الوجود العبثي والتمرد عند البير كامو
فواد الكنجي
<!--
الوصف و التشخيص، من اهم العناصر في الكتابة الأدبية والعمل الإبداعي اذ من خلالهما يكشف جوهر والطاقة المبدعة في النص الأدبي والإيحاءات والغوص في العالم اللا متناهي وهذا ما نشخصه في كل اعمال البير كامو (1913 - 1960) من رواية الغريب .. والطاعون.. والسقوط .. الوجه والقفا.. و المقصله- أعراس .. و الموت السعيد .. ومجموعة قصص قصيره ، المنفى والملكوت .. ومن أعماله الفكرية الإنسان المتمرد .. والإنسان الأول.. وأسطورة سيزيف .. ورسالة إلى صديق ألماني.. ، مثلما عرف بمسرحياته التراجيدية مثل العادلون.. وكاليغولا.. وسوء التفاهم.. ، وكلها أعمال رصينة تستحق الوقوف والتأمل فيها لان البير كامو يتعامل بكل صدق ووفاء مع ذات مبدعة أدركت واقعها ووسط البيئة التي تعيشها سياسيا واجتماعيا وتاريخيا، وبهذا الإدراك خرجت أعماله متكاملة بعد ان اطلع على مختلف المدارس الإبداعية والظواهر الفلسفية ليستكشف في المحصلة الاخيره منهجه الوجودي فتاتي أعماله ملهمة للوجوديين ليس في عصره فحسب بل في الاجيل اللاحقة، وقد أصبحت أعماله محطة استقطاب لكثير من المدارس الأدبية الي اخذت تدرس منهج البير كامو في الكتابة الوجودية التي تميزت بالعبث والتحدي والتمرد واللامبالاة وكانت نتيجة طبيعية لما عانته شعوب العالم وما ذاقته من ويلات الحرب العالمية الأولى والثانية وما خلفته في النفوس من العبث الحياة واللامبالاة والفوضى والمعانات واليأس والفقر والاغتراف والتمرد ، وهي موضوعات التي تنفس فيها (البير كامو) بعمق في كل كتباته وهي موضوعات التي بنت عليها الفلسفة الوجودية في اللاجدوى واللامبالاة واللامعقول في الحياة والبحث عن الحرية ليتنفس الانسان كانسان من كبوت النفس و الجسد، وهذه الافكار طرحها البير كامو في كل أعماله تقريبا، ففكرة ( اللاجدوى ) من الحياة هي من جعلت الإنسان متمردا على الحياة ذاتها ، قبل ان يكون متمردا في الحياة ، لان الحياة في ظل الفوضى والعبثية الصارخة في الحياة هي من جعلت الانسان لا يحتمل العيش والمضي قدما ، وهنا يسال البير كامو... هل الحياة تستحق ان تعاش ..؟ هل يكون الانتحار حلا..؟ كثير من هم يتسال ...!
والأكثر يجيب .. لا ..! .
أن غياب التفكيرٍ العميقٍ لمعنى الحياة هو الشكل الآخر لرتابة الحياة، بالتالي نعود نسأل ما جدوى من المعاناة آنذاك...؟ بالتأكيد ما من جدوى....!
يقول كامو: "..ان شعور بالعبث ياتي حينما يشعر الانسان ان الحياة بدون هدف، وانها مجرد روتين يومي .. وأعمال متكررة.. الأشياء ذاتها .. والمواعيد.. وأيام العطل .. وأيام العمل.. والأعياد.. وأشياء كثيرة تسير وِفقَ إيقاع واحد...، بذلك تولد شعورا بالعداء للعالم الذي نشعر تجاهه بلاغتراب وبالاغتراف، وأن الزمن الذي يقودنا لمضاعفة جهودنا هو عدونا الأول، وأن حقيقة الموت تكشف لنا عبثية الحياة، والعقل بطريقته الخاصة يقول لنا أن هذا العالم عبثي..".
ومن هنا تاتي النزعة العبثية وطبيعة التمرد لدى كامو وهذا ما نلتمسه في كتاب (أسطورة سيزيف) و (الإنسان المتمرد) وأيضاً في كتاب (الغريب) و(كاليغولا ) و (الوجه والقفا) و(المقصله- أعراس) - وإن كانا بدرجة متفاوتة - يمكن أن تفسر ولو تفسيرا جزئيا ما نجده عند الاحتفاء بفيض الحياة الحسية ويكون ذلك على أساس التطرف في النزعة العبثية ناتج عن الكبت لا عن الإفراط، واللهجة التي يستخدمها كامو تغلب عليها سمة من الوضوح تكون أقرب إلى مخالفة للنزعة العبثية، أما طبيعة التمرد في هذه الكتب فتوحي بوهج حاد وليس بشعاع رقيق يبعث النور والدفء، إن الإنسان المتمرد هو إذا في عرف ألبير كامو الإنسان الذي لم يعد يقنع أن يكون مهانا، لكنه يعرف في الوقت نفسه كيف يقول (لا) للشر الذي يأكله، كما يعرف في المقابل كيف يقول (نعم) للحياة، حتى وإن كانت عاجزة عن الإفلات، هي نفسها، من ذلك الشر، أما التناحر الدائم بين( لا ) و (نعم) فيجب ان يسمو على التمرد نفسه الذي من دون ذلك السمو قد يتحول الى نوع من الفلتان القاتل على طريقة كل شيء مباح للفلتان الذي لا يعرف الألم إلا كي يزيد إليه ألما إضافيا، فهو يفعل ذلك بذهن يترك الأثر بما يتصف به من الدقة وسلامة التفكير.
