اقْـتِـرَافُ المَـشِـيـئـَةِ
ـ 2 ـ
لَمْ يَكُن هُـوَ الـوَجْـدُ فِي أَصْـلِ تَكْـوِينِهِ الَّـذِي يُحَرِّكُ الرَّجُلَ الَّذِي هُوَ رَجُلٌ
رُوحَاً وَطِينَةً بِحَيْثُ يَهْفُو الجِرْمُ إِلَى مَعْشُوقِهِ كَهَيْكَلٍ مُرَادٍ مَرْغُوبٍ وَتَنْسَاقُ الرُّوحُ وَكَأَنَّهَا مَدْفُوعَةٌ دَفْعَاً إِلَى الفَنَاءِ فِي رُوحِ المَعْشُوقِ لَهْفَةً وَحَنِينَاً وَإِيمَانَاً لاَ يَنْتَابُهُ أَدْنَى شُعُورٍ بِالمُفَارَقَةِ؛وَلَكِنْ هَكَذا كَانَ؛وَلاَ تَسَل عَنْ سَبَبٍ وَلاَ تَبْحَث عَنْ عِلَّةٍ؛وَإِنَّمَا يُجِيبُـكَ صَاحِبُ الأَمْرِ إِذ هُوَ العَلِيمُ بِمَا دَارَ فِي كُنْهِ كِيَانِهِ المَلْمُوسِ وَالمَحْسُوسِ وَكَانَ يَشْعُرُ بِحَرَكَةِ النَّفْسِ وَاضْطَرَابَةِ الجَسَدِ وَيَعْرِفُ مِنْ ذاتِهِ لِمَ يَتَحَرَّكُ كُلُّ ذلِكَ وَمَا الهَدَفُ وَمَا الغَايَةُ مِنْ وَرَاءِ هَذِهِ الزَّلْزَلَةِ الَّتِي رَكَنَ لَهَا فَاسْتَكَانَ فَاسْتَسْلَمَ فَأَخَذهُ الهَذيَانُ كُلَّ مَأْخَذٍ فَلَوْ قُلْتَ لَهُ إِنَّـكَ تَهْذِي لَمَا أَجَابَكَ لأَنَّهُ يَقِفُ عَلَى ذلِكَ وَلاَ يَحْتَاجُ إِلَى تَنْبِيهٍ فَإِنَّمَا هِىَ لُحَيْظَةُ ضَعْفٍ آمَنَ بِهَا وَمَا زَالَ إِيمَانُهُ يَنْسَابُ رُوَيْدَاً رُوَيْدَاً حَتَّى اسْتَعْمَرَ هَذا الشَّبَحَ العَاقِلَ الذكِيَّ العَبْقَرِيَّ فَمَا يَنْطِقُ وَلاَ يَهْمِسُ إِلاَّ بِأَمْرٍ مِنْ ذلِكَ الخَفِيِّ المَجْهُولِ الَّذِي تَسَلَّطَ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالمَمْسُوسِ الَّذِي اخْتَرَقَتْهُ جِنِّيَّاتُ الهَوَى فَلاَ يَأْتِي وَلاَ يَذرُ إِلاَّ مَا وَافَقَ حَالَةَ العَاشِقِ الَّذِي عَمِىَ بَصَرُهُ عَنْ كُلِّ هَذِهِ العَوَالِمِ وَلَم يُبْصِر سِوَى هَذِهِ الحَبِيبَةِ البَعِيدَةِ القَرِيبَةِ؛وَصُمَّ سَمْعُهُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ هَمْسِهَا المُنْكِرِ عَلَيْهِ وَهِىَ فِي لَحْظَةٍ مِنْ لَحَظَاتِ مُعَانَاةِ الدَّهَشِ الشَّبِيهِ بِسُمٍّ قَتَّالٍ بَطِيءٍ يَمْضِي فِي المَفَاصِلِ وَأَجْزَاءِ البِنْيَةِ فَصَاحِبُهُ لاَ يَصْرُخُ مِنْ فَزَعٍ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِأَنَّ المَوْتَ يَتَسَرَّبُ إِلَيْهِ فِي هُدُوءٍ غَرِيبٍ يُشْبِهُ هَدْأَةَ مَنْ قَـد أَفَاقَ لِوَقْتِهِ مِنْ غَشْيَةِ الصَّرَعِ الَّتِي تَلَبَّسَتْهُ فَمَا يَدْرِي مَا هَذا العَالَمُ وَلاَ أَيْنَ هُـوَ؛فَوَارَحْمَتَاهُ؛وَيَا لَهُ مِنْ مَشْهَدٍ تَعَكَّرَ فِيهِ مَا