جدير بالذكر أنه كانت هناك انشقاقات عن الوفد لن يترتب عليها تأسيس أحزاب جديدة وأهمها انشقاق عام 1932 عندما رفض مصطفي النحاس اقتراح بعض قادة الحزب تشكيل حكومة ائتلافية لمفاوضة الانجليز ، وأصر علي اعادة العمل اولا بدستور 1923 الذي ألغاه اسماعيل صدقي عندما ترأس الحكومة عام 1930.
ومع ذلك اسفر انشقاقان آخران عن تأسيس اثنين من أهم أحزاب الاقلية في تلك المرحلة .
وكان أولهما انشقاق اثنين من ابرز قادة الوفد وهما احمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي . وكان هذا أول انشقاق لا يرتبط بخلاف علي القضية الوطنية وإنما بصراع علي النفوذ والسلطة داخل الحزب بعد توقيع معاهدة 1936 التي تصور البعض انها أنهت النضال من اجل الاستقلال . وقد تشكلت الهيئة السعدية في اواخر عام 1937 بزعامة أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي الذي احتل منصب رئيس وزراء مصر في اواخر الاربعينيات. وحرص الحزب وقياداته علي تأكيد الانتساب الي ثورة 1919 ، كما حرص النقراشي علي اظهار ارتباطه الوثيق بزعيم تلك الثورة سعد زغلول ، ومن هنا كانت تسميته بالهيئة السعدية وتسمية اعضائه بالسعديين .
كما ظهر في نفس السياق حزب الكتلة الوفدية نتيجة انشقاق السكرتير العام لحزب الوفد والرجل الثاني فيه مكرم عبيد خلال وجود الوفد في الحكم (وزارة مصطفي النحاس باشا الخامسة فبراير - مايو عام1942) حيث ظهر الخلاف داخل هذه الوزارة ، وهو الخلاف الذي أدي الي اصدار مكرم عبيد الكتاب الأسود الذي اتهم فيه قيادة الوفد وبعض وزرائه بمخالفة القانون والتورط في ممارسات اعتبرها فاسدة.
وكان هذا الانشقاق الأخير من أكثر الانشقاقات التي تم فيها تبادل الاتهامات بين أعضاء الوفد والمنشقين عليهم خاصة فيما يتعلق باستغلال النفوذ للاثراء والفساء .
وفي مقابل حزب الوفد والأحزاب المنشقة عنه والتي انتسبت كلها الي ثورة 1919، عرفت التجربة الحزبية الثانية وجود أحزاب أخري لم تنسب الي الثورة مثل الحزب الوطني (الذي استمر من التجربة الأولي) ، والأحزاب التي نشأت في ارتباط مع الملك والقصر مثل حزبي الاتحاد ، والشعب . وخارج نطاق الأحزاب وجدت ايضا جماعات وتنظيمات ذات طابع ايديولوجي مثل جماعة الاخوان المسلمين وحركة مصر الفتاة والتنظيمات الشيوعية المختلفة التي نشطت تحت الأرض.
ويمكن القول اجمالا، ان التجربة الحزبية الثانية في مصر ، تعد من أكثر التجارب الحزبية ثراء وتنوعا سواء من الناحية الفكرية أو السياسية ، كما أن أثر هذه التجربة علي الشارع السياسي كان كبيرا أيضا ، أي انها تجربة كانت لها امتداداتها الجماهيرية . هذا من ناحية، ومن ناحية أخري امتازت هذه التجربة بقوة العلاقة بين الأحزاب والسلطة بمعني وجود ممثلين عن الأحزاب في المؤسسات السياسية المختلفة من تنفيذية وتشريعية أي في الوزارة والبرلمان. فباستثناءات قليلة كانت تركيبة الوزارة والبرلمان- ابتداءً من وزارة سعد زغلول الأولي (يناير 1924) الي وزارة النحاس الاخيرة (يناير عام1950) ، تركيبة حزبية.
وهو أمر يختلف عن التجربة الحزبية الأولي التي لم تكن علي نفس القدر من النضج أو الحضور السياسي. واستمرت التجربة الحزبية الثانية الي أن قامت ثورة 23 يوليو عام 1952.