ويعد كتاب (أسطورة سيزيف) انتقالا مفاجئا من التعبير العبثي عن موقف تجاه الحياة إلى دراسة هذا الموقف ذاته دراسة عقلية نافذة، ويقصد كامو من لفظة (العبث) بوجه عام انعدام التوافق أو الانسجام بين حاجة الذهن إلى الترابط المنطقي وبين انعدام المنطق في تركيب العالم، الأمر الذي يكابده الذهن ويعاني منه، ويقول: "بالعبث توصلت لنتائج ثلاث؛ تمردي وحريتي ورغبتي" وعن طريق المعرفة استطعت أن أُغير كل ما يدعو للموت في قواعد الحياة التي أرفضها على أنها( الانتحار) ذاته، اما التعريف العام للعبث هو ذاك الصراع القائم بين مظهر العالم اللاعقلاني وتلك الرغبة المضطربة حول الصفاء والوضوح، فالعبث يكمن في وجود الانسان والعالم المشترك، وهو ينشأُ بتناقضِ الطرفين، والرابطة الوحيدة بينهما هي اللامنطقي والحنين الإنساني والعبث ذاته، تلك هي شخصيات الدراما( الثلاث) التي يجب أن تنتهي بشكلٍ منطقي بين التحدي والتمرد" ، ويقول كامو: "إن العبث لا يحرر الشخص بل يقيِده، وهو لا يضبطُ الأفعال بل يحقِق المساواة والتكافؤ" اذ لا تتحقق قيمة الحياة الا بالتمرد ، لان التمرد يحرض الانسان الى التفكير العميق تتجاوزه ذاته، و يقول" العبث لا يوصي بالجريمة لأنها عمل تافه وسخيف، والندم لا جدوى منه،لان الانسان وحده هو الذي يرسم نهايته الخاصة به" فالانسان عند البير كامو هو الذي يجمع بين العقل والجنون..، بين الفوضى والرتابة.. ، بين التوتر والاستقرار.. ويكون سلاحه في ذلك، التمرد.
فالتمرد.. عند كامو هو الانسان الذي يقول (لا) ...! ففي كتابه( الانسان المتمرد ) يقول كامو :
"ما الانسان المتمرد ؟ .. انه انسان الذي يقول ( لا ) "
ويقول كامو ".. ان التمرد ينشأ عن مشهد انعدام المنطق امام وضع جائر مستغلق ولكن توثبه الاعمى يطالب بالنظام وسط الفوضى وبالوحدة في صميم الزائل المتلاشي انه يصرخ يطالب بإلحاح .. يريد ان تتوقف المهزلة وان يستر اخيرا ما كان يسطر حتى الآن وبلا انقطاع على صفحة البحر ! وانه يريد ان يحول، ولكن التحويل معناه القيام بعمل والقيام بعمل معناه (غدا القتل) .. ! وفي حين انه لا يعلم هل القتل مشروع ، انه بالضبط يولد الأفعال التي يطلب اليه تبريرها.. "
ويقول ايضا " .. الانسان المتمرد هو الانسان الموجود قبل عالم القدسيات او بعده .. والمنهمك في المطالبة بوضع انساني تكون فيه جميع الأجوبة إنسانية .. اي مصاغة بشكل منطقي .. واعتبارا من هذه اللحظة يكون كل تساؤل .. كل كلام تمردا اما في عالم القدسيات يكون كل كلام حمدا او شكرا .. "
".. بالنسبة الى الفكر البشري لايوجد سوى عالمين .. عالم القدسيات و عالم التمرد .. وان اختفاء احدهما معناه ظهور الاخر.. "
".. ان حركة التمرد ليست في جوهرها حركة انانية قد يكون لديها ولا شك مقاصد أنانية ولكننا نتمرد ضد الكذب مثلما نتمرد ضد الاضطهاد كما ان المتمرد اعتبارا من هذه المقاصد وفي توثبه ألصميمي لا يصون شيئاً لانه يغامر بكل شيء ، لا جرم.. انه يطالب بالاحترام من اجل ذاته ولكن بمقدار ما يتوحد ذاتيا مع جماعة طبيعية.. "
".. اذا صح ان التمرد الغريزي للقلب الانساني يسير تدريجيا على امتداد القرون نحو وعيه الأعظم .. فقد تعاظمت أيضاً جرأته العمياء تعاظما مفرطا بحيث اعتزم الرد على القتل الشامل بالفتك الماورائي.. "
".. هناك في الظاهر المتمردون الذي يريدون ان يموتوا .. وأولئك الذي يريدون ان يموتوا ... ولكنهم هم .. محترقين بنار الرغبة في الحياة الحقة محرومين من الكينونة مفضلين حينئذ الجور المعمم على عدالة مشوهة.. "
".. ان التمرد لا يسعه ان يؤدي الى العزاء والراحة العقائدية دون ان يكف عن ان يكون تمردا.. "
".. ان الانسان يرفض العالم كما هو .. دون ان يرضى بالتخلي عنه.. "
".. ليس التمرد أبدا مطالبة بالحرية التامة .. فهو بالعكس يقاضي الحرية التامة وينكر السلطة المطلقة التي تتيح للمترئس انتهاك الحدود المحرمة.. "
".. المتمرد لا يطالب باستقلال عام بل يريد ان يسلم بأن للحرية حدودها حيثما وجد كائن انساني .. لان الحد هو بالضبط قدرة هذا الكائن على التمرد.. "
".. ليس من شك ان المتمرد يطالب بحرية معينة لشخصه .. ولكنه لا يطالب في اية حال من الاحوال بحق تحطيم كينونة الآخرين وحريتهم.. "
".. ان منطق التمرد هو الرغبة في خدمة العدالة كي لا يزيد في ظلم الوضع .. والسعي الى الكلام الواضح كي لا يكثف الكذب العام.. "
".. اننا جميعا نحمل في ذاتنا سجوننا وجرائمنا وفسادنا ولكن ليست مهمتنا ان نطلق لها العنان خلال العالم بل ان نحاربها في ذاتنا وفي الآخرين.. "
".. لا يستطيع الانسان حتى لو بذل قصارى جهده سوى ان يسعى الى تخفيف شقاء العالم تخفيفا حسابيا نسبيا لان الظلم والعذاب سيبقيان.. ومهما كانا محدودين فسيظلان فضيحة للانسانية اينما كانت.. "
".. ان حركة التمرد في الاصل تغير وجهتها بلمحة .. انها ليست سوى شهادة مضطربة .. اما الثورة فتبدأ اعتبارا من الفكرة، انها بالضبط ادخال الفكرة في التجربة التاريخية .. في حين ان التمرد هو فقط الحركة التي تقود من التجربة الفردية الى الفكرة.. "
".. ان تاريخ حركة التمرد حتى لو كان تاريخا جماعيا هو تاريخ ولوج في الوقائع بلا مخرج واحتجاج مبهم لا يستخدم مذاهب ولا أسباب ... اما الثورة فهي محاولة لتكيف الفعل على الفكرة ولصياغة العالم في اطار نظري ..لهذا السبب يقتل التمرد أناسا .. اما الثورة فتهلك أناسا وتهدم مبادئ في نفس الوقت .. !.. ".
