عندي عدد من التساؤلات في مسألة تلبس الجني بالإنس وهي:
أولا: قوله تعالى: الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.
فهنا لا يعني التلبس لغة ـ وقبل كل شيء ـ ولكن ذهب كثير من المفسرين أن الآية توضح حالة الذي يأكل الربا بالضيق الشديد والاكتئاب العميق مع علمه أن الربا حرام، مثل الذي يتخبطه الشيطان: أي يضله ويغويه، وهذا غاية ما يريده ويستطيعه الشيطان بابن آدم، لأن الله سبحانه وتعالى لم يمكن الجن من التلاعب بابن آدم المكرم في القرءان.
كيف نفسر قول الله تعالى على لسان سيدنا أيوب عليه السلام: رب إني مسني الشيطان بنصب وعذاب؟.
وهل لنا من ظاهر الآية أن نقول: إن الشيطان يستطيع أن يتلبس بأنبياء الله سبحانه وتعالى وهم المعصومون من ذلك؟ فإن كانوا معصومين من تلبس الشيطان، فهذا فيه دلالة على أن معنى المس ليس هو تلبس الشيطان.
وكيف نفسر قول الله تعالى على لسان إبليس: وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم.
دلت الآية على أن الله عز وجل جعل سلطان الجن على الإنس في الوسوسة والغواية والتزيين، وقد تضافرت وتوافرت الآيات الكريمة في القرءان الكريم في هذه المسألة، وما قصة سيدنا آدم في الجنة مع الشيطان إلا أكبر دليل على ذلك.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث: الحمد لله الذي رد كيده في الوسوسة.
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من العروق.
يفسره كثير من علماء الشرع على أنه خرج مخرج الكناية وليس الحقيقة، أي أن الصورة في الحديث صورة معنوية وليست حسية، وسياق الحديث يدل على ذلك ـ وهو حديث زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف بمسجده ـ خرج ليودعها من المسجد فرآه رجلان من الأنصار فأسرعا المشي فذكر لهما الحديث.
وقوله تعالى: وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا.
فتفسيرها ـ على حسب معرفتي ـ أنهم قديما كانوا إذا دخلوا بطن واد ينادون أو يتعوذون بسيد هذا الوادي من أولاده مخافة أن يضرهم ـ على حد علمهم القاصر.
ومعلوم أن القرءان نقل كثيرا من قصص الأولين ليبين صحتها من عدمها.
فالجن عالم غيبي محجوب عنا عقلا ونقلا.
والأمور الغيبية لا نتكلم فيها إلا بدليل من القرءان والسنة الصحيحة الصريحة.
وإن كان القول بتلبس الجن بالإنس منسوبا لشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ـ العلامة ابن القيم ـ اللذين يعدان من كبار علماء الشريعة على مر العصور، إلا أنه لم يسبقهما أحد لهذا القول، والآثار الواردة عن الإمام أحمد بن حنبل في هذا الباب مثل قوله ـ رحمه الله: يا بني يكذبون هو ذا يتكلم على لسانه.
قال بعض أهل الحديث إنها ضعيفة ولاترتقي لحجية التلبس.
وقال الإمام الشافعي: من ادعى أنه رأى شيطانا فلا نقبل شهادته، لأن الله سبحانه و تعالى قال: إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم.
ومعلوم في ديننا أنه لا عصمة لأحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك قال العلماء: كائن من كان يؤخذ من قوله ويرد حتى يتبين الحق، ولعل هذا نهج علمائنا قديما وحديثا.
أما المشاهدات والأحداث التي تحصل في زماننا هذا من نطق الإنسان بأصوات أخرى وأن تظهر عليه علامات تدل على المس فما هو إلا هزائم نفسية واضطرابات عضوية وتهيؤات ليست لها علاقة بالجن، وإنما الطب النفسي له تفسيرات وأبحاث في هذه الظواهر وإرجاعها إلى مسائل نفسية.
وإن سلمنا أن الجن يتلبس بجسد ابن آدم، وبعض المعالجين يقرؤون عليه القرءان ليخرج من هذا الجسد، فإن هذه الصورة يمارسها الكفار ممن يدعون أمر التلبس، ويقرؤون على الممسوس ترانيم وأناشيد خاصة بهم ويعتقدون أنها تؤثر في المريض ويحصل له مثل ما يحصل عند قراءة القرءان، مع إيماننا أن القرءان شفاء لما في صدور المؤمنين، وأن الرقية الشرعية ثابته بالكتاب والسنة.
وإن سلمنا بتلبس الجن بالإنس عارضنا مراد الله سبحانه وتعالى في أن الشيطان حدوده وغاية ما يستطيع فعله هو التزيين والغواية وتخبط المؤمن على غير هدى وأنه عز وجل كرم ابن آدم وسخر له ما في السموات والأرض وجعله خليفة له في الأرض، وأنه مكلف بالتكاليف الشرعية وعمارة هذه الأرض، وموضوع التلبس ينافي هذا كله.