ثالثا : التجربة اللاحزبية والتنظيم الواحد (1953 - 1976):
دخلت قيادة ثورة 1952 ، في مرحلة تثبيت سلطتها ، في مواجهة مع الأحزاب السياسية مما أدي الي انتهاء التجربة الحزبية الثانية وبدء مرحلة جديدة اتسمت برفض تعدد الأحزاب ولكن دون الاعتماد علي حزب واحد بالمعني الذي سبق توضيحه في الفصل الثاني .
فقد كانت نظرة قيادة الثورة الي الأحزاب سلبية ، حيث ربطت بينها وبين المصالح الخاصة والمغانم والفساد . ولذلك فعندما تم تأسيس أول تنظيم واحد في يناير عام 1953، وهو تنظيم هيئة التحرير ، قيل انها (ليست حزبا سياسيا يوزع المغانم علي الأعضاء أو يستهدف شهوة الحكم والسلطان ، وإنما هو اداة لتنظيم قوي الشعب وإعادة بناء المجتمع علي أسس جديدة).
وسبق ذلك اتخاذ اجراءات متتالية ضد الأحزاب السياسية التي كانت قائمة . وبدأت تلك الاجراءات بتنظيم الأحزاب في 9 سبتمبر 1952 وانتهت بحلها وإلغائها في 18 يناير 1953.
فقد اصدر مجلس قيادة الثورة قراره لتنظيم الأحزاب في 9 سبتمبر عام 1952 بهدف (تطهير الحياة السياسية من العناصر التي ساهمت في افسادها خلال الفترة السابقة) . وبموجب هذا القرار تم الزام الأحزاب بإخطار وزير الداخلية بأنظمتها الداخلية وأعضائها المؤسسين ومواردها المالية، بما في ذلك الأحزاب التي كانت قائمة والتي نص القرار علي انه يتعين عليها (ان تعيد تكوين نفسها وفقا لأحكامه) .
وأعطي القرار وزير الداخلية حق الاعتراض علي تكوين الأحزاب وطلب وقف نشاطها أو اسقاط عضوية احد اعضائها أو تصحيح أي أوضاع خاطئة .
وقد حاولت الأحزاب التي كانت قائمة أن تكيف نفسها مع النظام الجديد والقيود التي فرضها علي الحياة السياسية والحزبية . ولكن لم يسعفها الوقت، اذ سرعان ما صدر قرار الغاء دستور 1923 في 10 ديسمبر عام 1952 في بيان من القائد العام للقوات المسلحة اعلن فيه (بإسم الشعب سقوط دستور 1923 ، وأنه ليسعدني ان اعلن في نفس الوقت أن الحكومة آخذة في تأليف لجنة تضع مشروع دستور جديد .. والي أن يتم إعداد هذا الدستور تتولي السلطات في فترة الانتقال التي لابد منها حكومة عاهدت الله علي أن ترعي مصالح المواطنين جميعا دون تمييز أو تفريق).
ولكن الاعلان الخاص بقيام فترة الانتقال ، التي وردت في بيان سقوط دستور 1923، لم يصدر إلا في 16 يناير عام 1953عن القائد العام للقوات المسلحة ايضا متضمنا حل الأحزاب السياسية التي قال عنها : (لما كانت الأحزاب علي طريقتها القديمة وبعقليتها الرجعية لا تمثل إلا الخطر الشديد علي كيان البلاد ومستقبلها ، فإنني أعلن حل جميع الأحزاب السياسية منذ اليوم ومصادرة أموالها لصالح الشعب بدلا من ان تنفقه لبذر بذور الفتنة والشقاق).
وحدد الاعلان فترة الانتقال بثلاث سنوات مع تهديد (بالضرب بمنتهي الشدة علي يد كل من يقف في طريق أهدافنا التي صنعتها آلامكم الطويلة وتتمثل فيها رغباتكم وأمانيكم).