وهكذا نجد كامو في كتابه ( الانسان المتمرد ) كما اطلعنا على بعض من فقرات الكتاب، فانه يركز على جملة من أفكار يقول في أولها ان ما يدفع الإنسان الى التمرد على الواقع إنما هو إحساسه ورغبته الى العدالة... أو بالأحرى كما يقول "رفضه الأنماط السائدة المقبولة من العدالة، كونها تثير نوعا من عدم الرضي لدى الفرد الخاضع لها"، وفي كتابه يسلط الضوء على دور الجريمة في طبيعة التمرد نفسه، وكذلك مسألة الدفاع عن ارتكاب الجرائم، التي تقدم بوصفها جزءا من طبيعة التمرد والثورة على مدى مراحل التاريخ المتفرقة، وإذ يصل كامو الى هذا الحد من تحليله، يفيدنا بأن المهم في نهاية الأمر إنما هو إعطاء الأفضلية السامية للأخلاق والمبادئ الأخلاقية، وتفضيل الخط السياسي على أي نوع من أنواع الفوضوية، اذ يقول كما جاء في كتابه ( الانسان المتمرد ) "..ان قتل البشر لا يؤدي الى شي .. اللهم الا الى قتل المزيد منهم .. ولتأمين انتصار مبدأ يجب القضاء على مبدأ.. كل فساد أخلاقي هو فساد سياسي والعكس بالعكس"، "..ان المؤسسات السياسية الوسيطة التي تشكل ضمانات الحرية في كل المجتمعات تختفي في الدول العسكرية كي تفسح المجال (لإله) حقود باطش يسود الجماهير الصامتة أو الهاتفة بالشعارات - والأمران سيئان - فلا توضع بين القائد والشعب مؤسسة تتكفل بالتوفيق بينهما بل يوضع الجهاز - اي الحزب الذي هو فيض عن القائد وأداة إرادته المضطهدة وهكذا يولد المبدأ الاول والوحيد في هذه العبادة الوضيعة ..مبدأ الزعامة الذي يقوى في عالم العدمية الصنمية والمقدسات المنحطة !.."، ونستشف من هذا الكلام بإن كل شيء يجرى هنا، بحسب كامو، وكأن برومثيوس، بعد انتصاره النهائي على زيوس، تحول الى (كاليغولا) ولكن فقط كي ينقذ الناس من أنفسهم، فهل ليس ثمة مخرج..؟ نعم إن كامو يقول لنا هنا انه طالما ان التمرد يحاصر بين القبول بالعنف والقبول بالعبودية، لا يعود الفعل المتمرد الحقيقي تسلحا بل لجوءا الى المؤسسات التي يكون عملها الحد من العنف لا تعزيزه...، ما يعني ان الموقف الوحيد الصالح للجميع هنا يقوم في وضع التمرد الخلاق وفعاليته، في مواجهة الاطلاقة التاريخية...
وعلى نحو هذا السياق فقد طرح كامو في (اسطورة سيزيف) الصادره عام 1942 وهو كتاب سبق كتاب (الانسان المتمرد) الصادر عام 1951 والذي تركز في البحث عن عبثية الحياة أي بمعنى ان (أسطورة سيزيف ) و( الانسان المتمرد ) هما بحوث في فكرة العبثية والتمرد.
ففي أسطورة سيزيف يتخذ كامو من سيزيف رمزا لوضع الإنسان في الوجود، وسيزيف("هو هذا الفتى الإغريقي الأسطوري الذي قدر عليه أن يصعد بصخرة إلى قمة جبل، ولكنها ما تلبث أن تسقط متدحرجة إلى السفح فيضطر إلى إصعادها من جديد، وهكذا للأبد...") وكامو يرى فيه الإنسان الذي قدر عليه الشقاء بلا جدوى، وقدر عليه الحياة بلا طائل، يلجأ إلى الفرار أما إلى موقف شوبنهاور الذي يطلق العنان للانتحار( طالما أن الحياة بلا معنى فلنقض عليها بالموت الإرادي أو بالانتحار)، وإما إلى موقف الاخرين الشاخصين بأبصارهم إلى حياة أعلى من الحياة، وهذا هو الانتحار الفلسفي ، ويقصد به الحركة التي ينكر بها الفكر نفسه ويحاول أن يتجاوز نفسه في نطاق ما يؤدي إلى نفيه، وإما إلى موقف التمرد على اللامعقول في الحياة مع بقائنا فيها غائصين في الأعماق ومعانقين للعدم، فإذا متنا (متنا متمردين لا مستسلمين) اعتمد البير كامو على أفكار المدارس الفلسفية المعاصرة عندما شكَل وجهة نظره الخاصة في مفهوم العبث والتمرد، وهنا أراد كامو أن ينظر نحو العمق إلى علاقة الوجود العبثي والشعور العبثي بالحياة والانتحار وبالأمل والحرية وتأثيرهما فيها و محاولا أن يفهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى( الانتحار) ، فتوصل إلى مفهوم (الشعور العبثي) حيث اعتبر أنه يظهر على أساس التناقض بين الإنسان والمحيط الخارجي، أو كما شبهه قائلا: " بين الممثل والديكورات. ففي حال تمكن الإنسان من تفسير العالم تفسيرا مقنعا، على الأقل، يصبح هذا العالم في نظره مفهوما ومقبولا إلى حد ما، لكن حينما يدرك (الإنسان) و (هم) هذا التفسير سرعان ما يشعر على الفور بنفسه غريبا في الكون، فيقف أمام سؤال: هل تستحق الحياة أن أعيشها...؟
وهنا يلد الشعور بالعبثي " ، وعلى هذ المنطق تاتي رواية ( الغريب ) حيث يركز كامو على بناء جمل مفككه ليبين أن العالم عبثي لا معنى له، وهذا النوع من السرد الذي يكون بعيدا عن التدرج الزمني والتحليل المنطقي، حينا يظهر على أنه غريب اجتماعيا .. وحينا آخر يظهر انه غريب فكريا.. ، لذلك يتجنب أسلوب التحليل والتعليل، فالرواية تمتد بين الماضي والحاضر ليعطي البير كامو لأحداث الرواية صفة الاستمرارية من ساعة وقوعها حتى ساعة سردها على لسان بطلها، لذا تنتمي رواية الغريب الى النهج (العدمي) ، لأن كامو يصور فيها الخواء الإنساني ويظهره بلون اسود على لوحة سوداء.
