إذن فالمهم في التسامح وقبول الآخر على أساس من الاحترام هو الإيمان العميق بمبدأ المساواة بين كل الشعوب والجماعات والثقافات، بحيث لا يصبح من حق أي شعب أو أبناء أي ثقافة ادعاء الأفضلية والتفوق على أي شعب أو ثقافة أخرى. ولعل شعوب دول العالم الثالث النامية تكون أكثر من غيرها من شعوب الدول المتقدمة إيمانا بهذا المبدأ، باعتبار أن شعوب الدول النامية هي أكثر استفادة من تطبيق مبدأ المساواة بين الشعوب والثقافات والالتزام به. فقد اعتادت شعوب الدول المتقدمة، منذ أن استطاعت تحقيق التقدم الصناعي والتكنولوجي والاجتماعي والسياسي والعسكري، ادعاء الأفضلية والسبق على شعوب المناطق النامية، وأخذت من تقدمها في المجالات المختلفة دليلا على هذه الأفضلية. وكان قيام الدول الأوروبية باستعمار القارة الأمريكية، التي تم اكتشافها من جانب الرحالة الأوروبيين عام 1492، ثم استعمار قارتي آسيا وأفريقيا في القرون التالية لذلك، كان الاستعمار وما ارتكب خلاله من فظائع ومذابح واستعباد هو نتيجة مباشرة لتطبيق مبدأ أفضلية ثقافات وشعوب على ثقافات وشعوب أخرى، أي أفضلية الثقافات الأوروبية على ما عداها من الثقافات. في هذا السياق ظهرت نظرية عبء الرجل الأبيض، وهي النظرية التي تبرر الاستعمار ومظالمه باعتباره الطريقة الوحيدة لتمكين الأوروبييـن البيض من نقل تفوقهم الثقافي والحضاري إلى شعوب أخرى لا تستطيع بنفسها الخروج من حالة الهمجية والتوحش التي تعيش فيها.
ومع أن الاستعمار قد انتهى منذ زمن طويل، إلا أن نظرية التفوق الحضاري والثقافي للغرب لم تنته معه، فقد نجحت شعوب المستعمرات بكفاحها في أن ترغم الاستعمار على الرحيل، ولكن كفاحها هذا لم يكن كافيا لإنهاء نظرية التفوق الحضاري الغربي. فاستمرت هذه النظرية في الحياة لبعض الوقت بعد ذلك. وقد عانينا نحن في مصر من سيادة هذه النظرية العنصرية، عندما أتى الاستعمار الأوروبي إلى بلادنا في القرن الماضي.
ولأن الفجوة بين الشعوب المتقدمة والنامية مازالت قائمة بالنسبة لأغلب بلاد العالم الثالث، فإن بعض القوى في المجتمعات الغربية مازالت تستند إلى هذه الفجوة لتبرير ادعائها بالتفوق الحضاري والثقافي الغربي. غير أن عقيدة التفوق الغربي العنصرية، لحسن الحظ، لم تعد تتمتع سوى بتأييد محدود في أوساط شعوب الدول المتقدمة، وأن المثقفين والمتعلمين في هذه البلاد أصبحوا يؤمنون بالمساواة والتكافؤ بين الشعوب والثقافات. ومن المنطقي أنه من صالحنا العمل على تدعيم هذا الاتجاه، واعتباره حليفاً لنا في معركتنا لإنهاء التخلف.
أما عن الأسلوب الأمثل لتحقيق ذلك فهو أن يشيع بيننا اعتقاد أصيل بالتكافؤ والمساواة بين الشعوب والثقافات المختلفة، وأن ينعكس هذا الاعتقاد في سلوكنا تجاه أصحاب الثقافات المختلفة، سواء تلك التي تشاركنا الحياة على أرض الوطن، أو تجاه أصحاب الثقافات المختلفة الذين يعيشون في أوطان أخرى. أما إذا لم نستطع القيام بذلك، وإذا ساد بيننا اعتقاد بتفوقنا الحضاري والثقافي على الآخر، فإننا نكون قد وفرنا ذريعة للاتجاهات العنصرية في البلاد المتقدمة للتشدد في موقفها المعادي لنا، ولكسب مزيد من الأنصار لها. فإذا حدث هذا، خاصة في ظل الفجوة العلمية والتكنولوجية والاقتصادية التي تفصلنا عن الدول المتقدمة، فإننا سنكون أكبر الخاسرين من العداء بيننا وبين الغرب والدول المتقدمة.
