<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

دروس وعبر ودلالات كثيرة يقف عندها القارئ في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي تروي أحداث الهجرات التي أذن بها الله للرسول  r ولصحابته.

أقف على بعض المشاهد التي تعكس صورة جلية ليقين رسول الله  r وصحابته في الله ، يقين رافق الرعيل الأول من المسلمين منذ الهجرة الأولى إلى الحبشة ، وسيج هجرة رسول الله  r إلى المدينة.

قال ابن إسحاق : فلما رأى رسول الله  r ما يصيب أصحابه من البلاء ، وما هو فيه من عافية بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء ، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد ، وهي أرض صدق ، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه" (1)

فلما اشتد ظلم قريش واضطهادهم على المسلمين بمكة ، أمر رسول الله  r المسلمين بأن يهاجروا إلى الحبشة، وهي بلاد بعيدة ودونها مسافة طويلة ، ومشقة وعبور صحراء وركوب بحر ومجازفة..

كيف إذن أمن المسلمون بأن الخير قد يكتب لهم في تلك الرحلة ؟ وفي المُقام والمكوث بين قوم ليسوا قومهم ، وفي جوار ملك لا يدين بدينهم ، دين الإسلام الذي جاء به محمد  r ، وقد اضطهدهم قومهم وبنو جلدتهم وأنزلوا بهم أشد أصناف التعذيب والتنكيل والأذية المادية الجسمية والمعنوية النفسية؟

كيف يطمئنون على أرواحهم وأبنائهم إذا تركوا ديارهم ومتاعهم وأموالهم وخرجوا إلى ما يمكن اعتباره مجهولا وعدما؟ كان اليقين والثقة والتسليم لأمر الله ورسوله هو عدتهم وعتادهم ، كان الصحابة رضوان الله عليهم يعلمون أن محمدا  r لا ينطق عن الهوى ، وأن ما أمرهم به وحي وإذن من الله تعالى ، إذ قال لهم : " إن بها ملكا لا يظلم عنده أحد " كانت هذه الكلمات كافية لتبعث في قلوبهم الأمن والاطمئنان واليقين بأن الله مانعهم وبأن أمره بالغ لا محالة.

لم يترددوا رضوان الله عليهم ، ولم يلتفتوا ، بل سمعوا وأطاعوا ولبوا!

هذا مبدأ التصديق وعربون اليقين في موعود الله ورسوله بأن ينصر دعوته ، فهل اطمأن الصحابة المهاجرون إلى ذلك ثم تجاهلوا كل الأسباب والسنن التي جعلها الله تكليفا شرعيا وجب على المسلمين الأخذ بها والعمل بمقتضياتها؟

كلا ! فقد اتخذ الصحابة كل أسباب الحيطة والحذر وخرجوا مستخفين متسللين في هجرتهم ، بل حتى لما جاء عمرو بن العاص يكلم النجاشي في أمر المسلمين ويغري بهم عنده ويسأله أن يسلمه إياهم ليرجع بهم إلى قومهم " فهم أدرى بهم " بادر المسلمون إلى إعمال الجهد ومدافعة الباطل بالحجة ، وانتصب جعفر بن عبد المطلب عم الرسول  r ، وبسط للملك النجاشي أمر الإسلام ، هذا الدين الجديد وتلا عليه من القرآن كتاب الله ، وحاج عمرو بن العاص ولم يأل جهدا في موافقة ما أخبرهم به الرسول  r بأن النجاشي لا يظلم عنده أحد!

فيقينه وتصديقه رضي الله عنه ، دفعاه إلى الإصرار على توضيح ما أشكل على الملك النجاشي وعلى بيان حقيقة ما يدعو إليه الإسلام وبطلان دعاوى عمرو بن العاص وقومه.

الصورة الثانية أستقيها من هجرة الرسول  r إلى الطائف حيث كان يخرج إلى القبائل ليعرض عليها نفسه ويبلغهم دعوة الإسلام ويطلب منهم نصره وإيواء دعوته.

هنا كذلك نلتقي مع درس آخر في يقين رسول الله  r في ربه ، ذلك اليقين الذي نفذ إلى قلبه عليه الصلاة والسلام وقذف فيه الاطمئنان والتفاؤل وحسن الظن في الله تعالى .

قال ابن إسحاق : " ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله  r ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله  r إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف ، والمنعة بهم." (2)

عرض نفسه عليه الصلاة والسلام على أشراف ثقيف فكان ردهم منكرا من القول والفعل ، حيث تركوه وأغروا به سفهائهم يرمونه بالحجارة وبأسوأ الكلام ، وهو عليه الصلاة والسلام لا يبالي ولا يهتم " إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي " (3)

فقد تيقن بأن الله كفاه أذاهم وبأنه تعالى سيظهر دينه ولو كره المشركون..

أما الصورة الثالثة والأخيرة في رحلة هذه الهجرات، فألتقطها من هجرة الرسول  r من مكة إلى المدينة رفقة أبي بكر رضي الله عنه.