فقد كتبت رواية الغريب من اجل غير المعقول وضد غير المعقول، فمعرفة العالم في نظر الإنسان تتلخص في دمجها بالمفاهيم المتداولة عنده، ولكن هناك تناقضا بين الإنسان الذي يعتقد أنه يعرف وبين ما يعرفه في الواقع، ولا يمكن الاعتماد على النماذج الإبداعية، كالأدب والرسم وغيرهما، في التوصل إلى المعرفة الكاملة لأنها افتراضية، ولا على العلم لأنه قادر فقط على تمييز ظواهر معينة وتعدادها علما أن كامو اعتبر أن العالم ظاهرة غير عقلانية، وليس ظاهرة عبثية، فالعبثية تتلخص في اصطدام هذه الى اللامعرفة بالعالم و بالتعطش إلى الوضوح الذي يصرخ في روح الإنسان، فالعبث إنما يولد من اصطدام رغبة الإنسان بأن يكون سعيدا ويصل إلى عقلانية العالم، من جانب، مع اللاعقلانية الصامتة لهذا العالم، من جانب آخر، فرواية ( الغريب) التي كتبها كامو كتبها وهو تحت وطئ نفسي شديد وربما فكر كامو بنفسه كغريب وهو يكتب هذه الرواية، لانه كان يعرف ان مرض السل قد لا يمهله كثيرا وكان عليه ان يكتب بسرعة وهو مدرك لعبثية الحياة في ظل موت قد ياتي في اية لحظة....!
فقصة(الغريب) تدور حول شخصية الشاب (مورسو) الذي تلقى خبر وفاة أمه التي وضعها في ملجأ منذ ثلاث سنوات، بسبب عدم قدرته على الإنفاق عليها، وكذلك شعوره بأنها كانت تمل بحياتها الروتينية مثلما كان هو يمل من تواجدها معه .
تنقسم الرواية إلى حدثين ، يتمثل الأول أن الشاب يطلب إجازة من مديره لحضور جنازة أمه، فيذهب إلى (مرانكو) منطقة تبعد عن العاصمة بـ80 كم، وهناك يتبنى سلوكا في منتهى الغرابة، فرد فعله لموت أمه كان غريبا ، اذ بدأ غير متأثرا وغير مكترثا بما يدور حوله ، رفض رؤية أمه وهي في النعش، كما رفض البقاء وحده معها فطلب من الخادم البقاء معه، لم يكن يشعر بالذنب لوضع أمه في ملجأ، لم يكن يتكلم كثيرا لا مع الخادم ولا مع الحاضرين من أفراد الملجأ، ولا مع مدير الملجأ، كان يتأمل ويلاحظ أشياء ما كان عليه أن ينتبه إليها في ظرف كهذا، كان يتأمل بكيفية دقيقة كل ما يميز أصدقاء أمه الذين جاءوا ليسهروا على جثتها، فظلوا صامتين احتراما لروحها، فشعر للحظة و وكانهم اجتمعوا هنا ليحاكمونه، وهو جالس أمام النعش لم يظرف ولا دمعة واحدة، بل بالعكس فقد أزعجه بكاء إحدى النسوة من صديقات أمه، لأنه كان يعتقد أن هذا الميت الذي أمامهم لا يعني لهم شيئا ، ومع التعب والملل أحس برغبة في التدخين فلم يتحرج في إخراج سيجارة ليدخنها، واحدة له وأخرى للخادم ، وفي الليل ومع الأضواء الساطعة و التعب الشديد، لم يستطع مقاومة النعاس، فغفا ونام طوال الليل، في اليوم التالي، استيقظ وشرب قهوته كما يفضلها بالحليب، ثم أخذوا أمه للدفن، بعد أن رفض أن يختلي بها للمرة الأخيرة، وفي الطريق كان يتذمر من الحرارة الشديدة، والمسافة الطويلة التي قطعوها للوصول إلى المقبرة ، وعندما وصل وسئل عن عمر والدته اكتفى فقط بالقول بأنها عجوز مسنة، كونه يجهل سنها، بعد انتهاء مراسم الدفن، أحس بأن كل شيء تم بسرعة وبشكل طبيعي، وعندما عاد إلى بيته واصل حياته بشكل طبيعي جدا، وبما أنه كان اليوم التالي يوم سبت، فقد انصرف إلى الشاطئ ليستمتع بوقته مع صديقته (ماري)فيقضي معها وقتا ممتعا تصف الرواية مشاهد رائعه مع صديقه التي تعجبت عندما علمت أن أمه قد توفيت البارحة فقط ، أسبوعان قد مضى عن موت الأم، دعي الشاب وصديقته إلى الشاطئ من طرف جاره (ريمون)، أين يتواجد أحدا اصدقائه و زوجته ، وبينما كان يتجول في الشاطئ، يلتقي برجل ذي أصل عربي، كان قد تخاصم من قبل مع صديقه (ريمون) وضربه بالسكين، ولكن هذه المرة لم يكن ليخرج سكينه حتى أطلق عليه (مورسو) الرصاص، رصاصة واحدة ثم تلتها أربعة رصاصات أودت بحياة الرجل العربي ، وهنا أحس بأنه كسر الصمت الذي كانت تبعثه أمواج البحر، وهدم التوازن الذي أحاط يومه الرائع، فكانت أربع رصاصات أطلقها على باب التعاسة والشقاء، ومن هذه اللحظة يبدأ الحدث الثاني، والمتمثل في المحاكمة التي سوف تجرى له بعدما اعتقل لكونه قاتلا، هذه المحاكمة التي سوف تسفرعن البعد الفلسفي والنفسي والعقائدي لهذه الشخصية الغريبة ، حيث أنه سوف يحاكم على سلوكه اللا إنساني مع أمه، أكثر مما سوف يحاكم لقتله للرجل العربي ، يعتقل (مورسو) ويخضع لعدة استجوابات في مركز الشرطة، وعند قاضي التهذيب. عينوا له محاميا لأن الشاب رفض تعيين واحد لأنه وجد قضيته بسيطة وسهلة ، يسأله المحامي عن أمه وعن شعوره نحوها، لكن جوابه الصادق والساذج في نفس الوقت أزعج محاميه ، كما أجرى استجوابا آخر عند القاضي الذي أراد أن يعرف إن كان يحب أمه، ولماذا انتظر وقتا بين الطلقة الأولى والطلقات الأربعة الأخرى؛ لكن (مورسو) لم يظهر أي أسف أو ندم، وبقي صامتا ، قضى إحدى عشرة شهرا في الزنزانة قبل بدئ المحاكمة، وأثناء هذه المدة كانت تزوره (ماري) ، لكن في كل مرة الضجيج الذي تحدثه حوارات السجناء الآخرين مع عائلاتهم تجعل كلامها غير مفهوم، مما يجعل الشاب غير مركز لما تقوله،
