هناك أربعة أمور يتسم بها البرلمان المعاصر، وهى: أنه قاعدة النظام الديمقراطى، وهيئة لتمثيل المواطنين فى الحكم، واستناده الى له قاعدة شعبية واسعة، وأنه محور نظام الحكم. ويمكن التأمل فى تلك الخصائص على النحو التالى:
1- البرلمان قاعدة النظام الديمقراطى:
لقد أصبحت الديمقراطية اليوم من سمات الدولة الحديثة، كما يعتبر البرلمان من أهم معالم المجتمع الديمقراطى، لأنه تجسيد لقيم السيادة الشعبية، والحرية والمساواة والمشاركة السياسية.
لقد ظهرت الديمقراطية فى بادئ أمرها كدعوة الى محاربة الحكم الاستبدادى المطلق، بيد أنها استقرت وتطورت الى نظام للحكم، وطريقة لتمكين الشعب من ممارسة السيادة على مقدراته.
كما تشير فكرة الديمقراطية الى إشراك الشعب فى صياغة نمط حياته من خلال توجيه السياسة والتأثير فى عملية الحكم بأوسع معانيها، وهكذا، أصبحت تشير الى المساواة فى الحقوق السياسية لأفراد الشعب من ناحية، وضرورة رضاء هذا الشعب عن نظام الحكم من ناحية أخرى، وحقه فى اختيار ممثليه من ناحية ثالثة.
كما تطورت فكرة الديمقراطية ذاتها وأصبحت أكثر نضوجا، بحيث لا تتعارض مع قيم الحرية والمساواة مع حقائق الاختلاف والتمايز بين المواطنين.
فالمقصود بالمساواة هو المساواة القانونية، التى لا تنكر الاختلاف بين الأفراد فى المواهب والقدرات، وتقبل التمايز بينهم من حيث الفضيلة والموهبة، وتساوى بينهم فى التمتع بالحقوق والحريات التى يكفلها الدستور والقانون.
أما الحرية فى إطار الديمقراطية، فليست هى الحرية المطلقة، وإلا أدت الى الفوضى، وإنما هى الحرية المنظمة، التى تتولى السلطة تنظيمها بشكل يسمح لكل مواطن بممارسة حريته دون تصادم مع ممارسة الآخرين لحرياتهم.
كذلك، فإن الديمقراطية تعتبر المشاركة فى الحياة السياسية حقا لكل مواطن، يسهم من خلاله فى التأثير فى نظام الحكم، حتى يكون القرار فى النهاية نتاج مشاركة جماهيرية حقيقية وليس تعبيرا عن إرادة القلة المسيطرة سياسيا.
وقد أصبحت هذه المشاركة ترتبط بشكل وثيق بتعدد الأحزاب السياسية، التى تتنافس للوصول الى السلطة، من خلال إقناع الناخبين والحصول على ثقتهم وتأييدهم، فيفوز بعضها بالأغلبية ويمارس الحكم، ويظل الآخر أقلية، يمثل المعارضة..، كل هذا وفقا لاختيار الشعب، ومن خلال انتخابات دورية تتم فى مناخ من الحرية السياسية، لأن الخائف على حريته لا قيمة لرأيه ولا وزن لكلمته وبالتالى تكون مشاركته السياسية غير مجدية.
ولهذا، فإن البرلمانات هى قاعدة النظام الديمقراطى المعاصر، وذلك لعدة أسباب:
أولها، أن البرلمان هو المؤسسة الأكثر ارتباطا بالجمهور وانفتاحا عليه، حيث تدور مناقشاته على تنوعها فى مناخ من الشفافية والعلنية، على الأقل إذا قورن بالسلطة التنفيذية، بل وكذلك السلطة القضائية التى تتخذ قراراتها وتمارس مداولاتها سرا. بعبارة أخرى، فإن السمة المميزة للبرلمان كأحد مؤسسات الحكم الديمقراطى هى أن مناقشاته تكون معروضة أمام الجمهور.
وثانيها، أن البرلمان هو المؤسسة الوحيدة فى نظام الحكم التى تجمع بين وظيفتين رئيسيتين، فهو هيكل نيابى يعبر عن مشاعر وآراء المواطنين، كما أنه من ناحية أخرى آلية تشريعية، تصنع القوانين التى تحكم الدولة بأسرها. ولعل اجتماع هاتين الوظيفتين فى البرلمان هو مصدر أهميته الفريدة بين مؤسسات النظام الديمقراطى.
