* توهج مرتجف *
.
المقهى يعج بالناس , زوبعة مناقشاتهم و أحاديثهم المجنونة تهز المكان , هموم قوم تنفجر , يلوكون الكلمات , يحولونها إلى مضغ لينة , تختلط الرغبات لتكون فيما بينها سنفونية الحياة البائسة.
أحمد يرمقني بشيء من الغرابة , هذه وسيلته في إثارة الحديث بيننا , لكن هذه المرة لم أقل شيئا , بقيت أحدق في وجهه , وقلبي يرثي حاله التعيس.
كلما رأيتك يا صديقي تجتمع في مخيلتي كل معاني الشفقة أرثي حالك المنسوخ , أتأمل الخطوط المطلسمة التي رسمها الزمن على جبهتك , أشكالها صعب تفسيرها.
كم أنت طيب القلب يا رفيقي , حبك للفن و الجمال أوقعك في ظلام حالك قاتل , إنك تتقزم كل يوم , حياتك كلها علامات تعجب و استفهام.
مند نعومة أظافرك رحت تطارد فراشات خيالية , تقتفي أثر رموز و تمويهات لا معنى لها , تتيه وجدا بالأوراق المملوءة كتابة , تجعل من الحروف عقدا براقة ومن الكلمات عطرا منعشا.
أذكر جيدا ذلك اليوم , لقيتك دون ميعاد و زهو الحياة و مرحها يزين ملامح وجهك , وقتها لم ترمقني بغرابة بادرتك بالسؤال عن السبب , جاء ردك بعد تلعثم غير مألوف : لقد ... لقد نشرت أول قصائدي ... رقصت أمامك فرحا .
تمر الأيام تباعا , تطلع قصائدك على صفحات الجرائد الواحدة تلو الأخرى , يخرج أول ديوان لك إلى السوق.
تتهاطل عليك رسائل المعجبين و المعجبات , تقرؤها بتمعن وتمتص منها رحيق العزيمة و المواصلة و الإصرار .
أنت تشبه ورقة التوت , لا يكون البريق و اللمعان إلا بعد تدميرها .
أشعر بيد تربت برفق على كتفي , ألتفت , أجد أحمد يضحك أين وصلت بك ناقة الأحلام , أعود بإحساسي إلى المكان , أحس بصداع خفيف يدغدغ جبهتي , إيه ... أنا هنا , لكن بعض الصداع يأخذ تفكيري , لكن ذعنا من هذا و حدثني عن أحوالك مع الإبداع و معاناتك مع الكتابة الأدبية .
يرمقني بشرود باهت , يتغير لون وجهه , تظهر تجاعيد جديدة على خديه و جبهته , يفتح فمه كسمكة تبحث عن الهواء , الكتابة عالم آخر يا رفيقي , ليتني أستطيع الرجوع لكن الطريق أقترب من النهاية و العودة مستحيلة.
أكتب كثيرا , أمزق أعدادا لا تحصى من الأوراق , ولادة عسيرة و الأبناء مصيرهم التشرد.
قصائدي تتسول عبر الطرقات و الأزقة الضيقة , يتيمة رغم وجودي , أحيانا أشعر أنني بريء من كل ما قلته , شبابي كله أهديته لعالم الأفكار و الخيال , أقمت عشرين سنة في المدينة أكتب و أتسكع , أروي لأشجار الحدائق المدللة قصة أشجار قريتنا و حياة الهدوء و الصحة التي تعيشها , تجيبني بأسف و حسرة , لكن معاني حركات أغصانها لا أفهمها.
يسكت دون سابق إنذار ما تبقى لا أعرفه لأنه متعلق بحل طلاسم الخطوط المتشابكة المرسومة على صفحة خديه و جبهته.
.
زويتن الهادي
ـأرشيـــــفـــــ