بسم الله الرحمن الرحيم

أهم معالم الوسطية في التربية الإسلامية<!--

الدكتور/ محمد شيرازي دمياطي إلياس

مدرس العلوم التربوية وعلم النفس بكلية الدراسات الإسلامية والعربية، جامعة الشريف هداية الله الإسلامية الحكومية جاكرتا

[email protected]

ملخص البحث

يهدف هذا البحث إلى التعرف على أهم المعالم الرئيسية لوسطية التربية الإسلامية، وهي وسطيتها من ناحية فلسفتها وجوانبها وحيويتها بين الأصالة والمعاصرة. فمن الناحية الفلسفية يناقش هذا البحث طبيعة الإنسان ، وطبيعة الكون وطبيعة الحياة وغاية التربية الإسلامية وطبيعة العلم والثقافة من منظور إسلامي. وأما من ناحية جوانب التربية الإسلامية فيناقش البحث وسطية التربية الجسمية والتربية العقلية والتربية الروحية والتربية الاجتماعية. ومن ناحية حيويتها بين الأصالة والمعاصرة يناقش البحث وسطية مصادرها ووسائلها ووسائطها وأساليبها وأساليب تقويمها. ويستخدم هذا البحث المنهج الوصفي التحليلي للوصول إلى أهدافها. ففي ظل هذا المنهج تمت مناقشة هذه الموضوعات بالرجوع إلى المصادر التربوية المتاحة وتحليلها واستخراج مضامينها حتى تتضح معالمها الوسطية. وكان من نتائج هذا البحث وضوح وسطية التربية الإسلامية من ناحية فلسفتها، حيث تتمتع التربية الإسلامية بمكانة وسط بين الفلسفة المثالية البحته وبين الفلسفة الواقعية والبراجماتية البحتة. فكان الإنسان من منظور إسلامي ذلك الكائن الحي المكون من الروح والجسد وأن الله فضله على كثير من مخلوقاته وأنه مستخلف في هذه الأرض لعمارتها وأنه مخير فمسئول أمام الله تعالى على جميع أعماله. وأما الكون من منظور إسلامي فينقسم إلى الغيب والشهادة، والإنسان لابد أن يتعامل معهما طبقا لخصائص كل واحد منهما. والحياة دنيا وآخرة، وأن يهتم الإنسان بهما معا دون تفضل أحدهما على الآخر. وأما عن غاية التربية الإسلامية فهي غاية مثالية وواقعية في الوقت نفسه، وفقا لمراد الله تعالى ليكون الإنسان عبدا له ومستخلف في أرضه جل وعلا. وأما عن المعرفة والثقافة فيتضح أنها وسط بين من يعتقد أن المحسوسات هي المعرفة الحقة أو أن الغيبيات فقط هي الحقيقة. وفي جوانب التربية الإسلامية تتضح أنها وسط بين من يهمل الجسم ولم يهتم به وبين من يقدسه؛ ووسط بين من يعظم العقل ويقدسه وبين من لا يحترمه ولا يستعمله؛ ووسط بين من يهتم بالحياة الروحية وبين من يهمله؛ ووسط بين من يعظم الحياة الاجتماعية وبين من لا يعترف إلا بالحياة الفردية. ومن ناحية الأصالة والمعاصرة، فإن التربية الإسلامية تحافظ على أصالة المصادر وثوابتها سواء ما جاء في الوحي القرآني أو في الحديث النبوي، كما أنها تأخذ بمستجدات المصادر والأساليب والوسائل وأساليب التقويم، فشعار المسلم دائما: الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها. وأوصى البحث بأن تكون الوسطية هي الروح المسيطرة في جميع جهود الأمة الإسلامية في تربية أجيالها المتعاقبة حتى تتحقق خيريتها بين الأمم في الدنيا والآخرة. فرجاؤنا دائما: ] وَ مِنۡہُمۡ مَّنۡ یَّقُوۡلُ رَبَّنَاۤ اٰتِنَا فِی الدُّنۡیَا حَسَنَۃً وَّ فِی الۡاٰخِرَۃِ حَسَنَۃً وَّ قِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴿۲۰۱﴾ [  (البقرة: 201). وصلى الله على النبي الخاتم وآله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

المفاهيم الأساسية في البحث: 1- معالم 2- الوسطية 3- التربية الإسلامية.