عان المتهم كثيرا في البداية، فقد افتقد (البحر).. و(ماري).. و(السيجارة)، ولكنه تعود شيئا فشيئا لهذا الحرمان، ولم يعتبر نفسه بائسا، في صباح يوم الدعوى، يقر للشرطي بأنه مهتم جدا لفكرة رؤية وحضور هذه الدعوى، وهذا بحجة أنه لم تتوفر له مناسبة من قبل لحضور والمشاركة في أية دعوى ، كانت قاعة المحكمة مكتظة على آخرها، و(مورسو) يتأمل القاعة ويحس نفسه أنه مقصى من كل الحوارات، في البداية يستجوب الرئيس الشاب عن أمه، وعن قتل الرجل العربي، فيتوالى الشهود واحد تلوى الآخر، مدير الملجأ ثم الخادم، ومن خلالهم تعرف المحكمة أن (مورسو) لم يبك أمه، وأنه رفض رؤيتها للمرة الأخيرة، وأنه دخن في مكان تواجد جثة أمه ، مما جعل القاعة تتحير وتتعجب، و بإصرار النائب العام، تعترف (ماري) أن علاقتهما بدأت في اليوم التالي لموت الوالدة، وأنهما ذهبا في المساء لرؤية فيلم كوميدي في السينما، ويستنتج النائب العام أنه وفي اليوم التالي لموت الوالدة، هذا الرجل يذهب ليستحم في الشاطئ، يبدأ علاقات غرامية، ويذهب للضحك أمام فيلم كوميدي، والكلمات الأخيرة للنائب العام كانت مفحمة (إني أتهم هذا الرجل لأنه دفن أمه بقلب مجرم )، شعر (مورسو) بأنه مقصى من هذه الدعوى، من طرف حجج المحامين و من طرف حجج النائب العام، فهو يحضر الدعوى وكأنه غريب عنها، نتكلم عنه لكن دون أن نطلب رأيه، وهكذا يواصل النائب العام في اتهاماته ويدلي بأن الشاب كان ناويا على القتل ، فعدم المبالاة التي أظهرها أثناء موت أمه تدل على فقدانه للإحساس وبرودته، فيعتبر المتهم وحشا لا يوجد ما يفعله في مجتمع يجهل قوانينه الأساسية، ومن هنا طالب النائب العام بالعقوبة القصوى، قطع رأسه ، وللمرة الأولى يطلب الشاب الكلمة، ليبين بأنه لم تكن في نيته القتل ولكن الجريمة قد وقعت بسبب الشمس، وهنا يفهم المشهد الساخر الذي وضع نفسه فيه: تنفجر القاعة ضحكا، بعد المداولة ، يعلن القاضي الحكم المقرر ل(مورسو) ستقطع رأسه في مكان عمومي باسم الشعب الفرنسي، يرفض المتهم وللمرة الثالثة رؤية المرشد الديني، يتذكر والده الذي شاهد إعداما ذات مرة، ويخمن أنه لو كان حرا لشاهدهم كلهم، يفكر في احتمالية تجنبه الحكم، مما يجعله فرحا، ويفكر في ( ماري) التي توقفت عن مراسلته، عندما دخل المرشد الديني زنزانته، تجري محادثة بينهما وكلام المرشد المفعم بالأمل يغضب ( مورسو)، ويصر عليه أن يتوب، ولكن المحكوم بالإعدام يجيبه بأنه لا يعرف أصلا ما معنى الذنب وعند خروجه يخبره المرشد بأنه سوف يدعو له، ولكن الشاب يمسك بقميصه ويشتمه، بعد ذهاب المرشد، يجد (مورسو) الهدوء ويستسلم لليل الصيفي، ولأول مرة أحس أنه كان سعيدا، ولكي يكون كل شيء كما يريد، ولكي لا يحس بالوحدة، تمنى حضور الكثير من المتفرجين أثناء إعدامه وأن يستقبلوه بصيحات الكره .
في هذا الملخص لرواية (الغريب) ، نستشف بان الرواية تحاول اكتشاف أهم ما يقبع في نفس من آلام ويتأصل في الذات من التشاؤم نجد في الوقت نفسه اشتياقاً غامراً للسعادة، تلك الثنائية الدائمة التي كانت تلازم بطل الرواية الغريب ، فهل كان موريس وهو بطل (الغريب)، وهو في المحاكمة يحاول تبرير جريمته ؟ أو إثبات براءة ؟ طبعا (لا) ، لانه وقف صامتا ، فهل كان عاجزا ... ام انه كان يعبث ....؟ في أدب ألبير كامو، يبدو الإنسان عاجزا، أفعاله غير مبررة وغير مفهومة، هو يقتل ولا يعرف لماذا.. ؟ يموت من دون معرفة السبب..! (الله غائب) .. الإنسان هو الذي دمره، لكنه عجز أن يحل محله، ففي القرن العشرين، انتفض الإنسان على (الإله ) بعد ان شعر بقوة ما، ربما بسبب الاختراعات التكنولوجية، أو ربما بسبب تمكنه من التحكم بالمادة بفضل تطور العلوم، ولكن ظل حبيس الجسد لذا التجأ الى تحريره من كل القيود فتمسك بالعبث والتمرد باعتقاده انه تفتح له أبواب الحرية ليفعل ما يشاء بكون كامو يعتقد بأن جميع أنواع التجارب في الوجود متساوية، لذلك إذا كان الإنسان يملك وعيا واضحا فجميع تصرفاته ستصب في خدمته، وإذا كان الأمر خلاف ذلك، فستتسبب تصرفاته المشكلات، وهنا تقع المسؤولية على عاتقه هو، وليس على عاتق الظروف، وهذا ما نلتمسه في فسياق رواية (الغريب)، فموريس بطل الرواية ذو تصرفات طفولية يتعامل مع وفاة والدته بشكل خارج عن المألوف، اليوم ماتت والدتي أو ربما البارحة لا أعرف.. تلقيت برقية من المأوى حيث تقول : توفيت أمك. الدفن غدا... مشاعر مميزة... هذا لا يعني شيئا... ربما جرى كل ذلك في الأمس، ثم يضيف، الآن أشعر بأن والدتي لم تمت فعلا... بعد الدفن سيختلف الأمر، ستصبح مسألة منتهية و سيأخذ كل شيء منحى اخر .