وبعد 48 ساعة، أصدر القائد العام للقوات المسلحة قرارا تفصيليا لالغاء الأحزاب علي اساس أنها (لم تظهر ذاتها ولم تفصح عن نية جادة في هذا الاتجاه الأمر الذي استلزم حلها تماما). كما تم منع اعضاء هذه الأحزاب والمنتمين اليها من القيام بأي نشاط حزبي علي اي صورة كانت ، كما يحظر تقديم أي مساعدة لهؤلاء الاشخاص في سبيل قيامهم بالنشاط الحزبي). كما تم حظر تكوين أحزاب سياسية جديدة .
وبذلك انتهت رسميا تجربة تعدد الأحزاب الثانية والتي كانت قد وصلت الي نهايتها فعليا بقيام ثورة 1952. وبدأت قيادة هذه الثورة في تأسيس تنظيماتها السياسية التي لم تأخذ طابعا حزبيا كالذي تتسم به نظم الحزب الواحد. فكانت هذه التنظيمات ذات طابع فضفاض . ولم تكن هي اداة الحكم علي النمط المعروف في حالة الحزب الواحد ، وإنما اقرب الي هيئة سياسية عامة لملء الفراغ الذي ينتج عن الغاء الأحزاب .
وينطبق ذلك ، أكثر ما ينطبق ، علي اول تنظيم سياسي في عهد الثورة ، وهو تنظيم هيئة التحرير الذي تم اعلانه رسميا في 23 يناير عام 1953.

فقد حدد ميثاق الهيئة اهم أهدافها كالتالي :
أ - تحقيق الاهداف والمصالح السياسية للشعب .
ب - كفالة الحقوق والحريات الاساسية من الناحيتين السياسية والاجتماعية .
ج - تبصير المواطنين بواجباتهم وحثهم علي التضامن والتضافر والعمل المنتج للنهوض بتبعات الاصلاح .
وكان شعار هيئة التحرير (الاتحاد - النظام - العمل ) يعبر عن نظرة قيادة الثورة الي دور التنظيم السياسي في تلك الفترة ، وهو دور يؤدي بعض وظائف الحزب الواحد التي سبقت الاشارة اليها ، وخاصة الوظائف التوحيدية والتنموية.
واستمرت هيئة التحرير حتي 2 ديسمبر عام 1957 ، حيث تم الغاؤها بعد عدة شهور من اعلان قيام التنظيم السياسي الثاني في عهد الثورة، وهو تنظيم الاتحاد القومي الذي تم تأسيسه تنفيذا لما ورد في الدستور المؤقت الذي صدر في 16 يناير عام 1956 . فقد نص هذا الدستور في المادة 192 منه علي ان (يكون المواطنون اتحادا قوميا للعمل علي تحقيق الاهداف التي قامت من أجلها الثورة وحث الجهود لبناء الأمة بناءً سليما من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية).
وتشكلت اول لجنة تنفيذية للاتحاد القومي في 29 مايو عام 1957 بقرار من رئيس الجمهورية . وحددت هذه اللجنة تعريف الاتحاد الجديد حينئذ بأنه (تجمع المواطنين - الحاكمين منهم والمحكومين - مجتمعين علي تحقيق هدف واحد هو المجتمع الاشتراكي التعاوني) . كما تضمن تعريف الاتحاد القومي أنه (منظمة قومية عربية تعمل علي تحقيق الوحدة العربية وبناء مجتمع تسوده الرفاهية ويتحقق فيه القضاء علي الاقطاع والاستغلال).
وعند تحديد اهداف الاتحاد القومي، كان واضحا الحرص علي نفي اي طابع حكومي له، حيث تم اعلان انه (ليس حكوميا ولكنه تنظيم يضم الحاكمين والشعب ويتيح الفرصة الحقيقية لتعاونهم علي علاج جميع المشاكل المحلية والقضايا العامة في ظل المجتمع الاشتراكي الديمقراطي التعاوني . وهو السبيل الي الديمقراطية السليمة التي تشعر الشعب بأنه يحكم نفسه بنفسه ولنفسه. والاتحاد القومي سيضع يده علي الخطأ وينادي بإصلاحه ، ويتلمس الصواب فيطالب بتحقيقه . والاتحاد القومي هو الذي يوجد الصلة الوثيقة بين القيادة والشعب. وعلاقته بالحكومة أساسها التعاون من أجل بناء الأمة بناءً سليما من جميع النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية . ولذلك سيعمل الاتحاد القومي علي تخطيط السياسة العامة للبلاد ، وستقوم الحكومة بتنفيذ هذا التخطيط ).