m

من المسلمات الأساسية أن تكون الوسطية سمة مميزة للأمة الإسلامية من بين سائر الأمم، إيمانا بقوله عز وجل ]وَ کَذٰلِکَ جَعَلۡنٰکُمۡ اُمَّۃً وَّسَطًا لِّتَکُوۡنُوۡا شُہَدَآءَ عَلَی النَّاسِ وَ یَکُوۡنَ الرَّسُوۡلُ عَلَیۡکُمۡ شَہِیۡدًا[ ،البقرة: (جزء من آية 143) وهي أساس الخيرية التي تفضل بها رب العباد بوصف هذه الأمة، باعتبارها آخر الأمم لخاتم أنبيائه عليه الصلاة والسلام، مصداقا لقوله U ]کُنۡتُمۡ خَیۡرَ اُمَّۃٍ اُخۡرِجَتۡ لِلنَّاسِ تَاۡمُرُوۡنَ بِالۡمَعۡرُوۡفِ وَ تَنۡہَوۡنَ عَنِ الۡمُنۡکَرِ وَ تُؤۡمِنُوۡنَ بِاللّٰہِ ؕ[. (آل عمران: جزء من آية 110). فالوسطية والخيرية وجهان لعملة واحدة، لا تنفك ولا تتجزأ، فلن تتحقق الخيرية إلا إذا اتصفت الأمة في جميع جهودها وتحركاتها بالوسطية.

ومن أجل تحقيق هذه الوسطية قامت الأمة الإسلامية بالجهود المضنية في تنشئة أجيالها المتعاقبة وذلك بتربية أبنائها وبناتها تربية إسلامية صحيحة تعكس الوسطية في فلسفتها ومصادرها وجوانبها وأساليبها ووسائلها ووسائطها. فعالم التربية بصفة عامة محفوفة بالمذاهب والتيارات المتباينة والمتنوعة، بداية من فلسفتها المثالية إلى الواقعية والبراجماتية، والتي تنعكس بعد ذلك في نظرتها إلى غاية التربية ووسائلها ومناهجها. واختلاف هذه الفلسفات بالفلسفة الإسلامية –إن صح التعبير- أو بالتصور الإسلامي للتربية، من شأنه أن تكون هناك اختلاف في غاية هذه التربية ووسائلها ومناهجها.

وفي كثير من الشواهد هناك كثير من المدارس أو المعاهد الإسلامية ما زالت حائرة في تحديد وجهتها التربوية. ففي طرف هناك معاهد تتمسك بالاتجاه التقليدي لا تقبل التحديث، وتدرس فقط العلوم الدينية ولا تقبل العلوم العامة والعلوم الطبيعية. كما أن هناك مدارس إسلامية تنبهر وتتأثر بالاتجاه الغربي فتهتم بالعلوم الطبيعية والعلوم العامة وتترك جانبا العلوم الدينية ولا تعطي لها أهمية إلا في حدود ضيقة من مناهجها. ويدوم الصراع بين الاتجاهين المتطرفين ولم ينجح القائمون بتنظيم التربية في كثير من الدول الإسلامية في تخفيض حدة هذا الصراع حتى تصبح ثنائية التعليم هي سمة رئيسية من سمات النظم التربوية في الدول الإسلامية.

ومن ثم فإنه من الأهمية بمكان البحث عن مدى وسطية التربية الإسلامية لتتضح معالمها أمام القائمين بتنظيم التربية والتعليم، وأن لا يتردد في تبني الفلسفة الإسلامية أو التصور الإسلامي للتربية، حتى تتحقق وسطية الأمة وخيريتها في الأجيال القادمة.

مشكلة البحث

تتحدد مشكلة البحث في السؤال الرئيسي التالي: ما أهم معالم الوسطية في التربية الإسلامية؟ ويتفرع من هذا السؤال الأسئلة التالية:

<!--ما أهم معالم الوسطية في فلسفة التربية الإسلامية؟

<!--ما أهم معالم الوسطية في جوانب التربية الإسلامية؟

<!--ما أهم معالم الوسطية في التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة؟

أهدف البحث

يهدف هذا البحث إلى التعرف على معالم الوسطية في التربية الإسلامية في النقاط التالية:

<!--وسطية الأسس الفلسفية في التربية الإسلامية

<!--وسطية جوانب التربية الإسلامية

<!--وسطية التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة

منهج البحث

يستخدم هذا البحث المنهج الوصفي التحليلي، حيث يهتم البحث بالكشف عن الوسطية في عناصر التربية الإسلامية من خلال البحث في المراجع والمصادر الإسلامية المتاحة سواء من الكتاب أو السنة أو آراء فقهاء التربية الإسلامية التي تزدهر بها المكتبات الإسلامية، ثم تحليلها باستخراج مضامينها، ومقارنتها بمذاهب التربية الأخرى.