قال ابن إسحاق :" وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا ذا مال ، فكان حين استأذن رسول الله  r في الهجرة ، فقال له رسول الله  r : لا تعجل لعل الله يجد لك صاحبا ، قد طمع أن يكون رسول الله  r ، إنما يعني نفسه، حين قال ذلك ، فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما في داره ، يعلفهما إعدادا لذلك."(4)

وحينما أذن الله للرسول  r بالهجرة " ..ورغم يقينه الكامل – عليه الصلاة والسلام - بأن الله معه يرعاه ويسدد خطاه ، لم يتعجل الحركة ، ولم يرتجل الخطوات كان عليه أن يخطط للهجرة ، مستخدما كل ما وهب من إمكانات الفكر والبصيرة والإرادة.لأنه بهذا وحده يستحق نصر الله ووعده...وإلا فلأي شيء منحنا الله بصائر وعقولا وحرية وقدرة على التحرك والتخطيط ؟ " (5)

فراح أبو بكر في يقينه وتصديقه المعهودين يعد العدة لتلك الرحلة ، ويرتب المراحل ويوزع الأدوار على أبنائه وبناته ، ويجهز أسباب وشروط الهجرة من عناصر بشرية ومن رواحل وأموال تعينهم في خروجهم.

يقين وإعداد للأسباب ، لم يمنعه رضي الله عنه تصديقه وثقته في أمر استبقاء رسول الله  r له ، وتأخير هجرته حتى يجد الله له صاحبا ، لم يمنعه ذلك من اتخاذ الأسباب وركوب سنن الله في التهييء والتخطيط لذلك الحدث الذي سيقلب ميزان القوة لصالح الفئة المؤمنة ويغير مجرى التاريخ البشري .

راحلتان ودليل مشرك وبعض الزاد أتت به أسماء بنت أبي بكر ، هذا كل ما أعده أبو بكر وأله لهذه الرحلة الطويلة في الزمان والمكان ، رحلة سيكتب لها النجاح والظفر وستكون بداية عهد ومرحلة جديدة بكل المقاييس ، أرض ووطن جديدان ، بنية وتركيبة اجتماعية تحكمها قوانين ومواثيق وأعراف جديدة ، سياسة وحكم جعل لهما الله شرعة ومنهاجا جديدين.

" ومعا استكملا الخطة ووضعا الأسباب ، وتركا – من ثم – مصيرهما ومصير الدعوة لله ، صانع المصائر ومقدر الأقدار... التسلل من شباك خلفي على غفلة من قريش..التوجه جنوبا على طريق اليمن واللجوء إلى إحدى مغارات جبل ثور هناك التوقف عن السير ثلاثة أيام ريثما تخف محاولات القرشيين المستميتة في البحث عن الرسول  r " (6)

ومن غار ثور رأى أبو بكر بأم عينيه نعال المشركين المطاردين عند أسفل الغار.فارتعد فرقا على رسول الله عليه الصلاة والسلام وعلى مصير الدعوة ن فهمس لرسول الله  r قائلا : " لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا "

ويجيء رد الرسول  r كله يقين واطمئنان : " يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟" ثم يأتي كلام الله تعالى يؤكد حمايته لنبيه وصاحبه ": " إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم " (7)

ومن دروس اليقين أيضا ، ما فعله أبو بكر الصديق رضي الله عنه حينما خرج مهاجرا مع رسول الله  r ، فقد " ...احتمل ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف " (8)

فلما دخل أبو قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه على أحفاده بعد خروج أبيهم مع رسول الله  r قال : " ..والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه . قالت – أسماء بنت أبي بكر – قلت كلا يا أبت ( و كان قد ذهب بصره ) إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا . قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ...ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ضع يدك على هذا المال ، قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئا ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك" ( 9)

ثقة ويقين كاملين في أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا وبأنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون، أخذ رضي الله عنه المال كله لينفقه في سبيل الله وترك الله لعياله.

وهذا سراقة بن مالك بن جُعثُم لما خرج في طلب رسول الله  r وقد عمت عينه وملأتها المائة ناقة هبة من يرده عليه الصلاة والسلام إلى قومه، فلما رأى تعثر فرسه مرة تلو الأخرى ، والرسول عليه الصلاة والسلام ماض في طريقه مهاجرا في سبيل الله ، موقنا بأن العاقبة للمتقين ، لا يلتفت ، وأبو بكر رغم ذلك ، وأخذا بالأسباب،لا ينفك يأتيه مرة عن اليمين ومرة عن شماله الكريمة ومرة أمامه وأخرى وراءه يحميه بنفسه وجسده خوفا عليه من طالبيه ، أيقن سراقة بأنه لن يدرك الرسول صلى الله عليه ولن يصله بأذى ، فتولى عنه بعد أن أخذ منه عليه الصلاة والسلام عهدا ، ولم يخبر قريشا بشيء من أمره ( 10) سيرة ابن هشام ج 2 ص490

مازال واقعنا في مجمله بين طرفي نقيض. فمن جهة نجد من يؤمن بأنه سيكون للإسلام وللمسلمين شأن كبير لكنه قاعد ينتظر أن يفعل به وله دون أن يحدث نفسه بفعل أو بذل أو جهد من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل والنهوض بهذه الأمة نحو استقبال موعود الله ورسوله في التمكين والاستخلاف في الأرض ، هذا يميت علبنا ديننا ويعطل سنة الله في الكون وفي الأنفس ، إذ لابد من اقتران تدبير العباد بإرادة وتدبير رب العباد.