يلخص ألبير كامو مغزى هذه الرواية على الشكل التالي من خلال عبارة شديدة التناقض:" في مجتمعنا كل رجل يرفض أن يبكي على والدته يعدم..! لماذا نبكي..؟ سنموت جميعا عاجلا أم آجلا... " ، فمعضلة التي واجهت البير كامو وظلت قائمة في كل ما كتبه هي الوقوف بين التمرد والموت، بكونه كان شديد القرف من فكرة الموت والمرض الذي عادة يمهد للموت، لقد تعلق كامو بالحياة الى درجة لا يمكن تخيلها، فكتب: "... كل رعبي من الموت يكمن في غيرتي على الحياة، انني غيور ممن سيعيشون من بعدي، وممن سيكون للأزهار والشهوات تجاه المرأة معنى من لحم ودم، انني حسود لانني احب الحياة حبا جما لا استطيع معه الا ان اكون انانيا، ولكن الموت يأتي ليخطف كل شيء... اما المرض فهو الأسوأ، انه دواء ضد الموت، انه يمهد له، انه يخلق الإشفاق على الذات، في مرحلته الاولى انه يدعم الانسان في جهده الكبير في التهرب من يقينه، وأنه سيموت كاملا، واشعر عندئذ ان التقدم الحقيقي الوحيد للحضارة، التقدم الذي يتعلق به البشر من زمن لآخر، هو ان نبدع الموت بوعي واحترام، ان ما يدهشني دوما هو فقر افكارنا عن الموت...".
يقول كامو: "...هناك نوع من التفاؤل، مؤكد ليس من سجاياي، لقد ترعرعنا انا وسائر أبناء جيلي على قرع طبول الحرب العالمية الاولى والثانية وقد تابع التاريخ منذ ذلك الحين حكاية القتل والجور والعنف، الا ان التشاؤم الحقيقي كالذي نراه اليوم يكمن في استغلال هذه الوحشية، و فيما يتعلق بي فقد ناضلت دون هوادة ضد هذا الانحطاط، لست اكره الا أولئك المتوحشين، وفي أحلك أعماق عدميتنا لم اكن انشد سوى الطريق لتجاوز العدمية...".
يتحدث كامو عن( الموت )من خلال( موت الآخرين ) وعندما يتحدث عن نفسه لا ينجح في تصوير هذا( الموت) ولكنه يرى ان الابداع هو خير وسيلة لمواجه الموت، انه الموت الواعي والناضج، "...اقول في نفسي، سأموت، لكن هذا لا يعني شيئا لأنني لا أتوصل الى الاعتقاد به، ولا يمكن ان تكون لي الا تجربة موت الاخرين، لقد رأيت اناسا يموتون، رأيت كلابا تموت، وكان لمسها هو الذي يبلبلني، وحينها يتبادر الى ذهني.. الازهار... الابتسامات..الشهوات للمرأة... اريد ان احمل صحوي حتى الثمالة وان انظر الى نهايتي بكل اسراف غيرتي وسعادتي، وبمقدار ما انفصل عن العالم أخاف من الموت..." ان الإحباط الفكري الذي ظل يلازم كامو اتى كنتيجة علاقة التضاد بين (جزعه من الموت) وبين (رغبته في الحياة) ملتمسا طريقا وسطا للتوفيق بين التجربتين بين المواقف المتطرفة في كل من التفكير والسلوك.
فالموت عند كامو طرح كحالة لإعاقة الحياة كما في رواية( الغريب) و كحالة ماثله لا فرار منه كما في (الطاعون) ، فالموت في رواية الطاعون مليئة بالأفكار التي تخص القدر والإيمان، عبثية الموت والحياة يقول كامو،" ..في مدينة موبوءة، تصبح رؤية الأطفال وهم يسقطون صرعى اختبارا حقيقيا للإيمان المتبقي في القلوب، حيث المئات يساقون إلى حتفهم حاملين معهم التقيحات والدمامل.." حيث يأخذ كامو من الطاعون مصدرا وبائيا الذي ينتشر ليحصد أرواح السكان، وهو ما أدى إلى ضعضعة النفوس، وسبب هروب بعضهم وانفصال آخرين عن أحبائهم ونزول الرعب في قلوبهم وتقوقعهم مع تطور الوباء وانتشاره، محطما الأفئدة التي تنتظر الموت، مجردا كل ما فيها من خير، لتحل محله (اللامبالاة) بالمعذبين والمرضى تحول بعضهم إلى التقرب إلى أربابهم بالصلاة والدعاء والبعض الآخر إلى التنجيم والتعاويذ، فالطاعون الذي يصيب وهران (وهي مدينة جزائرية ) هو عملية ملموسة للموت، يفهم في نهاية المطاف بأن المعاناة الفردية لا معنى له ، والذين بدلا من قبول الهزيمة بملء أرادتهم لهذا المرض الذي ليس لديهم أي سيطرة عليه، يقررون مكافحة الموت القريب، وبالتالي يصنعون التفاؤل بصعوبة في خضم اليأس، وعندما اختار كامو الطاعون رمزا لهذا الموت، فان هدفه من ذلك هو تقريب هده الفترات وإجلاء حقيقة الإنسان المؤلمة يجعلهم جميعا وفي وقت واحد أمام الحقيقة، حتى يدرك كل واحد منا أن وجوده من العدم ونهايته إلى العدم تتخللهما حياة جديرة بان تعاش، وان النسيان العبثي هو من يعيش متشبثا بهذه الحياة ويناضل جاهدا من اجل بقائه، ويساءل كامو مرة أخرى معنى المفاهيم الأخلاقية التي تبرر الإنسانية والمعاناة الإنسانية في إطار ديني ..! يجيب كامو: " ..هناك عبثية في منطق الدين فنحن ككائنات زائلة لا يمكننا النجاح في فهم حكم الإعدام الوشيك الذي لا مفر منه لكل إنسان .." أما عن موقفه من الدين بالرواية فيتجلى مرة أخرى من خلال تعارض خطب الأب( بانلو) مع حقيقة الطفل البرئ الذي مات بعذاب الطاعون، حاول كامو أن يثبت به عدالة الإله ويدحض من جهة أخرى تفسيرات الأب القائلة بان الطاعون هو جزء من ذنوب الإنسان وهو موقف متعارض مع فلسفة التمرد الداعية الى المقاومة .