حدود البحث

يتحدد هذا البحث في استنتاج وسطية التربية الإسلامية في عناصرها الثلاثة، وهي فلسفتها وجوانبها وموقفها بين الأصالة والمعاصرة. ولا يتجاوز هذا البحث إلى جميع عناصر التربية الإسلامية لمحدودية المساحة المتاحة، ولكي يكون هناك مجالا مفتوحا للباحث في الفرص القادمة لبحثها.

مصطلحات البحث

<!--معالم جمع (مَعْلَمٌ) وهو "الأثر، الذي يستدل به على الطريق".<!-- ويقصد بها في هذا البحث الآثار وتعاليم الإسلام عن الوسطية في التربية الإسلامية.

<!--الوسطية، تعنى كلمة الوسط الأمثل أو العدل، لقوله U: ]وَ کَذٰلِکَ جَعَلۡنٰکُمۡ اُمَّۃً وَّسَطًا[ (البقرة: جزء من آية 143). وتفسير هذه الآية بأنها تقارب معنى المثالية، ولذلك فسر العلماء معنى كلمة (أوسطهم) الواردة في قوله U: (قال أسطهم) (القلم: جزء من آية 28) بمعنى أمثلهم وأعدلهم قولا وأصدقهم. وقد فسر كذلك بعض المفسرين قوله U: (أمة وسطا) أي أمة مثالية لو اتبعت شريعة الله وقامت بحقها. كما فسر كثيرون معنى الوسطية بأنها وسط بين الروحانية والمادية، وأنها لم تهمل مطالب الجسم بجوار عنايتها بالروح وتهذيب النفس وتربية الوجدان."<!--

<!--التربية الإسلامية، هي "عملية يؤخذ فيها الناشؤون من أبناء المسلمين بكل ألوان الأنشطة الموجهة في ظل الفكر والقيم والثاليات والمبادئ الإسلامية لتعديل سلوكهم وبناء شخصيتهم على النحو الذي يجعل منهم أفرادا صالحين نافعين لدينهم وأنفسهم ووطنهم وأمتهم الإسلامية والبشرية كلها".<!--

أولا: وسطية فلسفة أو التصور الإسلامي للتربية الإسلامية

هناك جدل بين العلماء في استخدام كلمة الفلسفة الإسلامية وبين التصور الإسلامي. فمنهم من يرى أن هناك فعلا فلسفة إسلامية على غرار الفلسفات الأخرى المثالية والواقعية والبراجماتية وغيرها. ومنهم من لا يروق لهم استخدام هذا المصطلح، لأن الفلسفة من نتاج التفكير الإنساني الذي قد يعتريه الصواب والخطأ. ولكن تعاليم الإسلام ومصادرها ليست من نتاج التفكير الإنساني، وإنما هي وحي من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. فالصحيح عندهم استخدام مصطلح التصور الإسلامي لهذه التعاليم بدلا من الفلسفة. فــ"التصور الإسلامي تصور يعتمد على الأصول الإسلامية قرآنا وسنة ثم على الجيل الباقي من التراث الإسلامي ثم على المعطيات العلوم والبحوث العلمية التي لا تتعارض مع الأصول الإسلامية".<!--

<!--وسطية التصور الإسلامي للإنسان

الإنسان "لدى كثير من الفلسلفات الغربية الحديثة حيوان متطور عن الطبيعة التي هي أصل الأشياء وسبب وجودها".<!-- فما نظرية "دارون" عنا ببعيد. ولكن الإنسان ذلك الكائن العجيب في التصور الإسلامي مكون من عنصرين ممتزجين، جسم وروح، يقول الله U: وَ اِذۡ قَالَ رَبُّکَ لِلۡمَلٰٓئِکَۃِ اِنِّیۡ خَالِقٌۢ بَشَرًا مِّنۡ صَلۡصَالٍ مِّنۡ حَمَاٍ مَّسۡنُوۡنٍ ﴿۲۸﴾ فَاِذَا سَوَّیۡتُہٗ وَ نَفَخۡتُ فِیۡہِ مِنۡ رُّوۡحِیۡ فَقَعُوۡا لَہٗ سٰجِدِیۡنَ ﴿۲۹﴾  (الحجر، 28-29). " وهو كائن من كائنات الملأ الأعلى، لأن إنسانيته لم تتكون ولم تتشكل إلا بعد أن نفخ الله فيه من روحه"<!--. فهو أرقى مخلوقات الله في الكون، ولذلك أمر الله الملائكة أن يسجد لآدم احتراما له، كما في قوله تعالى: وَ لَقَدۡ خَلَقۡنٰکُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنٰکُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلٰٓئِکَۃِ اسۡجُدُوۡا لِاٰدَمَ ٭ۖ فَسَجَدُوۡۤا اِلَّاۤ اِبۡلِیۡسَ ؕ لَمۡ یَکُنۡ مِّنَ السّٰجِدِیۡنَ ﴿۱۱﴾، " (الأعراف: 11).

