أصبحنا أمة تتسم بالتعمق في السطحية,,
إن كثيرا منا نحن البشر تراه يعلم المعاني لكلمات تمثل قيم في حياتنا جميعا فتراه يعلم معنى الوفاء , الكرم , الصدق , الحب , وغير ذلك من المعاني الراقية في حياتنا والتي نتعرض إلى أثرها أو أثار نوا قضها كل يوم وليلة من حياتنا .
ولكن أليس من الغريب أنك ترى هذا العالم من حولنا كل يوم ونحن نخربه بأيدينا وألستنا وأفعالنا وأفكارنا , وكيف يكون هذا على الرغم من علمنا الواضح والأكيد لتلك المعاني الراقية التي ذكرناها , أيعقل أن يكون الواحد منا عالما بمعنى الحب أو معنى العزة أو معنى العفو أو معنى الرفعة أو معنى الأمانة أو معنى الرحمة , ثم يكون هذا الذي نراه كل يوم من بغض أو مهانة أو قسوة أو كذب أو شح أو خيانة .
أكاد أن اجزم بان ما يحصل حولنا نابع عن أمرين لا ثالث لهما :
- 1- إما أنا قد وضعنا لتلك الكلمات معان غير حقيقتها المراد منها حين تعلمها الإنسان الأول نقية صافية متحررة من أي أثر خارجي , ثم بعد ذلك طرأ التحريف من جيل إلى جيل عبر العصور طبقا لظروف واقع قد اختلفت خصائصه قطعا عما سبقه.
- 2- أو قد فهمنا المعنى النظري دون المعنى التطبيقي , وهذه حقا طامة.
ولو سألتَ أحداً عن معنى تلك المعاني لوجدته عالما بمعناها الذي وُضعت له قديما حين تلقى هذا المعنى الإنسان الأول أي أن هذا التحريف المزعوم هو باطلٌ لا محالة , ولا نستطيع الفرار من الواقع الأليم وهو أنا قد فهمنا -أو أردنا أن نفهم- فقط المعنى النظري دون المعنى التطبيقي .
أي إننا قد اكتفينا بمعرفة المعنى الموضوع للكلمة واجتهدنا جميعا على أن نلقنه لأولادِنا وبناتِنا , ولكنّ كثيراً منا غاب عنه أننا لم نُلقّن أبنائنا المعنى الأهم وهو كيف تُطبق ذلك المعنى في حياتك حتى ولو أوقفتك الظروف والعقبات , لم نتنبه لتلقينهم كيف يحرصون أن يكون هذا المعنى النظري الراقي مستقراً في أذهانهم وممتزجاً بأرواحهم وعقولهم , كيف تكون الرحمة ملكة فيه وجزء لا يتجزأ من روحه ونفسه , فلو أوقف ممارسة الرحمة لمات وقضى نحبه لأن بقاء نفسه وروحه مقترنا بممارسة الرحمة المنشودة ومقترنا بممارسة الكرم والصدق والحب الصحيح المنضبط , لم نحرص على أن نتحول من كوننا مجرد كائنات حسية تمشي على الأرض إلى معاني راقية وقيم سامية لا نستطيع إدراكها إلا لو تحررنا من قيود أبداننا وأجسامنا , لابد علينا - إن أردنا - أن نسبح ونغوص في أعماق أنفسنا وأرواحنا لنرى ما وراء ذلك الجسد البشري الذي هو بمثابة حاجز عملاق وهمي بيننا وبين إدراكنا لحقائق الأشياء.
قال ابن خلدون وغيره من أهل الحكمة والنظر " إن الأحلام او الرؤيا إنما هي صور خيالية ناتجة عن حركة الفكر فتقع في الحس المشترك الذي هو بين الحس الظاهري والحس الباطني , فيخلق الله سبحانه وتعالي نوعا خاصا من الإدراك حال النوم و بهِ يدرك العقل أشياء لا يستطيع إدراكها في حالة اليقظة والعجيب انه يدركها بنفس المدركات الحسية الخمسة التي يستخدمها حال يقظته , وسبب تحول خصائص هذه المدركات الحسية من حال اليقظة إلى حال النوم هو التحرر من قيوده الجُسمانية البشرية والتي تحجُبه عن إدراك حقائق وأمور لا يستطيع إدراكها حال يقظته وهو تحت سطوة بشريته و جسمانيته , وتكون أداةُ هذا الإدراك ما سماه أهل الحكمة بالروح العقلي التي ماهيته وحقيقته هو ذات الإدراك "..فتأمل..
وقد عَرّف المناطقة والفلاسفة وأهل الكلام "الإدراك" بأنه وصول النفس إلي الشئ في الخارج , ولو تأملت معنى الإدراك في قولهم " وصول النفس " دلك على معنى التحرر الذي نريده , وهو أن تترك العنان لنفسك وتحررها من القيود الحياتية أو القيود البشرية أو حتى القيود الخارجة عنك كقيود الأزواج والأولاد والأرزاق , ولو حصل لنفسك هذا التحرر لاستطاعت روحك وقلبك وعقلك إدراك حقائق الأشياء في عالم غير هذا العالم الذي نعيشه أو نراه بأعيننا التي في رأسنا , وتكون أدوات إدراكنا في هذه الحالة - وان تشابهت في الشكل مع مدركاتنا الحسية - قد اختلفت مداركنا الحسية في خواصها التكوينية , فترى بعين غير التي في رأسك وتسمع بأذن غير التي في وجهك وتتذوق بلسان غير الذي في فمك وهكذا , وفي حال عودك إلى جسمك وبشريتك ومخالطة الأزواج والأولاد والأرزاق يكون ما أدركته في حال تعمقك وشهودك لعالم الحقيقة قد استقر في حافظة ذهنك فيطفو على سطح عقلك وقلبك وتتأثر به نفسك وروحك .
