كان ادراك بعض الأحزاب الشيوعية في دول أوروبا الغربية لمساوئ نظام الحزب الواحد أحد أهم أسباب اتجاهها الي إعادة النظر في الأسس الفكرية التي كانت تؤمن بها والمستمدة من النظرية الماركسية كما سبقت الاشارة. وكان أولها الحزب الشيوعي الايطالي الذي قام بدور ريادي في هذا المجال منذ منتصف السبعينات ، أي قبل عقد ونصف عقد علي سقوط نظام الحزب الواحد في دول شرق اوروبا من خلال انتفاضات شعبية ضد هذا النظام، ثم في الاتحاد السوفيتي.
وقد تأثرت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية، عندما أعادت النظر في موقفها واتجهت الي تأييد نظام تعدد الأحزاب بتجربتها التاريخية حيث نشأت وتطورت في ظل هذا النظام. ولذلك لم يكن غريبا أن تعلن تباعا قبولها بأساليب الديمقراطية الليبرالية القائمة علي تعدد الأحزاب ، والتعهد باحترام هذه الأساليب لدي وصولها الي السلطة بما في ذلك الاقرار بحق الأحزاب غير الاشتراكية في المعارضة ، علي أن تجري مناهضة آرائها بالطرق السياسية، من حوار وإقناع ، وليس بالطرق الادارية وأساليب القهر البوليسي ، وذلك في إطار احترام الحريات السياسية والمدنية والفردية .
ثانيا : النظام الحزبي ونمط التنمية السائد :
هناك علاقة وثيقة ربطت من الناحية التاريخية بين نمط النظام الحزبي ، سواء الحزب الواحد ، أو تعدد الأحزاب، وبين نموذج معين من التنمية. فقد ارتبط تعدد الأحزاب بنموذج التنمية الرأسمالي الذي عبر عنه في أكثر صوره الكلاسيكية الاقتصادي الانجليزي آدم سميث الذي بني نظريته علي افتراضات ملخصها ان أي مجتمع يمكن أن يتطور بسرعة اذا استطاع كل فرد أن يحقق مصالحه وطموحاته الشخصية في سوق تسمح بالمنافسة الحرة دون أي تدخل غير ضروري من الدولة. وأن التقدم يمكن أن يتحقق ، ليس عن طريق الدولة، ولكن عن طريق ازدياد المخترعين والمبدعين، أو من يمتلكون وسائل الانتاج ، والذين تعكس نشاطاتهم - الموجهة بحافز الربح - حاجات المستهلك للسلع والخدمات. وكل ذلك ضمن بيئة يسود فيها القانون ، ويجري فيها احترام النظام والاستقرار، وتتناسق فيها المصالح.
ففي ظل نموذج التنمية الرأسمالي، يكون الفرد هو محور النظام الاقتصادي والسياسي ، ولا يمكن فرض أي قيود علي حريته إلا لمصلحة عأمة ضرورية. فهذه الحرية تعتبر من قبيل الحقوق الطبيعية اللصيقة بالفرد بحكم كونه إنسانا .
ولذلك يقوم نموذج التنمية الرأسمالي علي أن تترك الدولة الحرية للأفراد في ممارسة نشاطهم الاقتصادي، بإعتبار أن كل فرد أدري بمصالحه ، وأن مصلحة المجتمع تتحقق في النهاية كنتيجة غير مباشرة لجهود الأفراد من أجل تحقيق مصالحهم.
ويصعب تحقيق ذلك عمليا إلا اذا اقترنت الحرية الاقتصادية للأفراد بحرية سياسية. ومن أهم معالم هذه الحرية أن يكون في مقدور الأفراد تأسيس الأحزاب السياسية التي يعبرون من خلالها عن آرائهم ومواقفهم ومصالحهم في صورة برامج تحدد السياسات العامة التي يري أعضاء كل حزب أنها أفضل من غيرها. وطالما أن حق تأسيس الأحزاب متاح للأفراد علي هذا النحو، يصبح من الطبيعي أن توجد أحزاب متعددة لأنه يستحيل تصور أن ينضم كل الافراد في أي مجتمع الي حزب واحد دون غيره.