"فأساس الاعتدال الموازنة الحكيمة بين الحيوانية والروحانية في تكوينه بين حاجات نفسه ومطالب دينه، وذلك لأن الدين لا يحرمه متع الحياة ولا يقيم السدود بينه وبين طياتها من مأكل ومشرب ومسكن وجنس، ولكن لا يرضى له أن ينحط إلى درك الحيوان فيعيشش لطنه وجنسه، ولا يحب منه أن يتنسك ويصير إلى الرهبانية أو يسرف في العبادة إسرافا ينسيه دنياه، وقد أقر الرسول صلى الله عليه وسلم قول سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه".<!--

<!--وسطية التصور الإسلامي للكون

هناك اختلاف بين الفلاسفة في تصورهم للكون، "فالكون المادي في نظر المثاليين هو ممثل في العقل –الممثل بعقل الله- فهو سبب وجود الكون. وأما في النظريتين العملية (البراجماتية) والتطبيقية (الماركسية) اللتان تعتمدان على الفلسفتين الطبيعية والواقعية وأفكار دارون المتطورة عنها، وعلى الفلسفة التجريبية الميدانية، فالواقعية الطبيعية تتمسك بأن الكون هو هذه الأشياء الموجودة في هذا العالم المحسوس. فالواقعيون الطبيعيون يرفضون أي شيء وراء الطبيعة".<!-- فلا يؤمنون بما يعرف في تعاليم الإسلام بعالم الغيب أو الكون المغيب.

أما الفيلسوف المثالي فيزعم "أن الحقيقة الواقعية القصوى ذات طبيعة روحية أكثر منها جسمية، وعقلية أكثر منها مادية".<!-- وهذا يعني أن المثاليين يعيشون في عالم المثل، عالم غير واقعي، والحقائق في هذا الكون لديهم ليست واقعية، فهم غير مهتمين بالعالم الواقع الحقيقي.

وأما البراجماتية فتقول "إننا لا يمكن أن نعرف إلا ما تجربه حواسنا. ويقول البراجماتيون إن العالم ليس متوقفا على فكرة الإنسان عنه ولا مستقلا عنها، فالواقع ينتهي إلى التفاعل بين الكائن البشري والبيئة. فهو حصيلة ما نختبره، فالإنسان وبيئته متناسقان متكافئان، وهما مسئولان على قدم المساواة عما هو واقعي".<!-- فالحقيقة عندهم هي المنفعة، والأشياء الحقيقية في نظرهم تلك الأشياء التي تأتي بالفائدة المباشرة للإنسان. وأما الفوائد التي تأتي مباشرة في حياة الإنسان فليس شيئا حقيقيا.

وأما الكون في التصور الإسلامي "فهو آية الله الكبرى ومعرض قدرته المعجزة المبهرة، أراده الله فكان، وقدره تقديرا محكما، وجعل كل شيء فيه خاضعا لإرادته وتدبيره، وَ خَلَقَ کُلَّ شَیۡءٍ فَقَدَّرَہٗ تَقۡدِیۡرًا ﴿۲﴾  (الفرقان: آية 2). وينقسم الكون إلى محسوس وغير محسوس، فالكون المحسوس مثل الشمس والقمر والأرض والسماء، والكون المغيب (غير محسوس) فهو الكون الغيب وهو ما يسمى "عالم الغيب" مثل الروح والملائكة والجن والملأ الأعلى".<!-- تلك الأشياء حقيقة في التصور الإسلامي، والمؤمن لابد أن يؤمن بتلك المغيبات، إيمانا بقوله ]Uالَّذِیۡنَ یُؤۡمِنُوۡنَ بِالۡغَیۡبِ وَ یُقِیۡمُوۡنَ الصَّلٰوۃَ وَ مِمَّا رَزَقۡنٰہُمۡ یُنۡفِقُوۡنَ ۙ﴿۳﴾     (البقرة: 3). وهنا تأتي وسطية التصور الإسلامي بين تلك المثالية والواقعية والبراجماتية.

