ويثير تعبير التغريب أيضاً إشكاليات والتباسات نظرية ومنهجية تتصل بالعلاقة بينه وبين مفهوم التحديث، نتيجة الخلط فيما بينهما سواء من جهة اعتبار بعض المفكرين الغربيين نموذجاً للتطور التاريخى للحضارة الغربية هو النموذج الذى يجب أن تتبعه كافة شعوب العالم - بغض النظر عن ثقافاتها أو حضاراتها الأخرى التى تنتمى إليها- كطريق وحيد للحداثة، أو من جهة تخوف بعض شعوب ومثقفى العالم غير الغربى من أن الحداثة طبقاً لمفهوم وتصور النخب السياسية والثقافية فى دولهم ستعنى التغريب وبالتالى العصف بالثوابت الثقافية المستقرة لديهم بكل ما يمثله ذلك من تهديد الاستقرار الاجتماعى وتماسك النسيج الثقافى لهذه الشعوب.
كما ينبغى التنبيه إلى الخلط الذى يثيره وصف تلك الحضارة بالغربية من جهة تعريف الغرب. فتقليدياً أطلق تعبير الغرب على غرب أوروبا وأجزاء من وسطها، بينما كان يطلق تعبير الشرق على الأجزاء الشرقية من أوراسيا. كما أن تعبير الوسط كان يتم فهمه من جانب الصينيين بمعنى الإشارة إلى الهند، بينما كان يفهمه اليابانيون على أنه إشارة إلى الصين، ونظر إليه الأمريكيون باعتباره يعنى الشرق الآسيوى كما نعرفه نحن. ومن المنظور الأيديولوجى، فخلال حقبة الحرب الباردة الممتدة من 1945 إلى 1991، كان الغرب يشير إلى تحالف استراتيجى عسكرى أيديولوجى سياسى اقتصادى يضم الولايات المتحدة وكندا وأوروبا الغربية واليابان وكوريا الجنوبية أكثر منه بمعنى كيان حضارى أو ثقافى متجانس، وذلك فى وقت كان يقصد فيه بـ الشرق المعسكر الاشتراكى فى شرق ووسط أوروبا والدول الحليفة معه والتى تطبق نظامه السياسى والاقتصادى والاجتماعى. وفى ذلك الوقت، كان الذين يطلقون تعبير الغرب على مجمل أوروبا وأمريكا الشمالية هم فقط المفكرون ذوو التوجهات الإسلامية فى العالم العربى والإسلامى من الذين اعتبروا أن الشرق الشيوعى هو فى نهاية المطاف نبت حضارى للغرب بمعناه الثقافى والحضارى الواسع بقيمه ومبادئه ومثله العليا وبنمط تطوره التاريخى، باعتبار أن الماركسية هى فى نهاية الأمر نتاج للحضارة الغربية، وإن كانت رد فعل على بعض تجاوزات هذه الحضارة فإنها تبقى أسيرة إطارها المرجعى وفلسفتها المادية وتفسيرها الصراعى للأحداث. وقد استدل هؤلاء على صحة وجهة نظرهم تلك بالنظرة الدونية من جانب كارل ماركس إلى الحضارات غير الغربية -حسب ادعائهم- خاصة الحضارتين الهندية والإسلامية. وأدى هذا الاقتناع إلى اتهام الغرب من جانب هؤلاء بالعنصرية والتمحور حول الذات الثقافية والحضارية.
سابعاً: حضارة أمريكا اللاتينية، كما أشرنا فى السابق فإن لأمريكا اللاتينية هوية متميزة فى بعض وجوهها تفصل بينها وبين مجمل الحضارة الغربية، بالرغم من أنها فرع للحضارة الغربية وتجد جذورها التاريخية فى أوروبا، كما أنها ترتبط بالحالة الثقافية فى أمريكا الشمالية. ويتأتى هذا التميز من أكثر من سبب: فهناك أولاً الخلفية التاريخية والحضارية للشعوب الأصلية فى أمريكا اللاتينية والتى، وبخلاف حالة أمريكا الشمالية، لم تتعرض للاندثار بل هى باقية بنسب مختلفة وأحجام متباينة فى مختلف دول القارة بل إنها تشكل فى بعض الحالات غالبية السكان، مع ما يمثله ذلك من تعبير عن استمرارية، أو على الأقل تأثير، ثقافات وحضارات تلك الشعوب الأصلية على هويتها الثقافية الراهنة وانتمائها الحضارى الحالى. أما السبب الثانى فيتصل بنمط التطور التاريخى لأمريكا اللاتينية فى القرنين الماضيين، وهو يتسم بأنه نمط أكثر استبدادية من نمط التطور فى أوروبا وأمريكا الشمالية، كما أنه أكثر تعبيراً عن الطبيعة الجماعية والفئوية فى مجتمعات أمريكا اللاتينية، وذلك أيضاً بخلاف سيادة الطبيعة الفردية فى حالتى أوروبا وأمريكا الشمالية. ويتصل بذلك التباين أن كلاً من أوروبا وأمريكا الشمالية قد عاشتا آثار عملية الإصلاح الدينى ومرتا بطوره وجمعتا بين التأثيرات الثقافية لكل من الكاثوليكية والبروتستانتية، بينما بقيت أمريكا اللاتينية كاثوليكية حتى اليوم، دون أن ننفى التحول الثورى الذى أدخله تيار لاهوت التحرير الذى مثل يسار الكنيسة الرومانية الكاثوليكية فى أمريكا اللاتينية والوسطى باجتهاداته المختلفة منذ عقد الستينيات فى القرن العشرين فى إثراء وتجديد وإحياء ونهضة التراث الثقافى الكاثوليكى فى أمريكا اللاتينية. كذلك يشير إلى اختلاف مسار تطور النظام السياسى ونهج التنمية الاقتصادية بشكل كبير فى أمريكا اللاتينية عن جارتها الشمالية. والأهم مما سبق كله أن هناك غياباً للتوافق داخل أمريكا اللاتينية حول مدى الانتماء للحضارة الغربية، فمنهم من يرى نفسه جزءاً لا يتجزأ من تلك الحضارة ومنهم من يعتز بما يعتبره ثقافتهم المتفردة، وهو أمر يعكس التراث الطويل من الأدبيات التاريخانية والسياسية والفكرية والأدبية والفنية لدى مثقفى أمريكا اللاتينية. ومن هنا يكون المعيار هو إما اعتبار حضارة أمريكا اللاتينية حضارة متفرعة من الحضارة الغربية وبها بعض جوانب الاستقلالية والتمايز عن الأخيرة، أو أنها حضارة منفصلة ولكنها على علاقة وثيقة وخلفية انتماء متشابك مع الحضارة الغربية، والخيار الثانى هو الأقرب تحليلاً لنمط التطور الذى شهدته أمريكا اللاتينية فى سياقها الدولى، خاصة فى سياق علاقاتها مع كل من أوروبا وأمريكا الشمالية.
المصدر: د. وليد عبد الناصر - موسوعة الشباب السياسية
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN16.HTM
نشرت فى 13 أكتوبر 2011
بواسطة mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
286,862
ساحة النقاش