فالموت كما يراه كامو ، يوفر فرصةً خارقةً للطبيعة لكي يفهم الشعب أن المعاناة الفردية أمر عبثي في خضم المعاناة الكاملة، فإن الاستجابة المتحدية التي اعتمدها غالبية مواطني (وهران ) تظهر صلة إنسانية لا يمكن تفسيرها بين شخصيات مذهولة ومتباعدة فلم يستطع الناس إيجاد المعنى المفقود للحياة التي قدر لها الزوال لحظة إنشائها إلا من خلال مكافحة الوباء الذي لا رجعة فيه والطاعون والموت كلاهما رمز لقدر الإنسان وأبطال الرواية بدون تمييز يمثلون صراع البشر مع القدر، الصراع اللانهائي مع عدو مبهم يتنبأ الإنسان فيه مسبقا بنهايته الفاشلة، غير أن الصراع عند كامو يظل بعيدا عن الاستسلام لان بطله ريو( احدى شخصيات في الطاعون) متلبس بالتحدي المفعم بالأمل لهذا هو يدافع عن الإنسان بقدر استطاعته. لدلك عندما سأله ( تارو) ضد من.... يجيبه بأنه لا يعرف هذا العدو...! ،ف (ريو) الذي يلاحظ تكدس الجرذان الميتة على قارعة الطرق وفي ممرات الفنادق والأماكن العامة، قليل منهم نظروا إلى الكارثة بهدوء ونظموا أنفسهم لمحاربة هذا الوباء، وعلى رأسهم الطبيبان “ريو” و (تارو)، ثابرا للنضال ومحاربة الموت بإسعاف المرضى ومكافحة الطاعون، لا دافع لهما إلا إحساسهما بالشفقة على ضحايا الطاعون الزاحف حاصدا الكبار والصغار، الصالحين منهم والأشرار، حتى بدأت الأزمة تتلاشى شيئا فشيئا، واستعادت المدينة هدوئها، وعادت إلى شؤونها العادية، أفراحها ولامبالاتها وعبثيتها، وعاد الذين كافحوا بلا هوادة إلى رتابة الحياة اليومية، ويفسر هذا الصراع ما جاء على لسان الراوي ،"... أن شهور الهزيمة المتعددة هي التي علمته قيمة الصراع، وهدفه الوحيد هو اغتنام الفرص من اجل تحدي هذا القدر الذي غالبا ما نقلقه بالتحدي كان لا بد من إقلاق هذا القدر..." فقضية العادة والتعود في هده الرواية لها علاقة مباشرة بألم الإنسان. اذ أن حقيقة آلام تفقد وجودها باستغراقه مدة من الزمن بقول الراوي ".... والذين منهم من لم يطق الصمت...هناك أيضا نجد أعمق الآلام تدخل في باب التعود لتترجم إلى عبارات تافهة في أحاديثهم..." ، ولهذا كان الصمت أحسن تعبيرا عن آلام الإنسان يدل الحديث عنها في ألفاظ قد لا تترجم حقيقتها عجزا عن التعبير أو إننا بالحديث عنها سنفقدها حقيقتها كآلام بالتعود وقد يلجا أبطاله إلى الصمت لأنه وجه من وجوه المبالاة فيفضل حينئذ أن يظل كل منهم صامتا ربما لان شكوى الألم لا تفيد أو أن هذه اللغة في حد ذاتها هي عاجزة عن ترجمة الآلام الإنسانية وفي نظر ألبير كامو هذه الأسباب هي التي تجعل من شخصيات رواياته أبطالا لا يخيم عليهم الصمت ولا يتكلمون إلا عند الضرورة أو الإفادة، فكامو في الطاعون يرى آلام البشرية القديمة منه والحاضرة وكل منهم يعيش بهذا الشعور في أعماقه إلا أن مواقفهم تختلف تجاه هذه الآلام لتبدو سلبية في معظمها ويستثني منهم كامو فقط هؤلاء الذين يريدون الخلاص منه بعد معاينته لأنهم لا يتقبلون أوضاعهم المزرية ويحبون دائما على الأمل وهم اذ يطمحون الى الخلاص يتمردون على أوضاعهم من واجبهم أن تجبر الإنسان المتمرد على التضحية بأعز لذاته الأرضية ومن الباحثين من وجد في الرواية دعوة الى الاتحاد الشامل للبشرية في مواجهة الموت .
فهذ التلون الذي يدخله كامو في رواياته انما اتي من رغبته لإيجاد موقف وسط بين( الرغبة في الحياة ) و(الفزع من الموت)، بين انتشاء الحس وصرامة العقل، بين النزعة الفنائية ودوامة التشكك، ولقد تمخض عن المزج بين الانتشاء واليأس في نهاية المطاف أن أتيح لكامو الحصول على أساس للتمرد ولو أنه أفضى به في بادئ الأمر إلى موقف وقتي من الإذعان والانعزال الرواقي، أما النزعة التي تمخضت عن مقالاته الأولى فليست أكثر من مبدأ الانعزال والاستقلال الذي يتسم بشيء من الكبرياء والإحساس بالمرارة، وهذا الكبرياء الذي يتسم بالمرارة جاء وليدا لما يعد في جوهره بحثا عن السعادة، وهو يعيد إلينا الاكتشاف الأول الذي يقول إن الحصول على السعادة ليس بالأمر الهين بالنسبة لنمط معين من العقل البصير، فهذه الثنائية الدائمة التمسناها في كل أعماله و قد تعمق كامو ذك في كتابه (الوجه والقفا) و في كتاب (مقصله - أعراس) حيث يقول في اعراس :" ... إن ما من شأنه أن يسمو بالحياة هو الذي يؤكد عبث هذه الحياة..."، كذلك وصف كامو حياة الحس في لغة غنائية شاعرة ، اذ لا تخلو رواياته من مشاهد حسية جنسية في غاية الروعة تصور لقطات رائعة في الاستلذاذ والنشوة عدا رواية الطاعون التي خلت من أي تصوير حسي ربما أراد كامو ان يعطينا صورة اكثر سوادا عن اللاجدوى من الحياة والموت ، فروايات كامبو المفعمة بالمشاعر والحياة انما هو إيحاء لعدم استمراريتها وكانه يبتهج باكتمال تلك الحياة وبلوغها مداها الأقصى ولكن لن تكتمل ..!، بل إن اكتمال تجربته وعنفها ينطوي على تحديد لهذه التجربة من ناحيتين الأولى أنه لا يمكن للفرد أن يستمتع بالحياة التي وصفها كامو إلا استمتاعا مؤاقتا، فجمال الحياة لا يذوي طالما بقيت هذه الحياة، لكن هذه الحياة لا تبقى إلى الأبد، ولهذا يجد كامو أن حقيقة الموت ماثلة في كل شيئ حتى في المناظر الطبيعية التي تشتمل عليها بلاد الجزائر، وهي المناظر الغنية الخصبة التي تدعو إلى الاستمتاع بكل ملذات الحس، ويعبر كامو عن حيرته هذه في تلك العبارة الموجزة التي أشير إليها من قبل (إن جزعي من الموت ينال من غيرتي الشديدة على الحياة).