<!--وسطية التصور الإسلامي للحياة

اختلفت آراء الفلاسفة نحو الحياة، "فالحياة في نظر المثاليين هو العقل، لأن العقل هو السبب في وجود الحياة. والحياة في نظر الفلسفة الطبيعية المكونة للنظريتين العملية والتطبيقية هي حدث طبيعي، فالحياة هي البيئة المحيطة بنا بكل أبعادها".<!-- لا أقل ولا أكثر، ولا شيء في الآخرة،( وَ قَالُوۡا مَا ہِیَ اِلَّا حَیَاتُنَا الدُّنۡیَا نَمُوۡتُ وَ نَحۡیَا وَ مَا یُہۡلِکُنَاۤ اِلَّا الدَّہۡرُ ۚ وَ مَا لَہُمۡ بِذٰلِکَ مِنۡ عِلۡمٍ ۚ اِنۡ ہُمۡ اِلَّا یَظُنُّوۡنَ ﴿۲۴﴾ ) (الجاثية: 24).

وأما الحياة في التصور الإسلامي "فهي مجموع أنشطة الكائنات التي خلقها الله خلال أعمارها الزمنية. وعمارة الأرض وترقية الحياة على ظهرها إنما تكون باستثمار ما أودعه الله في الكائنات من طاقات استثمارا صالحا".<!-- والحياة في التصور الإسلامي دنيا وآخرة. وأن الدنيا مزرعة للآخرة، أو أنها درا العمل والآخرة دار الجزاء. فالحياة الدنيا حياة فانية، لابد أن تزدهر فيها بالأعمال الصالحة التي تفيد النفس البشرية والكون قاطبة، ثم تأتي ثمارها في الآخرة بالثواب والجزاء ودخول الجنة،(وَ مَنۡ یُّؤۡمِنۡۢ بِاللّٰہِ وَ یَعۡمَلۡ صَالِحًا یُّکَفِّرۡ عَنۡہُ سَیِّاٰتِہٖ وَ یُدۡخِلۡہُ جَنّٰتٍ تَجۡرِیۡ مِنۡ تَحۡتِہَا الۡاَنۡہٰرُ خٰلِدِیۡنَ فِیۡہَاۤ اَبَدًا ؕ ذٰلِکَ الۡفَوۡزُ الۡعَظِیۡمُ ﴿۹﴾ (التغابن: 9). فالحياة في التصور الإسلامي لها معنى ولها حيوية ولها مسئولية.

<!--وسطية غاية التربية الإسلامية

هناك من المفكرين الغربيين من لا يروق لهم القول بوجود أهداف ثابتة للمنهج، فجون ديوي على سبيل المثال "يؤكد بشكل قاطع أن الفكرة القائلة بأن النمو والتقدم يرميان إلى هدف نهائي لا يتغير ولا يتبدل هي آخر أمراض العقل البشري في انتقاله من نظرة جامدة للحياة إلى نظرة مفعمة بالحركة والتغير".<!-- وأما الأهداف الرئيسية للتربية في النظرية البراجماتية كما أرساها بنجامين فرانكلين "فهي إعداد الطلاب للدراسة في الجامعات والمعاهد العليا، وإعدادهم أيضا لمواجهة الأوضاع المتغيرة في مجتمعهم، وللحياة الوظيفية في مستقبلهم، وذلك عن طريق الدراسات المهنية والعملية.<!--

أما أهداف التربية في التصور الإسلامي "أن يصير الإنسان عابدا لله عز وجل بكل معاني العبادة شاملة لكل ما يوقم به الإنسان من عمل وفكر أو شعور، مادامت وجهته إلى الله تعالى، والعبادة منهج حياة يستغرق كل الحياة".<!--

وللتربية الإسلامية أهداف ثابتة وأهداف متغيرة، "فإن تعلم الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة يمثل أهدافا ثابتة لمنهج التربية الإسلامية، كما أن الدقة والمهارة في إجراء كل ما تقتضيه صور التطبيق الثقافي والحضاري في المجتمعات الإسلامية تمثلان أهدافا متغيرة لهذا المنهج".<!-- فهنا تكمن وسطية التربية الإسلامية في غايتها.