ويبرر البعض التعصب والقهر الذى يمارس ضد الأقليات الثقافية والعرقية والدينية بأن التسامح مع التنوع والاختلاف يمكن أن يقود إلى تفكك المجتمع والدولة وضعفهما ، وأن قمع التنوع وعدم السماح بالتعبير عنه هو الأسلوب الوحيد لضمان تماسك المجتمع والدولة .
وفي مقابل قهر الجماعات التي تخالفنا في الثقافة كطريقة لتحقيق الوحدة، فإن الوحدة يمكن تحقيقها من خلال الحفاظ على التنوع واحترامه، وهو الأسلوب الذي يمكن تلخيصه في الوحدة من خلال التنوع. وقد زادت أهمية هذه الطريقة في تحقيق الوحدة في عصر ما يُسمى بالعولمة، والتي يقُصد بها زيادة التفاعلات بين الشعوب والجماعات المختلفة من خلال التقدم التكنولوجي في وسائل المواصلات والاتصالات، ومن خلال اندماج اقتصادات البلدان المختلفة في سوق عالمية واحدة تختفي فيها الحواجز الجمركية وغيرها من الحواجز بسرعة من خلال اتفاقات التجارة الحرة مثل اتفاقية الجات.
تؤدي العولمة إلى زيادة وتكثيف التفاعلات بين الجماعات والشعوب المختلفة، وبالتالي إلى زيادة التأثيرات المتبادلة بين الثقافات المختلفة إلى مستوى غير مسبوق في تاريخ البشرية. وتقود هذه التطورات إلى شعور الجماعات الثقافية المختلفة بشكل متزايد بتعرض هويتها الثقافية للتهديد، بتأثير من الظواهر والتيارات الثقافية القادمة من العالم الأوسع، وخاصة من البلاد المتقدمة التي تساهم بالنصيب الأكبر في إنتاج المواد الإعلامية والترفيهية التي تبثها وسائل الاتصال العالمية. وكرد فعل على هذا التهديد يشهد العالم في الحقبة التي نمر بها الآن اتجاهاً بين الجماعات الثقافية المختلفة للتأكيد على ذاتها وهويتها الثقافية، وهو التأكيد الذي يأخذ شكل المزيد من التدين أو التمسك بالتقاليد الأصلية، وهي ظواهر محمودة. ولكن في بلاد عدة وصلت موجات التدين والتمسك بالهوية إلى مستوى التعصب وكراهية الآخر الثقافي، سواء كان أجنبيا يعيش في بلد آخر، أو جماعة ثقافية تعيش داخل الوطن، ووصلت كراهية الآخر في بعض الحالات إلى حد القتل وحروب الإبادة، وهو ما شهدنا أمثلة له في البوسنة وكوسوفا ورواندا.
أما التحدي الذي يواجه البشرية الآن فيتمثل في كيفية تمكين الجماعات الثقافية المختلفة من التمسك بهويتها وخصوصيتها دون أن يؤدي ذلك بها إلى الانزلاق للتعصب وكراهية الآخر. ويبدو أن الطريقة الوحيدة المعروفة لنا حتى الآن لتحقيق ذلك هي التمسك بمبدأ التسامح وما يتضمنه من قبول الآخر المختلف عنا باعتباره من سنن الحياة. ومن الضرورى وضع القوانين والتشريعات التي تضمن تحقيق ذلك، بما يسمح بتوفير درجة عالية من المساواة والأمان لكل الجماعات الثقافية في عالم اليوم، بحيث تكون قادرة على التمسك بخصوصيتها الثقافية دون خوف من أن يؤدي تمسك الجماعات الأخرى بثقافتها أيضا إلى إشعال الفتن وتهديد الأمن. فالتسامح كما بينت الخبرة التاريخية هو طريق البشر نحو تعايش سلمي وتفاعل خلاق ومفيد
ساحة النقاش