يوضح تطور النظام الدولى (والنظم الداخلية أيضا) أن مدى قوة الدول أو الحكومات عموما يتجه نحو التقلص ، فقد إنتهت تقريبا أنواع الثواب المفرط (كقيام الملك بتزويج ابنته لشخص أو منحه ما يوازى وزنه ذهبا) أو العقاب المفرط (كالحرق والصلب والسحل والشنق أمام الجماهير) ، والمثير أن ذلك لم يحدث على المستوى الدولى ، فرغم أن المنح لم تعد تقدم بلا حدود (على غرار مشروع مارشال) ، ولم تعد حملات غزو الدول وإحتلالها (التوسع الألمانى ـ هتلر) تمارس سوى فى حالات خاصة ، أصبحت لمعظم الدول الكبرى برامج معونة خارجية تتضمن منحاً مالية كبيرة ، وأصبحت قواعد الحرب تخترق بشدة (يتضمن ذلك ارتكاب جرائم حرب) خاصة فى الحروب الأهلية ، وهو تطور معقد ، فربما تقلص المدى مع اتساع النطاق ، كما يبدو واضحا أن أوزان قوة المال والعنف ليست حاسمة ، فالدول يمكنها أن تقول لا للمانحين ، كما أن الشعوب لا ترضخ رغم المذابح ، ويحتاج ذلك إلى مزيد من التحليل .

4 - مجال القوة The scope of power:
ويمثل مجال القوة بعدا هاما من أبعادها ، فهو يعبر عن مجموع أنواع وفئات العلاقات السلوكية ، والموضوعات أو القضايا التى تخضع للقوة ، فمجال قوة الوالدين على أطفالهم يتسع ليشمل كل نشاطات الأطفال تقريبا ، وإن لم يكن هناك الكثير الذى يمكن للطفل القيام به. فمجال القوة يزداد بزيادة قدرات الأطراف الفاعلة داخل ميدان القوة ، فيما يتصل بأنواع السلوك التى تخضع ، أو يمكن أن تخضع له ، بصرف النظر عن فعالية التأثير (وزن القوة) .
ولقد اتسع مجال قوة الدول بشدة خلال القرن العشرين ، فمعظم النشاطات التى يمكن تصورها من جانب المواطنين فى أى دولة ، بما فيها توقيتات الاستيقاظ (المرتبطة بمواعيد الذهاب إلى العمل) ، ومواقع عبور الطريق ، وسرعة قيادة السيارة ، تخضع لنظم الدولة ، ووصل الأمر فى كثير من الدول إلى تحديد أماكن التدخين ، أو عدد الأطفال الذين يتم إنجابهم، وذلك عن طريق القوانين وأدوات السلطة . ولا يحدث أى من ذلك بالطبع فى علاقات الدول فلا توجد حكومة عالمية ، وسلطة الأمم المتحدة محدودة .
لكن فى نفس الوقت ، فإن بعض الدول تسيطر إلى حد كبير على قيم مجالية مختلفة تتصل بتفاعلات أقاليم معينة ، أو نشاطات نوعية فى دول أخرى ، على غرار ما يقال أحيانا فى الشرق الأوسط من أنه لا حرب بدون مصر ، ولا سلام بدون سوريا، والسيطرة النسبية للسعودية على أسعار البترول ، وتحكم إسرائيل فى اقتصاد الفلسطينيين ، ويثار الكثير بشأن المجالات المحددة لتأثيرات القوة النووية ، فهى تؤثر فى نطاق ردع التهديدات الموجهة لبقاء الدولة ، لكنها غير ذات تأثير حقيقى فى مفاوضات حول مشكلة تجارية ، أو مشكلة حدودية ، أو حتى الأعمال العسكرية المحدودة ، فتأثيرات القوة ليست اكتساحية .
وعلى ذلك ، فإن القوة تؤثر ، لكن ليس خارج إطار أبعادها المختلفة ، بل إن القوة تتدهور بدرجة كبيرة عند حدود نطاقها ومداها ومجالها ، إذ يقل ثقلها بشدة ، ولا تستطيع أن تحدث أى سيطرة . ويرتبط النجاح والفشل فى ممارسة القوة بإدراك المشاركين فى عملية التأثير لحدود القوة ، خاصة مع وجود بعد إنساني فى تلك العملية ، فالنجاح فى التأثير يفرز سلوكا واثقا يرتبط ببعض المكاسب الشخصية التى تتطلب حكمة فى توظيفها، أما الفشل فى التأثير فإنه يؤدى إلى إلحاق أضرار ببعض أو كل الأشخاص المتورطين فى الموقف ، أو على الأقل ستظهر ميول بينهم إلى اللجوء إما إلى العنف أو الانسحاب ، كأكثر أشكال التعامل مع الخسائر احتمالا ، وهو ما يجعل لعبة القوة شديدة التعقيد .