<!--وسطية المنظور الإسلامي للعلم والمعرفة

اختلف الفلاسفة في تحديد ماهية العلم والمعرفة وتحديد مصادرها، "ففي نطاق التيار المثالي نجد فلاسفة شتى لهم نظريات مختلفة في المعرفة، فأفلاطون يتفق مع سقراط في أن لمعرفة المكتسبة بطريق الحواس لابد أن تظل على الدوام غير مؤكدة وغير تامة. والواقعيون يقولون أن العالم الذي ندركه حسيا ليس عالما خلقناه نحن بعقولنا بل هو العالم كما هو. ويعتقد البراجماتيون أن العقل ناشط ومستكشف أكثر مما هو سلبي ومتقبل، والعقل لا يواجه عالما منفصلا وبمعزل عنه بل أولى من هذا القول بأن العالم المعروف يشكله العقل الذي يعرفه".<!--

و"المعرفة عند الواقعيين هو أن المعرفة تعتمد على الخبرة والملاحظة، وأن الطبيعة تحتوي على الصدق، فالصدق حقيقة يمكن ملاحظتها وأن هذا الصدق يمكن الحصول عليه بواسطة الفحص العلمي للطبيعة".<!-- فالفلاسفة مختلفون في تحديد كنه المعرفة ومصادرها بين الوحي والعقل والطبيعة والتفاعل بين العقل والعالم.

وأما العلم والمعرفة في التصور الإسلامي فهو تصور وسطي متوازن، "التوازن بين مصادر المعرفة، بين التلقي من الوحي والنص والتلقي من الكون والحياة. لم يتطرف الإسلام كما تطرفت العقائد والمذاهب والفلسفات الأخرى، لم يفعل كما حدث في أوربا من اتخاذ الوحي وحده مصدرا للمعرفة، ثم الانصراف عن الوحي إلى العقل وحده مصدرا للمعرفة، ثم الانصراف من العقل إلى الطبيعة وحدها مصدرا للمعرفة. لم يتطرف الإسلام إلى درجة تأليه المصدر الذي تلقى عنه مع إهمال المصادر الأخرى إهمالا تاما، بل أخذ الإسلام من جميع المصادر، ووازن بينها، وأعطى كلا منها ما يستحق من الدرجة والاعتبار".<!-- فواضح أن التصور الإسلامي للعلم والمعرفة هو الأمثل من بين التصور الفلسفي الآخر.

ثانيا: وسطية جوانب التربية الإسلامية

<!--وسطية التربية الجسمية

والإنسان -كما تقدم- مكون من الجسم والروح، فالجسم أهم مكونات الإنسان، "وأنه ينبغي العناية به حتى يساعد المرء على القيام بوظائفه، وما يذهب إليه البعض من احتقار الجسم غير وارد في الإسلام"<!--، "والإسلام في تربيته للجسم والطاقة الحيوية يراعي الأمرين معا، يراعي الجسم من حيث هو جسم، ليصل منه إلى الغاية النفسية المرتبطة به. فحين يقول الرسول الكريم: إن لبدنك عليك حقا، من إطعام وإراحة وتنظيف وتقويم، فهو يدعو إلى هذه العناية الشاملة بالجسم كله ليأخذ الإنسان بنصيب من المتاع الحسي الطيب الحلال الذي أمر الله به في توجيهاته الكثيرة، منها: ولاتنس نصيبك من الدنيا، أي لغاية نفسية مقامة على قاعدة جسمية، ثم ليوفر الطاقة الحيوية اللازمة لتحقيق أهداف الحياة، وهي أهداف تشمل كل كيان الإنسان".<!-- وهي أهداف تتركز في العبادة لله وحدة التي تتمثل في تحركاته وسكناته، وفي أعماله اليومية.

<!--وسطية التربية العقلية

المقصود بالتربية العقلية "تكوين فكر الولد لكل ما هو نافع من العلوم الشرعية والثقافة العلمية والعصرية والتوعية الفكرية والحضارية، حتى تصبح الولد فكريا ويتكون علميا وثقافيا".<!-- ويحرص الدين الإسلامي على سلامة العقل العقل وتنميته وتوجيهه وحسن استثماره. ولذلك اهتم الإسلام بالعقل في النقاط التالية:<!--

<!--اختيار التربة المناسبة للإنبات وللنمو العقلي السليم، امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس. فلابد قبل الزواج من اختيار الزوجة الصالحة أو الزوج الصالح الخاليين من الأمراض الوراثية وبخاصة ما يصيب العقل كالتخلف العقل مثلا.

