سراب " النضيرة " .. !! قصة قصيرة
نضيرة الجمال ، بديعة الحسن تلك الفتاة التى راحت تتثاءت من غفوتها الحالمة وأخذت تمد ذراعيها فى تنهيدة طويلة ، وتفرك بلطف عينيها لتطالع ما حولها فى حجرتها الواسعة ، فرمقت الستائر الحريرية على النافذة وقد تخللتها شعاعات شمس الظهيرة فنهضت من سريرها الممدود وقد تبعثرت وساداته المنضوضة بريش النعام ، بألوانها الحالمة ، ومشت إلى النافذة لتفتحها ، فهبت نفحات من الريح تطايرت معها الستائر المطرزة الرقيقة ، فمشت خطوات فى شرفتها وتطلعت من وراء الدرابزين القصير إلى البساتين الخضراء الممتدة على مساحات شاسعة ، وقد انتشرت فيها الأشجار الوارفة بظلالها المتناثرة ، وثمارها الناضجة وقد تدلت من أغصانها الخضراء المتمايلة ، بينما توسطت أحواض الورود والزهور المنسقة البساط الأخضر للحدائق الغناء ، وتعددت النافورات بمياهها المتدفقة ورشاشاتها تنثر رزازها فى الهواء وقد ترصعت أحواضها بالنقوش الجميلة ، وتماثيل الطيور والسباع على اطرافها ، فاطمأنت نفسها لما تراه من حولها من مظاهر النعماء والثراء الواسع ، وبينما هى تستدير للعودة إلى غرفتها رمقت من بعيد وعلى مدى الأفق معسكرات الجند على التلال المحيطة بأسوار القصر الكبير ، فعادت تنظر إليها ببصرها وقد صدمها مشهد الجند المحتشدين من بعيد أمام أسوار المدينة وتذكرت من فورها الواقع المؤلم الذى تعيشه مدينتها الجميلة المحصنة ذات القوة والثراء نافذة الحضارة والرقى ، حاضرة الفرات المحاصرة ..
صحت الأميرة " النضيرة " وهذا أسمها الذى سميت به لنضارتها وجمالها الأخاذ من عالمها الحالم إلى الواقع الذى تعيشه بلادها ، وقد حاصرها الأعداء من جيش الفرس ، فى محاولاتهم المتعددة لاقتحام مدينتها التى تسمت بالـ " الحـَضـَر " كناية عن تمدنها وتحضرها ونهضتها على سائر المدن التى من حولها ، وما لديها من جمال الطبيعة وموقع فريد بقرب نهر الفرات بمياهه العذبة الفريدة ، وما تملكة تلك الحاضرة من اراضى وزراعات وبساتين غناء ، وتجارة رائجة بين بلاد الشرق والغرب ، وما تملكه من جيش قوى وحصن منيع ، وخزائن الغلال وصهاريج المياة تكفيها وطأة الحصار وقلة الموارد لفترات طويلة تمتد لسنوات طويلة لا يعلم مداها إلا الله ..
ها قد مضى أكثر من عامين على هذا الحصار المتواصل ، وقد انهكت المدينة المحاصرة ، وبعد أن عاشت عقوداً من الثراء والترف والنعم ، فهاهى تعانى من ويلات الحصار ومصائب الجوع ومشاعر القلق والخوف من الإنهيار والضياع ..
فبعد أن إنتهز " الساطرون " ملك مملكة الحضر غيبة إمبراطور الفرس فى حربه ضد المتمردين فى اقصى الشرق لبلاد الصحراء فى ساجستان وكرمان ، حتى هاجم الحدود الغربية لأراضى الفرس ، واستولى على الغنائم والأسرى والسبايا ومنهن أخت الإمبراطور سابور نفسه إمبراطور الفرس .. فلما عاد سابور منتصراً على المتمردين ، تفرغ لعقاب ملك " الحضر " الساطرون ، فاعاد تجييش الجيوش ، وشن حملة عسكرية ضارية للقضاء على مملكة الحضر إنتقاماً من ملكها ..