ومن جهة أخرى هناك من يعيش واقعا ميؤوسا قانطا لا يرى من أمر الإسلام وأهله إلا السواد يغشيه ليل حالك لا يكاد يتبين منه خيط بياض ولا ومضة نور ..أقعدته هو الآخر غلبة الاستكبار العالمي وصولته وما يظهره من قوة وعنف وبأس ، مقابل تراجع وانبطاح أنظمتنا العربية والإسلامية أمامه واقتفائها سننه.

إن التاريخ يعيد نفسه ، فأسباب النصر والتمكين وشروطه ومقتضياته لا تتغير ولا تتبدل ، فتلك سنة الله ، ولن تجد لسنة الله تبديلا .

المتغير هو الزمان والأحوال والظروف والوسائل وتقدير الأولويات وترتيبها .فلنأخذ بالثوابت كاملة غير منقوصة ولا مجزأة، فالثقة في الله واليقين فيه تعالى والاعتماد عليه واستمطار النصر والمدد منه سبحانه، لا يمكن أن نأخذ منه ونترك ، بل لابد من إتمام كل ذلك وإجماله .

ثم نتدرج في إتيان الأسباب ونقدم ونؤخر في ترتيب الأولويات حسب الظروف والمتاح ، ونعد من الجهد والطاقة والإمكانيات ما يبلغه الوسع وبعد ذلك لا نلام.

هكذا ينبغي أن نتعلم اليقين وهكذا أيضا ينبغي أن نتعلم الإتيان بالأسباب والأخذ بها في كل أمر الدعوة، وقبل ذلك و أثناءه وبعده لا نبرح نسأل الله التأييد والعون والمعية.

لن يبرح المسلمون مقعدهم من الذل والهوان والتأخر ما تجاهلوا ضرورة الجمع بين اليقين والثقة الكاملة في موعود الله ورسوله في ظهور الإسلام على الدين كله وفي سيادة أمته على الأمم كلها ، وبين النزول إلى الأرض ومعالجة الواقع والتخطيط والتدبير بما يقتضيه ذلك الظهور وتلك السيادة من أسباب وضرورات ميدانية حسية رقمية.

فعلى هذا فليشتغل كل أهل الدعوة استجابة وتلبية لنداء الله وأمره لعباده بأن ينفروا ويسارعوا في الخيرات طلبا لرضاه وحسن العاقبة وإعدادا للدولة التي جعلها الله حصنا حاميا للدعوة.

------------

 

 

 

 

الهجرة مشروع لبناء حضارة إيمانية جديدة

عندما هاجر الرسول صلى الله عله وسلم من مكة لم يهجر قلبه تراب مكة ولا الكعبة الرابضة في قلب مكة، ولقد أعلن صلى الله عله وسلم ذلك بعبارة صحيحة عندما التفت إلى مكة وهو يودعها قائلاً: "ما أطيبك من بلد وأحبك إليّ! ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك." (رواه الترمذي)

وعندما هاجر الرسول صلى الله عله وسلم من مكة لم يهجر قريشاً ولا بني هاشم، فلقد كان يحب الجميع ويتمنى لهم الهداية والخير، كما أنه -وهو الوفي- لم ينس لبني هاشم -مُسلمهم وكافرهم- مواقفهم معه عندما قادَتهم عصبية الرحم فحموه من كل القبائل، ودخلوا معه شعب أبي طالب يقاسون معه ومع المسلمين الجوع والفاقة، ولا يَمنّون عليه بذلك، مع أنهم على غير دينه، لكنه الولاء للأرحام.

هاجر عليه السلام ولكنه لم يهجر

فالرسول المهاجر صلى الله عله وسلم لم يهجر كل ذلك بل حمله معه في قلبه، يحنّ إلى ذلك اليوم الذي يعود فيه إلى مراتع الصبا، وإلى الرحم الذي وقف معه حتىّ قال قائلهم وسيدهم أبو طالب: "اذهب يا ابن أخي! فقل ما شئت فوالله لن أسلمك أبداً"، مع أنه لم يكن على دينه.

وإنما كانت هجرة الرسول صلى الله عله وسلم من مكة هجراً للوثنية المسيطرة التي لا يريد أصحابها أن يتعاملوا بمنطق الدين أو منطق العقل أو منطق الأخلاق. فهذه وثنية يجب أن تهجر وأن يهاجر من مناطق نفوذها وإشعاعاتها.

وإنما هاجر الرسول، وهجر -إلى جانب الوثنية المسيطرة- تلك العصبية المستعلية التي تعرف منطق القوة، ولا تعرف منطق الحق، وليس في وعيها ولا في قاموسها أن تهادن الإيمان، وأن تترك مساحة للتفاهم والحوار، وبالتالي تصبح الحياة معها -بعقيدة إيمانية بعيدة عن إشعاعاتها- أمراً مستحيلاً.