<!--وقاية الجنين من أسباب الضعف أو التخلف العقلي، كتعرض بطن الأم الحامل للأشعة السينية يؤدي إلى الضعف العقلي.

<!--تغذية العقل وتنميته، وذلك بالغذاء المادي بالأطعمة الصحية، وبالغذاء المعنوي، بالقراءة والتدبر في صنع الله وغيرها.

<!--حماية العقل من كل ما يشوش نظامه أو يتلفه، فتعاطي المخدرات والكحول وإدمانها يؤدي إلى أضرار عضوية واقتصادية واجتماعية ونفسية وغيرها.

فالإسلام قد اهتم بتربية العقل اهتماما كبيرا، وطلب العلم فريضة من أعظم الفرائض، فهو بذلك تربية وسط بين التربيات الأخرى.

<!--وسطية التربية الروحية

لا أحد يستطيع أن يعرف كنه الروح، فهي سر إلهي، إيمانا بقوله U (وَ یَسۡـَٔلُوۡنَکَ عَنِ الرُّوۡحِ ؕ قُلِ الرُّوۡحُ مِنۡ اَمۡرِ رَبِّیۡ وَ مَاۤ اُوۡتِیۡتُمۡ مِّنَ الۡعِلۡمِ اِلَّا قَلِیۡلًا ﴿۸۵﴾  (الإسراء: 85). "فالروح شيء مبهم غامض ليست له حدود، وهذا الإبهام في طبيعة الروح والغموض الذي يحيط بها والعجز عن إدراك كنهها هو الذي أغرى الماديين في العصور الحديثة أن يهملوها إهمالا ويسقطوها من الحساب. فكل ما لا تراه الحواس في نظرهم فهو غير موجود، والروح لا ترى بالحواس، فهي إذن شيء ليس له وجود".<!--

وأما الروح في التصور الإسلامي "فقد يفهم المرء منها أن في الطبيعة الإنسانية جزءا روحيا يشكل ركنا من مكوناتها، ولا يستطيع أحد الجزم بأي شيء عن كنه هذا الجزء، ولكن ربما يمكن القول بأن هذا الجزء الروحي يمتزج مع القلب ويتفاعل معه، لأن به يتم الإيمان والعلم، وعلى ما يعقده الإنسان فيه من نية يكون الحكم الحقيقي من الله U على سلوكه"<!-- كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرء ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه)<!--. فالروح عنصر مهم من عناصر الإنسان، فلا قيمة للجسم من غير الروح، لأن الروح هي العنصر المحرك للجسم، وهي العنصر الأبدي للإنسان، و"طريقة الإسلام في تربية الروح هي أن يعقد صلة دائمة بينها وبين الله في كل لحظة وكل عمل وكل فكرة وكل شعور".<!--

وتكمن وسطية الإسلام في تصوره للروح "إن الإسلام تميز عن الديانة المسيحية في أنه لا يحتقر الدنيا ولا يهين الجسد، كما يختلف عن اليهودية في أنه لا يهتم بالروح وينسى الحياة الأخرى، فهو دين يدعو إلى تحقيق التوازن بين مطالب الروح وحاجات الجسد، والتوفيق بين العمل والسعي في الحياة الدنيا والعمل والسعي للحياة الآخرة".<!--

<!--وسطية التربية الاجتماعية

إن الإنسان مخلوق اجتماعي بطبعه، فلا يمكن أن يعيش بمعزل عن الآخرين، ومن ثم لابد هناك من قواعد تنظم هذه الارتباطات والعلاقات بين الإنسان وأخيه، "ففي الغرب نجد الرأسمالية قائمة على أساس فردية الإنسان، فتوسع له في حدود فرديته وتترك له حرية التصرف في كثير من الأمر حتى يصل إلى حد إيذاء نفسه وإيذاء الآخرين. والشيوعية في الشرق قائمة على أساس جماعية الإنسان، فتوسع في دائرة الجماعة –أو في الحقيقة الدولة- وتحجر على كل نشاط للأفراد".<!-- فكلا الاتجاهين متطرفان في أقصى شمال الفردية وأقصى جنوب الاجتماعية.