الخــــاتـــمـة

أن المشكلة لا تكمن فى إدراك أن القوة قد تكون بالفعل هى محرك العلاقات الدولية ، على الأقل فى إتجاهات تفاعلاتها الحاكمة لحركة التاريخ ورسم الخرائط السياسية، إذ أن القوة ـ وليس الحق أو العدل ـ هى التى تشكل ملامح الواقع فى معظم الأحيان ، وإنما فى إدراك ما الذى تعنيه تلك القوة بدقة فى عالم شديد التغير ، يشهد أحيانا انقلابات حقيقية كما حدث فى 11 سبتمبر عام 2001.
وقد أوضحت الدراسة أن القوة مفهوم معقد ، فالقوة تبدو سهلة للغاية فى تعريفها ، لكنه ليس كذلك فى أسسها أو أدواتها وموازينها أو استخداماتها ، ويصعب قياسها ، والأهم أنه لا توجد حقائق بسيطة بشأن عناصرها، أو علاقات مباشرة بين تلك العناصر ، فهناك دائما استدراكات مختلفة أو متغيرات وسيطة تحيط بكل شئ ، ولا يمكن تجنب التعامل معها بتلك الصورة المركبة ، فلا توجد طريقة أخرى لتجنب فشل التحليل أو فشل القوة .
فى هذا السياق ، يكاد يكون أهم ما تطرحه تحليلات/ سياسات القوة هو أنه لا توجد علاقة مباشرة بين امتلاك عناصر القوة والقدرة على التأثير ، فمن الصحيح ـ كما كان أتيلا ؟ زعيم الهند يقول ـ أن القوى ينتصر ، إلا أن تعقيدات القوة فى العصر الحديث قد وصلت إلى درجة لا تجعل مثل هذا الإنتصار حتمى أو مضمون ، بل إن القوى قد يهزم أحيانا فى ظل ظروف خاصة يورط نفسه فيها . وبقدر ما تمثل هذه العلاقة غير المباشرة أهمية لما اصطلح على اعتباره الطرف (أ) الفاعل ، تعتبر هامة بنفس القدر للدولة التى تجد نفسها الطرف (ب) الهدف ، فالنتيجة النهائية للتفاعل سوف تتوقف إلى حد كبير على محددات التأثير ، التى لا تؤدى إلى تحويل الهزيمة إلى نصر ، والنصر إلى هزيمة ، لكنها قد تخلق نتائج مركبة أخرى للقاء ، بعيدا عن هذين المفهومين الجامدين .
وأخيرا ، فإن قوة الدولة أو ضعفها لا تزال أهم أسس التعامل بين الدول فعالية ، فأفضل استراتيجية هى ـ كما يقول كلاوز فيتز، مع بعض التعديل ـ أن تكون الدولة دائما قوية ، وقوية تحديدا فى النقطة الحاسمة ، وتمثل القوة العسكرية (من وجهة نظر المدرسة الواقعية)، بكل ما يرتبط بها من أسس وأبعاد ، أهم عناصر القوة ، فالتغيرات التاريخية الكبرى لم تحدث إلا من خلال التهديد بها أو استخدامها فعليا ، ولا تزال أقاليم كالشرق الأوسط تبدو وكأنها ـ إضافة إلى مناطق البلقان فى أوروبا والبحيرات فى أفريقيا وجنوب آسيا أيضا ـ آخر غابات العالم ، التى لا تزال محكومة بقوانين القوة المعدلة ، وثمة تصورات كثيرة غير دقيقة لدى كثيرين ممن يمتلكون القوة ، ومن لا يمتلكون الكثير منها، على نحو قد يفرز سيناريوهات سيئة ، وفى ظل هذه الأوضاع ، لا يمكن الوثوق تماما إلا فى القوة العسكرية، على الأقل ، لفترة ما قادمة .

 

 

المصدر: أ. محمد عبد السلام - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/YOUN68.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 118 مشاهدة
نشرت فى 12 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,883