<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
غالبا : ما تكون السرية بالأمر : عونا على قضائه ، وطريقا جيدا لإتمامه ، وأسلوبا نافعا لإنجاحه .
وهذه السرية الواعية النافعة المتعقلة ، نلحظها درسا هاما _ عمليا _ واضحا كل الوضوح ، في حادث الهجرة النبوية .
وبيان ذلك على النحو التالي :
أ _ لم يعلم بحادث الهجرة _ حين الخروج _ سوى علي بن أبي طالب بسبب دوره المطلوب ، وأبو بكر لأنه الصاحب فيها والرفيق ، وآل أبي بكر للتغطية ، والدور المطلوب كذلك ، وعامر بن فهيرة بسبب دوره كذلك ، وعبد الله بن أريقط ، الأجير المشرك ، لدوره المعروف ، وليس هؤلاء بالعدد الكثير بالنسبة لهذا الحدث الجليل .
ب _ طلب النبي r أن يختلي وينفرد بأبي بكر حين أراد مفاتحته في أمر الهجرة .
فعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها : أنها قالت " أتانا رسول الله r بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها ، قالت : فلما دخل ، تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله r ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي " أسماء " بنت أبي بكر ، فقال رسول الله r : أخرج عني من عندك ، فقال يا رسول الله . . إنهما ابنتاي ، وما ذاك فداك أبي وأمي . . ؟ " 53 "
ولو لم يوثقهما أبو بكر ، ولو لم يؤكد للنبي r بهذا القول أنهما على مستوى عال من كتمان الأمر ، وصيانته : لما تحدث النبي r بأمر الهجرة أمامهما .
وقد أثبتت أحداث الهجرة المبكرة ، صدق تزكية أبي بكر لهما ، وأنه لا دخل للعاطفة _ بل الدخل لحسن التربية _ في هذه التزكية ، فيما قامت به السيدة أسماء بنت أبي بكر مما لا يتسع له المقام ، وهو مبسوط في كتب السيرة ؛ وقد نتعرض لبعضه فيما يلي .
ج _ ذهاب النبي r لأبي بكر في ساعة ، لا تكاد ترى فيها أحدا في شوارع مكة أو شعابها من قيظ الشمس وشدة الحر ، متقنعا _ كما في رواية البخاري _ متخفيا . "53 "
وكذلك : عدم خروجهما من باب البيت الأمامي ، بل من خوخة _ باب صغير خلفي _ في ظهر البيت ، حتى لا يراهما _ إن وجد _ أحد .
د _ عدم إعلام النبي r لأحد من هؤلاء الذين علموا إلا في اللحظات الأخيرة ، صيانة للسر من ذيوعه ، وصيانة لهم من مخاطر كتمانه .
وهذا درس يرينا : منزلة السر ، ومكانة كتمانه ، وإذا كانت صيانة السر وعدم إفشائه واجب إسلامي مطلوب ، وأدب إسلامي مرغوب بصفة عامة ، فهو في أمور الدعوة الحركية أولى وأوجب ، سواء كان منك أو من غيرك ، لك أو لغيرك .
فهذا يوسف عليه السلام ، فيما يحكيه الله تعالى عن والده يعقوب صلوات الله وسلامه عليهما ، وهو يقول له معلما إياه أهمية السر ووجوب صيانته ( يا بني لا تقصص رؤياك على اخوتك فيكيدوا لك كيدا ) " 54
ويقول علي رضي الله عنه :"سرك أسيرك ، فإذا تكلمت به : صرت أسيره" "52"
ويقولون :من حصن سره ، فله بذلك خصلتان : الظفر بحاجته ، والسلامة من السطوات . " 52 "
وليس الأمر في ذلك خاص بالأفراد فقط .
بل هو عام : في الأفراد ، والأسر ، والجماعات ، والدول ؛ إذ كل منهم ينبغي أن يحتفظ بالسر ، ولا يطلع عليه أحدا .
وإن كبرى الدول وصغراها لترصد من ميزانياتها ، وأموالها ، الشيء الكثير من أجل الإنفاق على وسائل الاحتفاظ بأسرارها ، وصيانتها من أن يعرفها أحد ، وفي الوقت نفسه : لتعرف أسرار أعدائها ، وتكشف عن مخبوء نواياهم ، إما للنيل منهم ، أو رغبة في صيانة نفسها ، وحماية شعوبها ، من كيدهم وعدوانهم .
وما ذاك : إلا لأهمية هذه الأسرار _ لديها ، أو لدى غيرها _ وخطورتها .
والعاقل : من استطاع أن يكتم السر ويحتفظ به ، لا أن يفشيه ويذيعه ، ومن لا سر له : لا عقل له .
ومن لا يستطيع أن يحفظ سره : لا أمانة ولا أمان له ، ولا ينبغي أن يوكل إليه أمر ، أو تستند إليه مهمة ، أو يكلف بواجب .
وكم من إظهار سر : أراق دم صاحبه ، ومنعه من بلوغ مآربه ، ولو كتمه لأمن ضرره وسطوته . " 52 "
ومن الخطأ البين : ما يظنه البعض من أن كتمان السر أمر مطلوب بالنسبة لأناس بعينهم ، وهو على غيرهم كلأ مباح ؛ حيث إن السر ما سمي بذلك إلا لطلب عموم كتمانه .
ولذا يقال : انفرد بسرك . . لا تودعه حازما فيزل ، ولا جاهلا فيخون " " 54 "
وما قد يفعله البعض ، مما يحكيه الأحنف بن قيس ، إذ يقول : " يضيق صدر الرجل بسره ، فإذا حدث به أحدا قال أكتمه علي " "52 " ، وبذلك : سرعان ما يذيع وينتشر .
والعاقل من تمثل بقول كعب بن سعد الغنوي ، إذ يقول :
ولست بمبد للرجال سريرتي ولا أنا عن أسرارهم بسؤول
وقد أطلنا في التعقيب على هذا الدرس : لأن أمناء الأسرار _ كما يقولون _ أقل وجودا من أمناء الأحوال ، وحفظ الأموال أيسر من كتمان الأسرار ، لأن إحراز الأموال بالأبواب والأقفال ، وإحراز الأسرار بارزة يذيعها لسان ناطق ، ويشيعها كلام سابق ، وحمل الأسرار أثقل من حمل الأموال ، فإن الرجل يستقل بالحمل الثقيل فيحمله ويمشي به ، ولا يستطيع كتم السر ، وإن الرجل يكون سره في قلبه : فيلحقه من القلق والكرب ما لا يلحقه من حمل الأثقال ، فإذا أذاعه استراح قلبه ، وسكن خاطره ، وكأنما ألقى عن نفسه حملا ثقيلا " " 52 "
ومن هنا : تكمن خطورة الأسرار ، ويثقل حفظها ، وتسهل إذاعتها .
والداعية الواعي : من يكون على قدر المسئولية ، وعلى مستوى الفهم والامتثال لهذا الدرس في حفظ السر .
ــــــــــــ
ساحة النقاش