اجتماع عام.

ومن الطبيعي أن يعلم به رسول الله؛ وأن يعرف حقيقة وضعه في مكة، إنهم لا ينتظرون به إلا موعد التنفيذ، ثم يقدمه الطغام قرباناً للأصنام!!.

على أن رسول الله لم يكن ليوعز إلى أصحابه بالهجرة ويتخلف عنهم.

لقد رسم الخطة التي يذهب بها إلى "يثرب" حين ندب المسلمين للهجرة إليها.

روى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله -وهو يومئذ بمكة- للمسلمين: "قد أريت دار هجرتكم؛ أريت سبخة ذات نخل بين لابتين" فهاجر من هاجر قِبَل المدينة حين ذكر ذلك رسول الله، ورجع إلى المدينة من كان هاجر إلى أرض الحبشة من المسلمين.

8.4 هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) إلى المدينة:

حين عزم رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) على ترك مكة إلى المدينة؛ ألقى الوحي الكريم في قلبه وعلى لسانه هذا الدعاء الجميل: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا}.

ولا نعرف بشراً أحق بنصر الله وأجدر بتأييده مثل هذا الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) الذي لاقى في جنب الله ما لاقى. ومع ذلك فإن استحقاق التأييد الأعلى لا يعني التفريط قيد أنملة في استجماع أسبابه، وتوفير وسائله.

ومن ثَمَّ فإن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أحكم خطة هجرته، وأعدَّ لكل فرض عدته، ولم يدع في حسبانه مكاناً للحظوظ العمياء.

وشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة، أن يقوم بها كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل -بعد ذلك- على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بالله.

فإذا استفرغ المرء جهوده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يلومه على هزيمة بلي بها، وقلّما يحدث ذلك إلا عن قَدَر قاهر يعذر المرء فيه!!

وكثيراً ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيباً حسناً، ثم يجيء عون أعلى يجعل هذا النصر مضاعف الثمار.

كالسفينة التي يشق عباب الماء بها ربّان ماهر، فإذا التيار يساعدها والريح تهب إلى وجهتها، فلا تمكث غير بعيد حتى تنتهي إلى غايتها في أقصر من وقتها المقرر.

وهجرة رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة جرت على هذا الغرار، فقد استبقى رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) معه علياً وأبا بكر ، وأذن لسائر المؤمنين بتقدمه إلى المدينة .

فأما أبو بكر فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) قال له حين استأذنه ليهاجر: لا تعجل، لعل الله أن يجعل لك صاحبا. وأحس أبو بكر كأن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) يعني نفسه بهذا الرد‍.

فابتاع راحلتين فحبسهما في داره، يعلفهما إعداداً لذلك.

وأما علي فإن الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) هيأه لدور خاص، يؤديه في هذه المغامرة المحفوفة بالأخطار‍.

قال ابن إسحاق: فحدثني من لا أتهم عن عروة بن الزبير، عن عائشة، أنها قالت: كان لا يخطئ رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار: إما بكرة، وإما عشياً، حتى إذا كان اليوم الذي أذن الله فيه لرسوله في الهجرة والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها. قالت: فلما رآه أبو بكر قال: ما جاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في هذه الساعة إلا لأمر حدث. فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وليس عند رسول الله أحد إلا أنا وأختي أسماء، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أخرج عني من عندك، قال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي.

وما ذاك -فداك أبي وأمي-؟.

قال: إن الله أذن لي بالخروج والهجرة. فقال أبو بكر : الصحبةَ يا رسول الله؟ قال: الصحبة.

قالت عائشة: فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يومئذ يبكي.

ثم قال: يا نبي الله إنَّ هاتين الراحلتين كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبدالله بن أريقط -وهو مشرك- يدلهما على الطريق. ودفعا إليه راحلتيهما فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما..

قال ابن إسحاق: ولم يعلم -فيما بلغني- بخروج رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أحد حين خرج -يقصد نوى الخروج- إلا علي وأبو بكر وآله. أما علي فإن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أمره أن يتخلف حتى يؤدي عنه الودائع التي كانت عنده للناس. وكان رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم)؛ ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده، لما يعلم من صدقه وأمانته..

9.4 درس في سياسة الأمور حول موضوع هجرة الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) من مكة إلى المدينة:

ويلاحظ أن النبي عليه الصلاة والسلام كتم أسرار مسيره، فلم يطلع عليها إلا من لهم صلة ماسة، ولم يتوسع في إطلاعهم إلا بقدر العمل المنوط بهم.

وقد استأجر دليلاً خبيراً بطريق الصحراء ليستعين بخبرته على مغالبة المطاردين ونظر في هذا الاختيار إلى الكفاية وحدها. فإذا اكتملت في أحد -ولو مشركاً- استخدمه وانتفع بموهبته.