وثالثها، أن البرلمانات هى المؤسسات التمثيلية الأساسية فى الدولة. فلقد تطورت البرلمانات عبر فترة طويلة، حتى أصبحت الإطار الرئيسى لتمثيل المجتمع فى هيكل السلطة الحاكمة. وقد ارتبط بذلك قيام البرلمان بدور هام فى مجال الوعى السياسى وخلق رأى عام فى مواجهة السلطة الفردية المطلقة. ولا شك فى أن الوظيفة التمثيلية كانت وما تزال الوظيفة الأساسية للبرلمان، حتى بعد إضافة وظائف أخرى له فيما يتعلق بصنع السياسة أو إصدار القانون، وغيرها.
ورابعها، أن البرلمان هو المؤسسة الحكومية الوحيدة التى تضم عددا كبيرا من الأعضاء، بما يفوق المؤسسة التنفيذية، أى عدد الوزراء. كما أن أعضاء البرلمان أكثر تنوعا من بقية أعضاء السلطتين التنفيذية والقضائية معا، وذلك من الناحية السياسية والحزبية، وأيضا الانتماء الى المناطق الجغرافية والثقافات المحلية المختلفة فى المجتمع.
وخامسها، وهو السمة الرئيسية فى تكوين البرلمان، أنه يعتمد على آلية الانتخاب، ولاسيما بعد إلغاء الشروط التى قيدت حق الانتخاب والترشيح فى مختلف أنحاء العالم. فعندما بدأ تطبيق حق الانتخاب كان محصورا فى فئة متميزة من المواطنين الذين يدفعون حداً أدنى من الضرائب. وهذا النصاب المالى جعل حق الانتخاب محدودا فى البداية ثم أخذ يتسع تدريجياً نتيجة التوسع فى الاستثناء منه لفئات مهنية مختلفة، وكذلك بسبب التخفيض المستمر فى هذا النصاب الى أن تم الغاؤه ابتداءً من مطلع القرن العشرين.
كما كان حق الانتخاب مقصوراً فى البداية على الرجال دون النساء. وتأخر حصول المرأة على حقها الانتخابى فى البلاد الديمقراطية الى النصف الأول من القرن العشرين أيضا.
وسادسها، أن البرلمانات عموما تتميز عن غيرها من سلطات الحكم بأنها تعمل فى إطار قاعدة المساواة بين أعضائها، أغلبية ومعارضة، معينين أو منتخبين، فيما يسمى الطابع المساواتى للبرلمان.
فإذا كانت السلطة التنفيذية تتسم بوجود رئيس واحد لأعضائها (رئيس الدولة أو رئيس الوزراء، أو الوزير الأول) فإن البرلمانات تتميز بأنها مؤسسات جماعية، تضم نوابا متساوين، سواء فى طريقة الانتخاب أو فى صفتهم النيابية، أو حقوقهم وواجباتهم البرلمانية.
ولهذا، يتسم نظام صنع القرار البرلمانى بآلية الاتفاق الجماعى بين أعضائه. وحتى رئيس البرلمان فيكون بالانتخاب الداخلى، واختصاصه تنظيمى فى المقام الأول، ليتحدث بإسم البرلمان وينظم عمله ولا يتميز فى الحقوق والواجبات البرلمانية عن سائر الأعضاء، أى أنه رئيس للبرلمان وليس رئيساً للأعضاء. بعبارة أخرى، فبينما يوجد فى السلطة التنفيذية، مثلا، رئيس للوزراء فلا يوجد فى البرلمان رئيس للنواب.
هذه الخصائص التكوينية الست للبرلمان هى التى تميزه عن غيره من مؤسسات الحكم فى النظام الديمقراطى.
وبالرغم من أن المؤسسات الأخرى قد تشارك البرلمان فى بعض تلك الخصائص، فإنها لا تتمتع بها مجتمعة. فعلى سبيل المثال، نجد أن السلطة التنفيذية قد تتشابه مع البرلمان من حيث تكوينها بالانتخاب المباشر من قبل المواطنين، ولكنها لا تتسم بالخصائص الأخرى للبرلمان، كالطابع المساواتى.
كذلك الأمر بالنسبة للسلطة القضائية، حيث قد تتشابه مع البرلمان من حيث إمكانية تكوينها فى بعض المستويات القضائية بالانتخاب، وكذلك بالطابع المساواتى بين أعضائها، ولكنها تفتقد لبعض الخصائص الأخرى للبرلمان، مثل الطابع التمثيلى للمناطق الجغرافية وتعبيره عن التيارات السياسية المتعددة فى المجتمع.
ساحة النقاش