ولا يعني اطلاق حرية الأفراد في النموذج الرأسمالي للتنمية غياب أي دور للدولة فهي تقوم بأدوار تنظيمية وإشرافية ورقابية علي المستويين الاقتصادي والسياسي . وقد ازداد دور الدولة الرأسمالية في الحياة الاقتصادية تدريجيا في صورة تدخل مباشر أو غير مباشر في مجالات متعددة سواء للحد من التفاوت الاجتماعي وإعادة توزيع الدخول عبر النظام الضريبي، أو لخلق فرص عمل جديدة ، أو لمنع الاحتكار ومقاومته اذا حدث. وهذا هو ما يطلق عليه دولة الرفاهية الاجتماعية التي تلعب فيها الحكومة دورا كبيرا. ويمتد دور الدولة أيضا الي تنظيم الحياة السياسية من خلال القوانين التي تصدرها ويتطرق بعضها الي تنظيم أنشطة الأحزاب دون أي تدخل في شئونها. ويتضمن هذا التنظيم علي سبيل المثال حظر أي أنشطة مسلحة وإلغاء الحزب الذي يمارسها، أو الرقابة علي تمويل الأحزاب وعلي ما تنفقه خلال الحملات الانتخابية، ووضع حد أقصي لهذا الانفاق وإلزام المرشحين بالكشف عن مصادر تمويلهم وما الي ذلك.
ما نمط الحزب الواحد ، فقد اقترن بنموذج التنمية الاشتراكية وأساسه التخطيط المركزي، والملكية العامة لوسائل الانتاج ، وتقوية أجهزة الدولة ، وسيطرتها علي الموارد ، وتعبئة طاقات المجتمع وقواه المادية والبشرية، وتوجيهها وفقا لأولويات إجتماعية محددة في إطار علاقات الانتاج الاشتراكية.
ويقوم هذا النموذج علي تأميم وسائل الانتاج، بما يؤدي الي امتلاك الدولة باعتبارها ممثلة للأمة للمصانع والشركات والبنوك والمتاجر الرئيسية ، حتي تتمكن من وضع الخطط الاقتصادية والاجتماعية وتنفيذها من ناحية، وإعادة توزيع الثروة لمصلحة الطبقات الدنيا في المجتمع من ناحية أخري.
ولا ينسجم هذا النموذج في التنمية مع وجود أحزاب متعددة تتنافس فيما بينها . فالمنطق الذي يقوم عليه هذا النموذج هو الاعتماد علي دور الدولة في تحقيق التنمية بشكل مركزي، الأمر الذي يقتضي نوعا من المركزية السياسية أيضا في صورة حزب واحد يعتبره اصحابه - في هذا السياق - حزبا طليعيا يقوم علي وحدة الارادة .
وقد انتقل هذا المفهوم الخاص بالحزب الواحد الي كثير من البلاد النامية بعد حصولها علي الاستقلال ، اعتقادا في أنه يساعد علي تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية أسرع، بالاضافة الي الحفاظ علي وحدة بعض هذه البلاد التي تعاني انقسامات في داخلها سواء كانت عرقية (أجناس مختلفة) أو دينية أو قبائلية وعشائرية.
وفي هذا السياق، ربما كانت أكثر الأبعاد أهمية في التحديث تتمثل في الثورة التكنولوجية التي حملت معها اتجاهات هأمة في مجالات التصنيع ، والتنمية الاقتصادية والاتصال .
في ضوء ذلك ، يمكن القول أن التنمية السياسية تتعلق بالتحديث في المجال السياسي، مما جعل البعض يتحدث أيضا عن التحديث السياسي، ويصبح المفهومان - بالتالي - (أي مفهوم التحديث والتنمية السياسية) متمايزين تحليليا ولكنهما متداخلان فعليا. الأمر الذي يسمح بالحديث عن وجود علاقة تبادلية بين الظاهرتين. فالنخب السياسية في سعيها - جزئيا - لتعظيم قوتها قد تسعي الي تحقيق عمليات التحديث ، والاسراع بها ، وفي المقابل ، فإن قوي التحديث تؤثر - في نفس الوقت- علي سلوك وسياسات النخب الحاكمة.
ساحة النقاش