والواضح أن استخدام تعبير الاتحاد يعبر عن اعطاء أولوية قصوي لهدف تجميع الشعب كله في بوتقة واحدة ، باستثناء من كانت لهم ادوار سياسية قبل الثورة والذين تم استبعادهم .
فكان التنظيم الواحد ، اذن، اطارا فضفاضا للاتحاد والتضامن بين المواطنين واحتواء اي تناقضات في هذا الاطار. ولكن هذا الطابع للتنظيم الواحد طرأ عليه تغير عقب صدمة انهيار الوحدة المصرية - السورية في سبتمبر عام 1961 ، حيث تبين ان قادة الانفصال كانوا من قادة الاتحاد القومي في الاقليم الجنوبي أو سوريا .
وكان الدرس الذي استخلصه الرئيس جمال عبد الناصر من تلك التجربة أنه لم تكن هناك معايير للتنظيم الواحد، وخاصة علي صعيد الافكار والمواقف أي ما يطلق عليه الأيديولوجيا. ومن هنا جاء الميثاق الوطني الذي صدر في مايو عام 1962 يحدد اسس تطور المجتمع وقواه الأساسية ، أو ما اطلق عليه قوي الشعب العاملة (الفلاحون والعمال والجنود والمثقفون والرأسمالية الوطنية) ، في مواجهة القوي الرجعية التي تم اعتبارها صراحة من أعداء الشعب.
واقتضت تلك التطورات مرحلة جديدة في مجال التنظيم السياسي الواحد. فقد اصبح من الضروري أن يكون هذا التنظيم أكثر تحديدا أو لا يبقي فضفاضا بالشكل الذي كان عليه في حالة الاتحاد القومي. فلم يعد مطلوباً التنظيم الذي يضم الشعب كله ويسعي الي توحيده وإنما التنظيم الذي (يقود الشعب ويعبر عن ارادته ويوجه العمل الوطني ويعبر عن قوي الشعب العاملة ويتمثل فيه تحالف هذه القوي).
وفي هذا السياق ، تحدث الميثاق الوطني عن أن (الوحدة الوطنية التي يتضمنها تحالف قوي الشعب العاملة هي التي تستطيع أن تقيم الاتحاد الاشتراكي العربي ليكون السلطة الممثلة للشعب والدافعة لإمكانيات الثورة والحارسة علي قيم الديمقراطية السليمة).
وصدر قانون الاتحاد الاشتراكي العربي في 8 ديسمبر عام 1962 ليحدد طبيعة هذا الاتحاد باعتباره (الطليعة الاشتراكية التي تقود الجماهير وتعبر عن ارادتها وتوجه العمل الوطني وتقوم بالرقابة الفعالة علي سيره في خطه السليم في ظل مبادئ الميثاق)، وأنه (الوعاء الذي تلتقي فيه مطالب الجماهير واحتياجاتها)، حيث يشكل هذا الاتحاد (الاطار السياسي الشامل للعمل الوطني وتتسع تنظيماته لجميع قوي الشعب من فلاحين وعمال وجنود ومثقفين ورأسمالية وطنية علي اساس الالتزام بالعمل الوطني في ترابط وثيق بين المستويات المختلفة من قاعدة التنظيم الي قيادته الجماعية) .
وظل الاتحاد الاشتراكي العربي هو التنظيم السياسي الوحيد في مصر حتي أسفر الحوار، الذي تم تنظيمه عام 1974 حول مستقبل هذا التنظيم، عن فتح الباب أمام التعدد الحزبي اعتبارا من عام 1976 .

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 222 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

272,911