إن إدراك معنى الكرم والصدق والحب والوفاء والعزة والأمانة الحقيقي يتطلب منا السفر بعيدا إلي أعماق أرواحنا , يتطلب منا هجر أرض أبداننا وأجسامنا لنحلق في سماء الحقيقة بأرواح قد تحررت من قيود البشرية الممتزجة بالحيوانية والإنسانية معا .
ألا ترى كيف بشّر النبيُ العظيمُ صلّى الله عليه سلم أصحاب الرؤيا الصادقة بأن ما يروه هو فرع من فروع الوحي الكريم حين قال " الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة " ووجه الفرعية أو الجزئية هنا أن الوحي في أحد معانيه - كما قال ابن خلدون - هو التحرر من البشرية والترقي من الإنسانية العليا - لكونه نبي - إلى احد صور الملكية (أي الملائكية) فيستطيع حين إذن النبيَ أن يتلقى الوحي فيدرك المعاني على حقيقة لا نراها نحن قال عليه الصلاة والسلام " لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا وبكيتم كثيرا " انه إدراك النبوة التي قد جاء بعد التحرر والترقي من الإنسانية إلى الملكية , وأما أصحاب الرؤيا حين تحررت أرواحهم من جسمانيتها وسبحت في عالم الحقائق أدركت أشياء وصورا قد يروها قبل وقوعها , ويكون معنى الفرعية والجزئية في الحديث الشريف هو ذلك التحرر , ولتعلم أن التحرر درجات والناس متفاوتون فيه فأعلاهم درجة الأنبياء ثم الأولياء والعارفين المشاهدين لعالم الحقائق وهو أيضا درجات..فافهم..
أفلا ترى كيف وصفت أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها النبي صلى الله عليه وسلم حين قالت " كان قرأناً يمشي على الأرض " أو تظن انها المعنى النظري للقرآن وهو التلاوة أو الحفظ أو حتى التطبيق الجزئي , قطعا لا إنما أرادت المعنى الحقيقي للتطبيق العملي -للقران الكريم- من سيد الخلق جميعاً وأعلاهم مرتبةً محمدٌ سيد الكونيين والثقليين من عُرب ومن عجم .
أولم ترى أن رب الخلق تعالى وصف سيد الخلق صلى الله عليه وسلم في قوله " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " أو تظن أن الرحمة المذكورة كرحمة الأب بابنه أو الزوج بزوجه أو حتى رحمة الأم برضيعها , فوالذي نفسي بيده لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم من الأم برضيعها , إنها المعنى الحقيقي للرحمة , إنها الرحمة التي تُكتسب من عالم الحقائق وليس من عالم الخيال إنها الرحمة التي تفرعت وتجزأت مباشرةً من رحمة الرحمن سبحانه , يُروى أن الله سبحانه قد بعث جبريل عليه السلام في حادثة شق الصدر الشريف فأخرج حظ الشيطان من الرحمة من قلب النبي العظيم عليه أفضل الصلاة والتسليم , هل هناك معنى للرحمة أعظم من هذا حتى انه في أصل تكوينه الشريف قد نال الشيطان حظاً من رحمته وما أدراك ما معنى هذا..
إننا حقا نلتمس تلك الدرجة من إدراك حقائق الأشياء والذي لابد وأن يتبعه تطبيق حقيقي كلي لمعنى قد استقر في حافظة أذهاننا حين ادر كناه في عالم لا يتسم إلا بالحقيقة دون الخيال , معنى أدركناه ونحن نسبح في أعماق أرواحنا متجردين من أبداننا وقيود بشريتنا لنرى ذلك الضوء الساطع المنبعث من عالم غريب الذي هو الحقيقة الغائبة عنا ..
لابد أن نمرن أرواحنا على تلك الرياضة الفريدة والتي هي السباحة في بحار الحقائق فندرك المعاني على وجه خالٍ من الخيالات والأوهام وبعد ذلك يأتي الدور الأصعب وهو الخروج من أعماق بحار الحقائق لنقف على شواطئ أجسامنا وبشريتنا , فتمتزج بأجسامنا تلك المعاني التي أدركناها , فتكون أجسامنا أشبه بصورة رُسمت بأحبار وألوان تلك الحقائق فحين ينظر الناظرون لتلك اللوحة يدركون معنى قول " كان قرأنا يمشي على الأرض "..
وها أنا اذكر كلمات كان يقولها الكاتب الكبير كامل الشناوي رحمه الله " أصبحنا أمة تتسم بالتعمق في السطحية " وما أدراك ما عواقب التعمق في السطحية...فتأمل..