إننا نريد أن يفهم مضمون الهجرة الإسلامية كما ينبغي أن يفهم، وأن تكون هجرة الرسول هي المرجعية لهذا الفهم. فقد بُعث محمد صلى الله عله وسلم "رحمة للعالمين"، فكيف تكون إذن رحمته بالقوم الذين انتسب إليهم، أو بالقوم الذين عاش معهم، أو بالأرض الطاهرة التي نشأ فيها، وتربّى في بطاحها وتنسم عبيرها، وشاهد جموع الزاحفين إلى أرضها الطاهرة من كل فج عميق؟!

إن رحمته -بالضرورة هنا- لا بد أن تكون أكبر من أي رحمة أخرى... ولهذا نراه صلى الله عله وسلم يرفض دائماً أن يدعو على أهل مكة، وحتى وهو في هذه اللحظة البالغة الصعوبة، عندما وقع في حفرة حفروها له في موقعة أحد، وتناوشته سهامهم من كل مكان، وسالت دماؤه الطاهرة على جبل أحد الذي كان يتبادل الرسول صلى الله عله وسلم الحب معه، لأن بعض قطرات دمائه الزكية قد اختلطت بتراب أحد الطاهر، فأصبحا حبيبين... حتى في هذه اللحظة البالغة الصعوبة لم يستطع لسانه الزكي، ولا قلبه التقيّ أن يدعو عليهم، ولا أن يشكوهم إلى الله، وإنما كان يردد على مسمع من الناس جميعاً: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"(متفق عليه). وعندما كان يرى تمادي قريش في الحرب كان يتأسف عليهم ويقول: "يا وَيحَ قريشٍ لقد أكلَتهم الحربُ، ماذا عليهم لو خلَّوا بيني وبين سائر الناس" (رواه الإمام أحمد في مسنده).

وكم راودته الجبال الشم -بأمر من الله- أن تطبق عليهم فكان يرفض ويقول: "أَرْجُو أَن يُخرج اللهُ مِن أَصلابهم مَن يَعبد اللهَ وحده لا يُشرك به شيئا"(متفق عليه). وعندما جاءته فرصة السلام معهم أصرّ عليها، مع تعنّتهم في الشروط تعنّتاً أغضب أصحابه، لكنه كان يريد لهم الحياة، وألا تستمر الحرب في أكلهم، وألا يبقوا -وهم قومه وشركاؤه في الوطن- مستمرين في تأليب القبائل عليه لدرجة أنهم أصبحوا العقبة الكأداء في طريق الإسلام؛ مما يفرض عليه بأمر الله الجهاد لإزالة هذه العقبة، ونجح الرسول في إزالة عقبتهم بقبول شروطهم المجحفة، حبّاً لهم، وحفاظاً على بقائهم، وأيضاً لإفساح الطريق أمام دين الله.

أما حين دخل مكة صلى الله عله وسلم فاتحا فقد حافظ بكل قوة على كرامتهم ودمائهم، ولم يقبل مجرد كلمة خرجت من فم سعد بن عبادة رضي الله عنه -أحد الصحابة والقادة الأجلاء- وذلك عندما قال: "اليوم يوم الملحمة" فنزع الراية منه، وأعطاها لابنه قيس وقال "لا، بل اليوم يوم المرحمة، اليوم يعزّ الله قريشاً"(1).

وعندما استسلمت مكة كلها تماماً، وقف أهل مكة ينتظرون حكمه فيهم مستحضرين تاريخهم الظالم معه، لكنهم سرعان ما تذكروا أنه الرؤوف الرحيم الطاهر البريء من رغبات الانتقام أو المعاملة بالمثل. فلما سألهم: "ماتظنون أني فاعل بكم"، قالوا: "أخ كريم وابن أخ كريم"، فرد عليهم قائلاً: ?لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ? (يوسف: 92)، وهي كلمة نبي الله يوسف عليه السلام التي قالها لإخوته، ومنها ندرك أنه اعتبرهم جميعاً إخوته، كأنهم إخوة يوسف عليه السلام، ثم أعلن العفو العام بتلك الجملة الخالدة: "اذهبوا فأنتم الطلقاء لوجه الله تعالى"(2). فكأنه أنقذهم من الموت الزؤام عليه الصلاة والسلام.

دعوة لمهاجري العصر الحاضر

ونقول للمهاجرين من أبناء عصرنا لظروف مختلفة إلى أي بلد من بلدان العالم: هذه هي هجرة رسول الله صلى الله عله وسلم بين أيديكم، وهي كتاب مفتوح، فأمعنوا القراءة فيه لتدركوا منه أن هجرتكم من بلادكم -لأي سبب من الأسباب- لا تعني القطيعة مع أرض الوطن، ولا مع الأهل والعشيرة، ولا مع المسلمين في أي مكان، مهما تكن الخلافات الظرفية الطارئه معهم؛ بل يجب أن تبقى الصلة قائمة بينكم وبين الأهل والقوم، تمدونهم بأسباب الحفاظ على الدين من مواقعكم، لكي يثبتوا ويمتدوا بإشعاعات الإيمان إلى أكبر مدى ممكن، لاسيما ووسائل التواصل الآن في أقوى مستوى عرفته البشرية، وبالتالي تكونون قد وصلتم الرحم، وجمعتم بين الثلاثية المتكاملة التي تمثل بأركانها الثلاثة وحدة لا تنفصم، وإلا فقدت الأمة "مكانة الخيرية" التي رفعها الله إليها عندما قال: ?كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ? (آل عمران:110) إنها ثلاثية الإيمان والهجرة والجهاد.