وأما علاقة الإنسان في التصور الإسلامي فعلاقة معتدلة وسطية، "فالقيم الفردية لا تغض من القيم الاجتماعية ولا تغض القيم الاجتماعية منها، والغايات الذاتية لا تعلو فوق الغايات الإنسانية، ولا تعلو الغايات الإنسانية فوقها، وحاجات الدنيا لا تلغي مطالب الآخرة ولا تلغي هذه المطالب حاجاتها، ولعل شيئا من ذلك يشير إليه قوله تعالى: ] وَ لَا تُسۡرِفُوۡا ۚ اِنَّہٗ لَا یُحِبُّ الۡمُسۡرِفِیۡنَ ﴿٪۳۱﴾[ (الأعراف: آية 31)".<!--

ومن ناحية أخرى، "وإن كانت التربية الإسلامية يقصد بها صلاح الفرد والمجتمع إلا أنها في كثر من الأحيان تستلهم روح الإسلام العامة، تلك التي توجب الحد من سلطان الفرد إذا تعارض هذا السلطان مع الصالح العام، أو أساء الفرد استعمال هذا الحق، إذ القصد هو صالح الجماعة أو العمل على ما فيه الحفظ لكيان مجتمعهم في جو الود والمحبة".<!-- والتربية الاجتماعية في الإسلام "تأديب الولد منذ نعومة أظفاره على التزام آداب اجتماعية فاضلة وأصول نفسية تبيلة، تنبع من العقيدة الإسلامية الخالدة والشعور الإيماني العميق ليظهر الولد في المجتمع على خير ما يظهر به من حسن التعامل والأدب والاتزان والعقل الناضج والتصرف الحكيم".<!--

ثالثا: وسطية التربية الإسلامية بين الأصالة والمعاصرة

يقصد بالأصالة الأشياء الثابتة أو الثوابت الإلهية التي تتمثل في الوحي الإلهي –قرآنا وسنة- بصفتهما مصدرين أساسيين للتربية الإسلامية. وأما المعاصرة فهي الأشياء المتغيرة المتجددة نتيجة لتطور العقل البشري من الأمور الاجتهادية والابتكارات والاختراعات في مجال التربية.

<!--وسطية مصادر التربية الإسلامية

إن مصادر الشيء لها أهمية بالغة بالنسبة إلى ذلك الشيء، وخاصة بالنسبة للتربية الإسلامية، ومعظم نظم التربية في العالم لها مصادر مختلفة تابعة للفلسفة التي تنبع منها الأنظمة التربوية. فمنها ما يكون العقل البشري هو المصدر الأساسي للتربية، كما أن هناك من يروق له القول إن الطبيعة هي المصدر الوحيد للتربية، في الوقت الذي يرى فيه الثالث أن النفع أو الفائدة هي المصدر الرئيسي للتربية. وأما التربية الإسلامية فإن المصدر الأساسي لها هو الوحي الإلهي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه، كما أنها لا تهمل دور العقل والآراء المستنيرة التي لا تتعارض مع الوحي مصدرا للتربية، فمن هنا يتضح مدى وسطية وشمولية مصادر التربية الإسلامية.

و"إن الطريق المستقيم إلى معالجة قضايا التربية الإسلامية هو أن نفرق بين الثوابت والمتغيرات في مصادر البحث فيها، فالذي يعبر عن التربية الإسلامية حقا هو القرآن الكريم والسنة النبوية، وليس هذا المفكر أو ذاك. إن القرآن الكريم والسنة النبوية هما الثوابت التي يجب أن نحيطها بالتقدير والتقديس ولا تخضع لمتغيرات الزمان والمكان، وهما فوق النقد. أما آراء المفكرين فإننا نستعين بها للشرح والتحليل وهي تمثل متغيرات قابلة للأخذ والعطاء".<!--

<!--وسطية أساليب التربية الإسلامية

والتربية الإسلامية لها أساليب متنوعة، سواء ما كانت مستخلصة من القرآن والسنة، أو ماكانت من نتاج مفكريها. "ومنهج التربية في الإسلام متاح له كثير من الطرق والأساليب اتبداء من طريقة القدوة، وطريقة الوعظ والإرشاد، وطريقة القصة، واستخدام أساليب الثواب والعقاب، وتكوين العادات، والتربية بالأحداث، واستثمار الطاقات الإنسانية من الجهد والوقت إلى طريقة المناقشة وطريقة حل المشكلات".<!-- وهذه إن دلت على شيء فإنما تدل على قابلية التربية الإسلامية للتطور والنمو، وإنها مثالية في قدرة تكيفها بالمستجدات في مجال التربية.

<p
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 839 مشاهدة
نشرت فى 15 إبريل 2016 بواسطة msyairozi

عدد زيارات الموقع

1,818