ومع هذه المرونة في وضع الخطة فإن النبي عليه الصلاة والسلام أصر أن يدفع ثمن راحلته، وأبى أن يتطوع أبوبكر به، لأن البذل في هذه الهجرة ضرب من العبادة ينبغي الحرص عليه وتستبعد النيابة فيه.

واتفق الرسول عليه الصلاة والسلام مع أبي بكر على تفاصيل الخروج، وتخيروا الغار الذي يأوون إليه، تخيروه جنوباً في اتجاه اليمن لتضليل المطاردين، وحددوا الأشخاص الذين يتصلون بهم في أثناء اللجأ إليه، ومهمة كل شخص.

ثم عاد الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بيته، فوجد قريشاً بدأت تضرب الحصار حوله، وبعثت بالفتيان الذين وكل إليهم اغتيال محمد عليه الصلاة والسلام وتفريق دمه بين القبائل.

وأوعز الرسول عليه الصلاة والسلام إلى علي بن أبي طالب في هذه الليلة الرهيبة أن يرتدي برده الذي ينام فيه، وأن يتسجى به على سريره. وفي هجعة الليل وغفلة من الحرس، نَسَلَ الرسول عليه الصلاة والسلام من بيته إلى دار أبي بكر، ثم خرج الرجلان من خوخة في ظهرها إلى غار ثور.. إلى الغار الذي استودعته العناية مصير الرسالة الخاتمة، ومستقبل حضارة كاملة، وتركته في حراسة الصمت والوحشة والانقطاع..

10.4 اختباء الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) مع أبي بكر في الغار أثناء هجرته من مكة إلى المدينة:

وسارت الأمور على ما قدّرا، وكان أبو بكر قد أمر ابنه عبدالله أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك من أخبار. وأمر عامر بن فهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما إذا أمسى في الغار. فكان عبدالله بن أبي بكر في قريش يسمع ما يأتمرون به وما يقولون في شأن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وأبي بكر، ثم يأتيهما إذا أمسى فيقص عليهما ما علم، وكان عامر في رعيان أهل مكة، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر فاحتلبا وذبحا، فإذا غدا عبدالله من عندهما إلى مكة، أتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم يعفِّي عليه. وتلك هي الحيطة البالغة كما تفرضها الضرورات المعتادة على أي إنسان..

وانطلق مشركو مكة في آثار المهاجرين يرصدون الطرق ويفتشون كل مهرب، وراحوا ينقِّبون في جبال مكة، وكهوفها، حتى وصلوا -في دأبهم- قريباً من غار ثور، وأنصت الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) وصاحبه إلى أقدام المطاردين تخفق إلى جوارهم، فأخذ الروع أبا بكر، وهمس يحدث رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): "لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا" فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: "يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

ويظهر أن المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج، فتراكضوا عائدين، وروى أحمد: "أن المشركين اقتفوا الأثر حتى إذا بلغوا الجبل -جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل فمروا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت. فقالوا: لو دخل هاهنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاث ليال".

ورواية أحمد حسنة، وإن لم ترد بها السنن الصحاح، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك.

قال الله تعالى في ذكر الهجرة:

{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}.

ومن صنع الله لنبيه أن تعمى عنه عيون عداته وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرَّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها فيبلغون بها نهاية الإتقان تمر بها فترات عصيبة لأمور فوق الإرادة أو وراء الحسبان، ثم تستقر أخيراً وفق مقتضيات الحكمة العليا وفي حدود قوله تعالى:

{وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.

11.4 ما حدث مع رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) في الطريق إلى المدينة:

مرت ثلاث ليال على مبيت الرسول عليه الصلاة والسلام في الغار، وخمد حماس المشركين في الطلب، وتأهب المهاجران لاستئناف رحلتهما الصعبة.

وجاء "عبدالله بن أريقط" في موعده ومعه رواحله قد أعلفها لاستقبال سفر بعيد، وتزود الركب ثم سار على اسم الله.

غير أن قريشاً ساءها أن تخفق في استرجاع محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه، فجعلت دية كل واحد منهما جائزة لمن يجيء بهما أحياء أو أمواتاً.

ومائتان أو مائة من الإبل في الصحراء ثروة تغري بركوب المخاطر وتحمل المشاق.

وقد قدَّر رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن المشركين لن يألوا جهداً في الإساءة إليه، فالتزم في سيره جانب المحاذرة، وأعانتهم مهارة الدليل على سلوك دروب لم تعتدها القوافل، ثم أطلق الزمام للرواحل فمضت تصل النهار بالليل.