أجل! في عصرنا هذا يجب أن يعود معنى الهجرة إلى منبعه النبوي، فليست الهجرة هجراً للوطن، وقطيعة تاريخية أو معرفية معه، بل هي هجرة موصولة بالماضي، تعمل على تعميق الإيمان فيه، وتبني قلاعاً للإيمان في المهجر الجديد، وتصل بين الماضي والحاضر والمستقبل انطلاقاً من درس الهجرة النبوية.

التواصل مع ماضي المهاجر مطلوب

إن الحرية التي تريد أن تتمتع بها في مهجرك، والثروة التي تريد أن تكوّنها، وحتى الدعوة التي تريد أن تبلّغها -إن كنت ممن اصطفاهم الله للدعوة والبلاغ-... كل هذه تدفعك إلى التواصل مع الماضي من جانب؛ وتدفعك إلى بناء حدائق للإيمان يفوح عطرها في وضعك الجديد، وبلدك الجديد، من جانب آخر.

ليكن معنى الهجرة واضحاً في وَعيك، فهي ليست هجرة من أرض ولا أهل إلى أرض وأهل آخرين، بل هي هجرة من قيم ضيّقة ضاغطة تكبل حركة الإيمان، وتفتعل الصدام المستمر، وترفض الحوار بين الأفكار والعقائد، إلى قيم أخرى تسمح لأشجار الإيمان أن تنمو، وتسمح بالتفاعل والتحاور، ومواجهة الرأي بالرأي، والحجة بالحجة، وتكون مؤهلة لأن تسمح لأهل الإيمان والحق أن يعيشوا كما يريدون، وأن يبنوا قلاع الإيمان في النفوس عن طريق الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.

إن الهجرة النبوية الإسلامية هجرة يقصد بها كسر القيود التي تفرض على الإيمان، وفتح نوافذ أخرى في أرض جديدة. وليست الهجرة الإسلامية أبداً من تلك الهجرات التي تعني زحفاً على البلاد على حساب أهلها، أو لتحقيق الثروة ثم الخروج بها، أو للاعتماد عليها لقهر أصحاب البلاد الأصليين، وجعلهم مجرد منفذين وأدوات لمشروعاتِ وطموحاتِ المهاجرين إليهم.

فالهجرة الإسلامية اليوم -إلى أيّ بلد في العالم- يجب أن تكون هجرة تسعى إلى التواصل والتعارف والتحاور والحب؛ بحيث يشعر كل الناس أنّ الأفراد المسلمين أو المجموعات الإسلامية التي تعيش بينهم إنما تمثل روحاً جديدة، تبني ولا تهدم، وتزرع الخير، و تقاوم الشر، ولا تعرف التفرقة في ذلك بين المسلم وغير المسلم، والوطني، والوافد، والأبيض والأسود.

وكل ذلك لن يتحقق إلا إذا رأى الناس في المسلم المهاجر إليهم -من خلال أقواله وأفعاله، وإسهاماته الخدميّة، وآفاقه المعرفية، وعبوديته لله- شخصية متميزة جادة تفعل ما تقول، وتعيش معهم حياتهم اليومية، وآمالهم، وآلامهم، يفيض منه الخير والنور، تلقائياً وعفوياً، كأنه بعض ذاته، وكأنه مرآة قيمه، وصدى أخلاقه، وأثر منهجه في الحياة.

وهنا يتساءل الناس من غير المسلمين: من أين لهذا المهاجر كل هذا الخير والنور؟ من أين له هذه الإنسانية المتدفقة؟ ومن أين له هذه الرحمة التي تعم الإنسان كل إنسان، بل والحيوان والنبات أيضاً... فسيصلون حتماً إلى الإجابة الصحيحة، وهي أن هذا الإنسان يرتشف من نبع الأنبياء، ويستمد وعيه الحضاري ومشروعه الإنساني الرحيم من نبيّه وإمامه، وإمام المسلمين الأعظم، بل وإمام الإنسانية محمد صلى الله عله وسلم.

فقد كانت هجرته المباركه روحاً جديدة، عبّر عنها أحد الصحابه الكرام (أنس بن مالك رضي الله عنه) في قولته المعروفة التي ذكر فيها أنه عندما دخل الرسول صلى الله عله وسلم المدينة بعد نجاح هجرته: "أضاء منها كل شيء، وعندما مات صلى الله عله وسلم أظلم فيها كل شيء". وهذا على العكس من مكة التي تسلل منها المسلمون هاربين بدينهم، فأظلم فيها كل شيء، ولم يبق فيها إلا الطغيان، والنزوع إلى الحرب. فلما فتَحها الرسول صلى الله عله وسلم انبعث فيها النور، وأضاءت الكعبة، وجاء الحق وزهق الباطل، وأصبحت مكة قلعة الإسلام الأولى.