وهكذا ظل( الموت ) عند كامو يشعره بالعجز، وعدم القدرة على السيطرة على الأمور بشكل كامل، فظل الخوف يتملكه لأنه غير قادر أن يتحكم بالمسائل الوجودية، جسده هش، وهو معرض للاضمحلال في أية لحظة، لن يستطيع الفرار من الموت، الحائط مسدود وهذا الإحساس عبر عنه ألبير كامو في كل كتاباته كرمز عن ضعف المرء المطلق، إنه الوعي حيث يقول " أنا أعي أنني سأموت، إذا أنا في غاية الضعف" ، يظهر هذا الوعي لفكرة الموت وعن حقيقة الوجود في كل أعماله وهذا ما جعله يبحث عن حقيقة الموت والوجود في مختلف التيارات الوجودية والعبثية، لتكون علاقة ألبير كامو بالله مختلة بالكامل، إذ إنه يحمله مسؤولية غيابه، هو يتساءل لماذا أنت غائب...؟ لماذا يموت الإنسان...؟ يعبر كامو عن تخبطه الوجودي من خلال شخصياته الأدبية وهو يرسم ذلك من خلال شخصيات روياته ومسرحياته وبالفعل فاننا نلتمس ذلك في تمرد بطل مسرحية (كاليغولا)، الذي يحاول لعب دور الإله، قائلا: "لقد أثبت لهؤلاء الآلهة الوهميين أن الإنسان يستطيع القيام بعملهم التافه بسهولة"، فكامو ابتكر شخصية (كاليغولا ) الامبراطور الدموي الذي يحاول لعب دور الإله، يقتل من يشاء، حين يشاء وبالطريقة التي يختارها، ألا تعاملنا الآلهة بهذه الطريقة..؟ "أنا الله، أنا أتحكم بالموت". تحاول حاشية (كاليغولا) أن تثنيه عن لعب هذا الدور المجنون من خلال الحجج المنطقية، فتقول له: "أنت لا تغار منا، بل تغار من الآلهة أنفسهم" وبالفعل، يحاول الامبراطور منافسة (الإله الذي مات) وترك له مهمة التحكم بالمسائل الوجودية، ماذا يفعل بهذا الصدد..؟ - وهنا نلتمس مفهوم الفلسفة الوجودية عند كيركيجرد و نيتشيه حيث يعلن بان( الله قد مات )وكما جاء على لسان زاردشت - وهنا في كاليغولا ، يعلن الامبراطور بحزم وثقة، "..أقول ان المجاعة ستعم غدا.. الكل يعرف المجاعة.. إنها وباء.. غدا.. سيكون هناك وباء... وسوف أوقف الوباء حين أشاء ..! ، هنا يقول كاليغولا عبارة المشهورة وفي غاية الأهمية(( اقتله ببطء كي يشعر بأنه يموت )) إذاً على الإنسان أن يعي موته في لحظة وفاته، تبرز الإشكالية على مستوى الوعي الذي حاول الإمبراطور كاليغولا فرضه على الناس كي يدركوا أن الموت ينتظرهم، لذلك تقول عنه حاشيته: "... فلنعترف على الأقل بأن هذا الرجل يمارس تأثيرا أكيدا، هو يجبرك على التفكير، يجبر الجميع على التفكير. يجعلنا ندرك أننا لسنا بأمان..." ، على كل حال، ليس لدي وسائل كثيرة لاثبت حريتي" إذا، الحرية هي التي يسعى وراءها هذا الامبراطور، وهي حرية اختيار ساعة موته وساعة موت الآخرين كذلك، وهو لا يكتفي بلعب دور الإله لوحده، بل يريد تعميم هذا الدور على الجميع فيقول: "...ذنب كل هؤلاء الناس، أنهم لا يؤمنون بالمسرح بما فيه الكفاية، سيعرفون حينئذ أنه يسمح لكل إنسان بأن يلعب دورا في المأساة السماوية، فيصبح إلها...". اي دور يلعبه هذا الإله..؟ هل يدعو (كاليغولا ) كل الناس الى التحكم بالمسائل الوجودية ..؟ في هذه المسرحية، يصبح الإله بشرا، هو مرئي وملموس، كما أنه الملك الذي يتكلم مع حاشيته، إنما هذا الامبراطور لا ينجح في القيام بمهمته حتى النهاية، يفشل في نهاية المطاف، فيغتاله أفراد حاشيته ليتخلصوا منه ومن غطرسته.
هكذا يصور البير كامو العالم ليقول لنا بان : الناس يموتون كما في الطاعون ،والموت سياتي بحكم من الملك او بحكم افراد كما في كاليغولا..! ولا مجال للفرار، اذا ما هو الحل ..؟ في أدب كامو يكون الجواب : الانتحار لتخلص من الشعور بهذا العجز...! ففي رواية (الإنسان المتمرد) ، وبصريح العبارة يعتبر كامو أن (الانتحار) هو المسألة الوحيدة التي تستحق أن تطرح باعتباره المخرج الوحيد من هذا العالم اللا مجدي .
المراجع
رواية الغريب .. الانسان المتمرد .. اسطورة سيزيف .. مسرحية كاليغولا.. الطاعون .. المقصله – أعراس .