لم يجد الملك الساطرون ما يسلية ويلهيه عن واقع الحصار المؤلم سوى السهر فى مجالس الأنس المتعاقبة ومن حوله الجوارى من المطربات والراقصات يأكل اطيب الطعام ، ويتجرع كؤوس الخمر بنهم لا يفتر .. بينما يتولى قادة جيشة المخلصين لبلادهم مهام حراسة أسوار المدينة والدفاع عنها من هجمات عدوهم المتكررة على مدى العامين الماضيين ، واستمروا صامدين فى الدفاع عن مملكتهم وأسوارها ..
عادت الأميرة الحسناء إلى مخدعها وقد احاطت بها الجوارى يدللنها فاصطحبنها إلى الحمام وجـَمـَلوها فارتدت أجمل الثياب ، وتعطرت بأفخر العطور .. واحمرت بشرة يداها الملساء الرقيقة من لمسات الجوارى وهن يرطبن بشرتها بالزيوت الخالصة التى جلبت من اسقاع الدنيا للعناية بالأميرة وبشرتها البيضاء الرقيقة وقد اوشكت الدماء أن تسيل منها لفرط رقتها وشفافيتها ..
عادت الأميرة لتدخل شرفتها من جديد لتطالع أسوار المدينة المحاصرة وتراقب وتتأمل حركة جند الأعداء المحتشدين أمام الأسوار ، فقصر الملك الذى تعيش فيه يتوسط هضبة عالية تطل على الأسوار ، وترى الأرض الممتدة أمامها وحركة جيش العدو ومعسكراته المحيطة بالمدينة المحاصرة ..
وبينما الأميرة تنظر إلى حشود الأعداء أمام الأسوار ، فوجئت بحركة كبيرة فى معسكر الأعداء ، وموكب كبير للإمبراطور سابور الشاب اليافع وقد وضِعت له مظلة كبيرة لينظر منها إلى المدينة المحاصرة ، وفى هذه اللحظات كانت الأميرة تنظر إلى موكبه وبهاء سلطانه وسعة ثرائه ، بينما راحت وصيفة الأميرة تداعبها وتدللها وهى إحدى سبايا الفرس اللائى جلبن فى الأسر الأخير ، فقالت لها الأميرة تسألها .. : لقد عشت يا ساهان فى قصور الملك سابور .. فهل رأيتيه عن قرب .. ؟ فقالت : بالطبع يا مولاتى الأميرة فقد رأيته حينما يأتى لزيارة شقيقته فى قصرها الشتوى غرب فارس لمرات عديدة .. فسألتها قائلة : صفيه لى ساهان .. فقالت ساهان : هو شاب يافع لم يتعدى الثلاثين من عمره .. رائع الخلقة ، قوى البنيان .. مقاتل جسور ، لا يهاب الموت .. فسألتها الأميرة : هل له زوجة .. ؟ فقالت : نعم سيدتى الأميرة ، وهى من أسرة مـَلكية ، فسألتها : وهل يحبها ؟ .. فقالت الوصيفة الفارسية : لا أستطيع أن أؤكد ذلك ، فله العديد من الجوارى ، وهو شغوف بالجمال دائم البحث عن إمرأة تأسر قلبه .. تعجبت الأميرة بقول ساهان فسألتها : وكيف عرفت بهذا .. ؟ فقالت الوصيفة : الجوارى يذكرن ذلك فيما بينهن ، وكل واحدة منهن تمنى نفسها بأن تكون المتربعة على عرش قلبه .. !! ثم تابعت قائلة: ملعونة تلك الحرب ، فلولاها ربما كنت مولاتى تلك العروس .. فمن فى الدنيا غيرك مولاتى تليق بعرش فارس ..
لم تطل الأميرة التفكير ، فهى تعرف الإمبراطور العظيم وسيرته التى تملأ الدنيا عن ثرائه وشبابه وقوته وعظمة عرشه وقوة جيوشه وجمال خلقته ، فحدثتها نفسها أن تتقرب إليه لتفوز بعرشه ، وقد حرضتها الوصيفة الفارسية التى لا تنسى أنها فارسية أسيرة تريد أن تهرب من أسرها ، فوجدت فى إغواء الأمير المدللة الصغيرة بغيتها لكى تنفث فى