تَعَكَّرَ؛وَتَنَكَّرَ فِيهِ مَا قَـد تَنَكَّرَ؛وَوَقَفَ المُحَالُ بَيْنَهُمَا فَلاَ يَدْرِي أَحَدُهَمَا كَيْفَ كَانَ ذلِكَ وَلاَ مَتَى؛وَإِنَّمَا هِىَ حَالَةُ هَذيَانٍ هِىَ فِي جِهَةٍ تُدَاعِبُ الأَمَلَ الكَسِيرَ وَتَرْجُوهُ أَنْ يَقُومَ وَأَن يَنْهَضَ مِنْ جَدِيدٍ بَعْدَ أَنْ أَيْأَسَتْهُ قَوَاصِمُ الدَّهْرِ وَقَوَارِعُهُ؛وَهِىَ فِي جِهَةٍ أُخْرَى تَنْزِفُ الحَسْرَةَ صَمْتَاً وَتَحْتَرِقُ أَسَىً غَيْرَ أَنَّهَا لاَ تَثـُورُ فِي وَجْهِهِ وَلَوْ ثارَت لانْقَمَعَ غَيْرَ أَنَّهَا كَانَت تَرْتَضِي عَلَى نَفْسِهَا أَنْ تَتَجَرَّعَ الصَّابَ وَالعَلْقَمَ عَلَى أَنْ تَرُدَّهُ عَمَّا هُوَ بِسَبِيلِهِ خَوْفَاً عَلَيْهِ وَحِفَاظَاً وَشَفَقَةً وَرِعَايَةً؛وَتِلْكَ قِصَّةٌ جَاءَ بِهَا القَدَرُ كَى تُوقِفَ الرَّاغِبَ فِي اقْتِنَاصِ رُؤْيَةِ مَشَاهِدِ الجَمَالِ عَلَى مَوْطِنٍ يَتَحَوَّلُ فِيهِ الرَّجُلُ الَّذِي ظَنَّ مِنْ نَفْسِهِ القُدْرَةَ عَلَى قَهْرِ ذلِكَ الَّذِي يَنْبِضُ تَحْتَ ضُلُوعِهِ إِلَى نَسْمَةٍ عَذرِيَّةٍ أَسَرَهَا الخَيَالُ وَقَيَّدَهَا حُبُّ الغَرَامِ الطَّاهِرِ النَّقِيِّ الشَّفِيفِ؛وَتَتَحَوَّلُ فِيهِ المَرْأَةُ الَّتِي عَاشَت تُحَاصِرُهَا الفِكْرَةُ الَّتِي لاَ تَعْرِفُ سِوَى الدَّمْعِ وَالشَّجَنِ وَاعْتِزَالِ الخَلْقِ وَالخَوْفِ مِنْهُم جَمِيعَاً إِلَى مَعْنَىً مِنْ مَعَانِي الحِكْمَةِ فِي أَسْمَى دَرَجَاتِهَا؛إِذ أَجَادَت مِنْ دُونِ وَعْيٍ وَلاَ تَرْتِيبٍ بَلْ هِىَ الفِطْرَةُ الكَامِنَةُ الخَبِيئَةُ أَن تَجْمَعَ بَيْنَ العَقْلَ المُدْرِكِ الَّذِي لاَ تَجْذِبُهُ الحَالاَتُ الإِنْسَانِيَّةُ مَهْمَا بَلَغَت مِنْ رُقِيٍّ وَعُذوبَةٍ فَهُوَ العَقْلُ القَانُونُ الَّذِي لاَ يَحِيدُ وَلاَ يَمَلُّ مِنْ الرِّبَاطِ عَلَى ثغْرٍ مَخُوفٍ؛وَبَيْنَ الرَّحْمَةِ حِينَمَا تَتَجَلَّى وَتُبْدِعُ أَجْمَلَ مَظَاهِرِ الإِبْدَاعِ وَآيَاتِ العَبْقَرِيَّةِ حَتَّى تَخَالَهَا وَمَا صَدَرَت إِلاَّ عَنْ رُوحٍ لَـمْ يُقَيَّد فِي كِتَابِهَا عَلَى امْتِدَادِ خَيْطِ العُمُرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا يُنَاقِضُ هَذِهِ الرَّحْمَةَ مِنْ مَعَانِي الصِّدَامِ وَالشِّدَّةِ وَالقَسْوَةِ؛وَهَذا هُوَ الفَارِقُ بَيْنَ عُذرِيَّةِ الهَوَى وَالغَرَامِ البَشَرِيِّ وَبَيْنَ عُذرِيَّةِ العَقْلِ الإِنْسَانِيِّ حِينَ يَتَجَسَّدُ نُورَاً لاَ تَرْبِطُهُ أَدْنَى وَشِيجَةٍ بِالطِّينِ أَوْ بِالنَّارِ !