إن هذا المعنى للهجرة يجب أن يبقى فوق كل العصور؛ لأنه اتصل بنبيّ الرحمة في كل العصور وكل الأمكنة، وأصبح -بالتالي- صالحاً لكل زمان ومكان، صلاحية كل حقائق الإسلام الثابتة.

ولئن كنا نؤمن بأنه "لاَ هجرةَ بعد الفَتح"(متفق عليه) كما قال الرسول صلى الله عله وسلم، فإننا يجب أن نؤمن في الوقت نفسه ببقية الحديث، وهو قول الرسول: "ولكن جهاد ونية"، وهذا يعني أن الهجرة بعد مرحلة الهجرة الأولى قد أخذت بُعداً اصطلاحياً جديداً. ففي البُعد الأول كانت الهجرة مرتبطة بمكان هو المدينة، ولكنها بعد ذلك أصبحت مطلقة من المكان، فهي إلى أي مكان شريطة أن يكون "الجهاد والنية" هما الهدفين المغروسين في النفس. فهما -أي الجهاد والنية- قد انفصلا عن قيد وحدة المهجر (المدينة) الذي كان في صدر الدعوة، وأصبحا صالحين في كل العالم يمشيان مع رجال الدعوة والبلاغ، ويضمنان سلامة الأعمال وارتفاعها على المنافع الاقتصادية أو الظروف السياسية.

الهجرة والتكافل الإيماني

وعندما يستقّر هذا المعنى في النفس نستطيع أن نطمئن إلى أن أبطال الدعوة والبلاغ سينشئون في كل مكان يحلّون فيه حديقة جديدة للإيمان، وتاريخاً جديداً يبدأ كأشعّة الشمس في الصباح، ثم ينساب عبر كل زمان منطلقا إلى مساحة جديدة في الأرض.

وعلى المسلمين إذن -عندما يكونون في أرض المهجر- أن يسارعوا إلى الالتحام ببعضهم، وتكوين مجتمع إيماني يقوم على "المؤاخاة" التي ترتفع فوق الأخوّة، وهي مستوى خاص فوق أخوّة الإيمان التي هي مستوى عام، وأن يتكافلوا مع بعضهم تكافلاً مادياً ومعنوياً، تحقيقاً لقوله تعالى ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى?(المائدة:2) وقوله أيضاً ?وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ?(العصر:3).

والتكافل "المادي" يعني التعاون على ضمان الحد الأدنى المطلوب للحياة لكل أخ مسلم، طعاماً أو شراباً أو علاجاً أو تعليماً أو كساءً. والتكافل "المعنوي" هو التعاون على ضمان التزام "الأخوة" في الإسلام بأداء "الفرائض" والبعد عن "المآثم"، وتفعيل وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار البيئة التي يعيشون فيها وبالأساليب المناسبة لها. وعليهم أيضاً أن يبنوا "مسجداً" يضم الرجال والنساء والأطفال، مهما يكن مستواه متواضعاً. فقد حذّرنا الرسول من وجود عدد -مهما يكن قليلاً- من المسلمين لا تقام الجماعة فيهم، كما أن "المسجد" سيكون محور لقاءاتهم وتعارفهم وتكافلهم المادي والمعنوي. ومن المسجد ينطلقون إلى صور من التكامل فيما بينهم تأخذ طابعاً علمياً ومؤسساتياً يجعل لهم قيمة وتأثيرا وإشعاعاً في مهجرهم الجديد.

لقد أخبرنا الرسول صلى الله عله وسلم أن مما فضل به على بقية الأنبياء أن الأرض جعلت له مسجداً. وقد حقق المسلمون السابقون العظماء "مسجدية الأرض" في كل الأرض التي هاجروا إليها، فهل يمكننا أن نستأنف المسيرة ونحذوا حذوهم.

فلعل الأرض تتخلص من الغيوم السوداء المتلبّدة وتعود مسجدًا طهورًا. ولعل الله يجري على أيدينا وأيدي المستخلفين من بعدنا نهراً جديداً للإيمان، وتاريخاً جديداً تتعانق فيه راية الوحي مع العلم، والحق مع القوة، ويسود العدل الشامل والرحمة المحمدية العالمية كل الكون... وما ذلك على الله بعزيز!

 

 

الهجرة .. عبرة وعبور..!

 

التقويم الهجري يؤرخ لحدث عظيم في تاريخ الإسلام ، حدث كان بمثابة انقلاب وانعطاف سيطبع تاريخ البشرية جمعاء.

أراد الله سبحانه وتعالى أن ينقل المؤمنين من ضيق العيش إلى سعته ، ومن ظلم وجور القريب إلى بر وإحسان النصير ، نقلة من أجواء الحصار إلى محضن الإيواء والجوار.. هجرة من دار أبت أن تحتضن دعوة التوحيد إلى حين ، نحو بلدة حنت إليها، فحل بها الأنس وأشرقت أرضها نورا وفاحت أجواؤها طيبا..

هاجر الرسول  r من مكة أحب أرض الله إلى قلبه ، هاجر ملبيا أمر ربه نحو المدينة ، نحو قدر الله ولا خيرة له عليه الصلاة والسلام ، فقد اختار الله ، فصار اختيار الله أحب إليه عليه السلام من كل ما سواه.