رمى بصدور العيس منخرق الصَّبا فلم يدر خلقٌ بعدها أين يمما؟

فلما مروا بحي بني مدلج مُصْعدين، بَصُر بهم رجل من الحي فقال: لقد رأيت آنفاً أسْوِدَة بالساحل، ما أظنها إلا محمداً وأصحابه؛ ففطن إلى الأمر سراقة بن مالك ورغب أن تكون الجائزة له خاصة فقال: بل هم فلان وفلان قد خرجوا لحاجة لهم..ومكث قليلاً ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه: اخرج بالفرس من وراء الخباء وموعدك خلف الأكمة.

قال سراقة: فأخذت رمحي وخرجت من ظهر البيت وأنا أخط بزجه الأرض، حتى أتيت فرسي فركبتها فدفعتها ففرت بي حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها! فقمت..

وامتطى سراقة فرسه مرة أخرى وزجرها فانطلقت حتى قرب من الرسول عليه الصلاة والسلام وصاحبه، وكان أبو بكر يكثر الالتفات يتبين هذا العدو الجسور؟ فلما دنا عرفه فقال لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) وكان ماضياً إلى غايته-: هذا سراقة بن مالك قد رهقنا! وما أتم كلامه حتى هوت الفرس مرة أخرى ملقية سراقة من على ظهرها، فقام معفراً ينادي بالأمان!!

وقع في نفس سراقة أن الرسول عليه الصلاة والسلام حق فاعتذر إليه وسأله أن يدعو الله له وعرض عليهما الزاد والمتاع، فقالا: لا حاجة لنا، ولكن عَمِّ عنا الطلب، فقال: قد كفيتم، ثم رجع فوجد الناس جادين في البحث عن محمد عليه الصلاة والسلام وصاحبه، فجعل لا يلقى أحداً من الطلَّب إلا ردَّه وهو يقول: كفيتم هذا الوجه !

أصبح أول النهار جاهداً عليهما، وأمسى آخره حارساً لهما...!!

12.4 دعاء رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عند خروجه من مكة مهاجراً:

إن أسفار الصحراء توهي العمالقة الآمنين. فكيف بركب مهدر الدم مستباح الحق؟.

ما يحس هذه المتاعب إلا من صلي نارها، لقد برزنا لوهج الظهيرة يوماً فكادت الأشعة البيضاء المنعكسة على الرمال تخطف أبصارنا، فعدنا مغمضين نستبقي من عيوننا ما خفنا ضياعه.

وعندما تصبح وتمسي وسط وهاد ونجاد لا تنتهي حتى تبدأ، تخال العالم كله مهامه مغبرة الأرجاء داكنة الأرض والسماء.

وجرت عادة المسافرين أن يأووا في القيلولة إلى أي ظل في بطاح ينتعل كل شيء فيها ظله، حتى إذا جنحت الشمس للمغيب تحركت المطايا اللاغبة تغالب الجفاف والكرى.

وللعرب طاقةٌ على احتمال هذا الشظف مع قلة الزاد والري.

وقد مر بك أن الرسول -وهو طفل- قطع هذه الطريق، ذهب مع أمه لزيارة قبر أبيه ثم عاد وحده!.

وإنه الآن ليقطعها وقد بلغ الثالثة والخمسين، لا لزيارة أبويه اللذين ماتا بالمدينة؛ بل لرعاية رسالته التي تشبثت بأرض يثرب جذورها، بعد ما تبرمت مكة بها وبصاحبها وبمن حوله...

إنه أرسخ أهل الأرض يقيناً بأن الله ناصره ومظهر دينه، بيد أنه أسيف للفظاظة التي قوبل بها، وللجحود الذي لاحقه من بدء رسالته حتى اضطره إلى الهجرة على هذا النحو العنيف، ها هو ذا يخرج من مكة وقد أعلن سادتها عن الجوائز المغرية لمن يغتاله...

روى أبو نعيم أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) لما خرج من مكة مهاجراً إلى الله قال: الحمد لله الذي خلقني ولم أك شيئاً. اللهم أعنِّي على هول الدنيا وبوائق الدهر ومصائب الليالي والأيام. اللهم اصحبني في سفري، واخلفني في أهلي، وبارك لي فيما رزقتني، ولك فذلِّلني، وعلى صالح خُلُقي فقوِّمني، وإليك ربِّ فحببني، وإلى الناس فلا تكلني. رب المستضعفين وأنت ربي. أعوذ بوجهك الكريم الذي أشرقت له السموات والأرض، وكشفت به الظلمات، وصلح عليه أمر الأولين والآخرين أن تحل علي غضبك، وتُنزل بي سخطك. وأعوذ بك من زوال نعمتك، وفجأة نقمتك، وتحوّل عافيتك، وجميع سخطك. لك العتبى عندي خير ما استطعت. ولا حو�

nassimbishra

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 3036 مشاهدة
نشرت فى 4 ديسمبر 2010 بواسطة nassimbishra

ساحة النقاش

نسيم الظواهرى بشارة

nassimbishra
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

1,068,540

ملحمة التحرير