" سلنا غيرها ..!"

جاء نفر من مشيخة قريش يطلبون أبو طالب ليسألوه أن يمنع بن أخيه من سب آلهتهم وتسفيه أحلامهم على أن يتركوه ويدعوه وإلهه، فكان رد النبي  r أن قال لعمه : " أي عم ، أولا أدعوهم إلى ما هو خير لهم منها : قال : وإلى ما تدعوهم ؟ قال : أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة تدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم . قال: فقال أبو جهل من بين القوم : ما هي وأبيك ؟ لنعطينكها وعشرا أمثالها. قال : تقول : لا إله إلا الله .قال : فنفروا وقالوا : سلنا غيرها ." (1).

هذا من قومه..قريب من عشيرته ، يعلم فضله عليه الصلاة والسلام وصدقه ، لكنه أبى واستكبر وتمنع ، بل إن قريشا كلها لم تنكر صدق الرسول عليه الصلاة والسلام ، لكن كبار القوم ما كانوا ليقبلوا دينا يسوي بينهم وبين الفقير الوضيع ، ما كانوا ليعتنقوا عقيدة من شرائعها عتق رقاب العبيد لتخضع لرب العباد ، ما كانوا ليومنوا بدين يجعل الفضل والقرب في أتقى الناس وليس في أغناهم أو أحسنهم مظهرا وأكرمهم نسبا.. منعهم كبرهم وكبرياءهم أن يلتفتوا وينتبهوا إلى ما وراء ذلك الإيمان وتلك التلبية لدعوة التوحيد ، تولوا فخسروا الدنيا والآخرة ..

القريب يتجهمك ويحاصرك ويظلمك وهو يدرك صدقك ويعلم سريرتك وأنك تريد الخير ، رغم ذلك يَمْتنع ويَتَمَنع و يأبى أن يَتبِع .. فيَضِيع ويُضَيِع ..

هذا كان مع من بعثه الله رحمة للعالمين فما بالنا نحن..؟ ما بالنا نضجر ونغضب إذا نهرنا أحد أو تجهم ؟ ما بالنا نضيق ونصخب إذا حاصرنا أحد أو ظلم ؟ لا نرضى بالظلم ولا نقبل الحصار ولا نعطي الدنية من أنفسنا.. بدعوى الصبر والرضى بقدر الله ، بل نرفض وندافع ونحاول رفع الظلم لكن برفق وبدون تعصب أو تطرف ، نهرب من قدر الظلم والحصار والاستبداد طلبا لقدر العدل والشورى والإحسان

قد لا نقول كل الحق اليوم رفقا بالناس وتدرجا بهم .. لكن لا نقول ولا نُسهم ولا نبرر الباطل أبدا..

بعيد .. " .. وإنها لحق! "

وهذا رجل من بني عامر بن صَعْصَعَة يقال له بَحِيرة بن فِراس ، كان رسول الله  r قد جلس إلى قومه يدعوهم إلى الله ويعرض عليهم نفسه ،يقول : " والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش لأكلت به العرب. ثم قال له : أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ، ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك ..؟ ( 2)

فبماذا سيملك هذا الرجل من غير قريش رقاب العرب ؟ وما هو هذا الأمر الذي يسأل الرسول الكريم أن يكون في قومه بعده؟

ما وعده الرسول  r بشيء من أمر الدنيا.. إنما هي الجنة ..!

عاد النبي  r راجعا من الطائف إلى مكة ودخل في جوار المطعم بن عدي وهو من المشركين ، ثم واصل دعوته سرا وعلانية ، وكان يعرض نفسه على الناس في المواسم ، فكان ممن أتاهم من القبائل ، قبيلة كِنْدَة وبطن بني عبد الله من قبيلة كلب وبني حنيفة وبني عامر بن صَعْصَعَة ، فما أجابه إلى ما يدعوهم إليه أحد إلا ما كان من أمر شيخ بني عامر بن صعصعة ، وكان لا يخرج إلى المواسم لعجزه وكبر سنه ، فقد أخبره قومه عن أحداث وأخبار الموسم الذي كانوا فيه وعن ما كان من خبر محمد بن عبد الله ،  r ، ونبوته فقال لهم وهو يتحسر.. : " ... والذي نفس فلان بيده ما تَقَوَلَهَا إسماعيلي قط ! وإنها لحق ، فأين كان رأيكم عنه ! "( 3)

رجال من غير قومه أدركوا أهمية وفضل ما يدعو إليه عليه الصلاة والسلام ، في الدنيا " ..أيكون لنا الأمر بعدك .." وفي الآخرة ".. وإنها لحق .." علموا أن ما يدعو إليه سيكون لهم فيه النصيب الأوفر والفضل الأكبر، فما أرادوا أن يسبقهم إليه أحد .. حرص على الاستئثار بالخير ، ونعم الحرص !

عبرة وعبور .

لا هجرة بعد اليوم ، لكن نية وجهاد ، لا هجرة بعد اليوم لكن عبرة وعبور..!

عبرة نستلهمها من ذلك الحدث الذي غير مجرى حياة البشرية ، فنقلها من ظلام وظلم الناس للناس إلى نور وعدل إله الناس ، ما كان للبشرية أن تهنأ لولا الإسلام . ما كان لها أن تسعد لولا رحمة ورفق وتؤدة الإسلام . الإسلام علم العالم كيف يكون الجوار وكيف يحسن المرء إلى زوجه وكيف يسالم ويقاتل وكيف يصل ويقطع و كيف يعطي ويمنع .. الإسلام ربى الناس على الخير ونمى فيهم إلى جانب حب الآخرة حب الحياة وعمارة الأرض بالخير..

وهي هجرة وصل و عبور من ذلك العهد إلى عهدنا وما أدراك ما عهدنا ! عهدنا يشهد إعادة فتل ما انتقض من عرى الإسلام لتهيئة أجواء استقبال أمر الله..عهدنا هو نهاية استبداد كل ظالم ونهاية انكماش قوة الإسلام..عهدنا هو زمان العزة والنصر والمنعة والظفر..عهدنا نور على نور.. عهدنا يقظة وهمة وقيام من كبوة وعودة..

قدر الله بين أيدينا يدعو وينادينا ويصدع بالخير فينا ، يعلن ويبطن و يجهر ويسر بالليل و النهار و يأخذ بحجزنا ويدفعنا في صفه مع ركبه .. والله إنه لحق يأتيه التأييد من الغيب والشهادة ، والله انه لصدق برهانه ما يراه الناس وتراه .. أَنُسْبَق إليه وقد نشأ بيننا ، أيحتضنه وينصره غيرنا ونحن أولى به وأجدر ؟ لا والله لسنا فيه من الزاهدين ولسنا عنه راغبون ..

كان الله عز وجل يهيئ الأسباب ويذلل الصعاب ، ولما أراد إظهار دينه ، خرج الرسول  r في أحد المواسم وبينما كان يعرض نفسه على قبائل العرب لقي عند العقبة رهطا من الخزرج وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن: " فقال بعضهم لبعض : تعلمن والله إنه النبي الذي تُوعِدُكم به يهود ، فلا يَسْبِقُنكم إليه " (4) ، فكانت هذه هي أولى الوفود التي آمنت بالدعوة الإسلامية من خارج مكة فتمت بذلك بيعة العقبة الأولى . ثم تلاها لقاءان آخران ، لقاء العقبة الثانية وقد حضر فيه إثنا عشر رجلا من الأنصار وبايعوا رسول الله  r بيعة النساء.

وبعد ذلك ، وقد فشا الإسلام في يثرب ، خرج مسلمو الأنصار إلى الموسم وتواعدوا مع الرسول  r ، على لقاء آخر ، فكانت بيعة الحرب التي حضرها سبعون رجلا وامرأتان ، وقد بايعوا على أن يمنعوا الرسول  r مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم .

 

شهادة ودلالة.

كتب الله على نفسه ليغلبن هو ورسله ، وهو سبحانه يعلم حيث يجعل رسالاته ، ويجعل لكل أجل كتاب .

دعوة العدل والإحسان بيننا ، والرجل الذي جاء بها بين ظهرانينا ، يسير على أثر الرسول الكريم  r ، لا نزكي على الله أحدا ، إنما أقول ما شهد له به علماء الأمة في المشرق والمغرب ، بل ما شهد له به غير المسلمين ، أعرف خير الرجل لأنه كان ولا يزال دليلي إلى الخير ، أعرف فضله لأن ديني ينهاني أن أنسى فضل من أحسن إلي ..

الأستاذ عبد السلام ياسين مرشد جماعة العدل والإحسان ما زال بيننا ، وقد كان بيته في يوم من الأيام مفتوحا للجميع ، فجاء قدر الحصار ومنع عنه الزوار لفترة .. ثم رفع عنه بعض ذلك الحصار لكن لا يعلم أحد ماذا تخبئه الأقدار؟

من بلغه خبره يغبطنا نحن المغاربة ، يقول لنا " إن عندكم رجلا مباركا قد حِيز له الفضل فتشبثوا به واتبعوا دعوته وانصروه.."

من علم فضله من علماء المسلمين يرجو ويتمنى على الله أن يكتب له فرصة زيارته والجلوس إليه ..

من أدرك ما يدعو إليه يود لو أنه بينهم ومعهم ..

الناس يطلبون الرجل من خارج بلدنا ، والله إنهم يتشوفون ويرجون رؤيته ومشافهته ، ليس تبركا ولا تقديسا ولا تقربا مبتدعا ولا تدليسا ، إنما ليقينهم بأن ما يدعو إليه الرجل هو الحق وهو أحق أن يتبع ، فالعبرة العبرة ، فلا يسبقننا إليه أحد ، لا نمانع الأقدار ولا نصانع ، بل نوافق ونسابق ، ونرجو الله أن يبارك ويجعل ما نريد في ما يريد ..والحمد لله الحميد المجيد.

1

 

nassimbishra

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

  • Currently 45/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
15 تصويتات / 273 مشاهدة
نشرت فى 30 نوفمبر 2010 بواسطة nassimbishra

ساحة النقاش

نسيم الظواهرى بشارة

nassimbishra
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

1,035,211

ملحمة التحرير