3 -
مأساة تراجع التسامح فى يوغوسلافيا :
وتقدم يوغوسلافيا نموذجا آخر للصراعات والكوارث التي يمكن أن تنتج عن الفشل في تثبيت دعائم التسامح والتعايش بين الجماعات العرقية والقومية والدينية المختلفة. تكونت يوغوسلافيا منذ نهاية الحرب العالمية الأولى كدولة متعددة القوميات. وقد تعرضت يوغوسلافيا للتفكك في أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث جرى اقتطاع أقسام كبيرة منها تم ضمها إلى ألمانيا وإيطاليا وبلغاريا، غير أن يوغوسلافيا استعادت استقلالها ووحدتها بعد هزيمة ألمانيا وحلفائها في الحرب.
تكونت يوغوسلافيا الجديدة كدولة اتحادية تضم عدداً من الجمهوريات بلغ عددها ست. كما ضمت ثماني قوميات، تركز أبناء خمس منها في جمهوريات حملت أسماءها، وهي صربيا ومونتينجرو - المعروفة في الكتابات العربية باسم الجبل الأسود- وكرواتيا وسلوفينيا ومقدونيا. أما الجمهورية السادسة فهي جمهورية البوسنة والهرسك، التي ضمت ثلاث جماعات دينية/قومية، أكبرها هم المسلمون بنسبة 44%، ثم الصرب بنسبة 31%، وأخيرا الكروات بنسبة 17%. كما ضمت يوغوسلافيا قوميتين إضافيتين هما الألبان، الذين مثلوا 90% من السكان في إقليم كوسوفا، وقومية صغيرة تركزت في إقليم فيوفودينا. وقد تمتع الإقليمان الأخيران بالاستقلال الذاتي ضمن جمهورية صربيا.
كما كان يبدو على السطح، فإن الأمور في يوغوسلافيا كانت تسير سيرا حسنا طوال الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى عام 1980 عندما توفي جوزيب بروز تيتو، مؤسس يوغوسلافيا الجديدة ورئيسها طوال هذه الفترة. ولد تيتو في كرواتيا من أم سلوفينية وأب كرواتي. ومع أنه لم يكن ينتمي إلى القومية الصربية صاحبة الأغلبية في يوغوسلافيا، إلا أن دوره في تحرير البلاد من الاحتلال النازي منحه من الشرعية والشعبية ما مكنه من حكم البلاد دون تحد ، غير أن أي شخص آخر لم يكن يمكنه أن يقود يوغوسلافيا متعددة القوميات، لذلك نص الدستور اليوغوسلافي على أنه بعد وفاة تيتو فإن رئاسة البلاد ستوضع في يد مجلس رئاسي يتكون من ثمانية أفراد هم ممثلو جمهوريات يوغوسلافيا الست، بالإضافة إلى ممثلين لإقليمي كوسوفا وفيوفودينا المتمتعين بالحكم الذاتي. كما نص الدستور على أن يتبادل ممثلو الجمهوريات الست رئاسة المجلس الرئاسي في دورات مدة كل منها عام واحد.
كان شرط استمرار الجمهورية اليوغوسلافية بنجاح هو استمرار قيم التسامح والقبول بين الجماعات القومية المختلفة، غير أن الفترة التي أعقبت وفاة تيتو شهدت تصاعدا في مشاعر التعصب القومى لدى الصرب. فقد بدأ ينتشر بين الصرب اعتقاد بأنهم قد حرموا من حقهم الطبيعي في قيادة يوغوسلافيا باعتبارهم الجماعة القومية الأكبر فيها، وبأنهم يتحملون الكثير من التكلفة المالية لتمويل الاتحاد وأنشطته التي يستفيد منها أبناء القوميات الأخرى. وكان يمكن التغلب على هذه المشاعر السلبية ببعض الإصلاحات، وخاصة إذا توحدت النخبة السياسية الصربية وراء الموقف الصحيح الذي يدعو لتدعيم الاتحاد بتدعيم الاندماج والتعايش بين أبنائه من القوميات المختلفة.
غير أن بعض أعضاء النخبة السياسية في صربيا اكتشف أنه يمكنه ركوب موجة التعصب القومي لتحقيق مكاسب سياسية تساعده على ارتواء ظمئه للسلطة. كان هذا هو سلوبودان ميلوسيفتش، الذي أصبح منذ عام 1984 رئيسا لفرع الحزب الحاكم في العاصمة بلجراد. راح ميلوسيفتش يغذي مشاعر التعصب والعداء القومي بين الصرب. وفي عام 1987 نجح ميلوسيفيتش في اكتساب شعبية هائلة عندما زار كوسوفا ذات الأغلبية الألبانية، والتي يعتبرها القوميون الصرب كعبتهم القومية لأنها شهدت ميلاد أول دولة صربية في القرن الثالث عشر الميلادي. خطب ميلوسيفيتش أمام حشد من الصرب، ووعدهم بتخليصهم من الظلم القومي الذي يتعرضون له من جانب الأغلبية الألبانية في كوسوفا، فأجج مشاعر التعصب القومي الصربي، وخلق لنفسه شعبية لم يتمتع بها أي زعيم صربي آخر منذ سنوات طويلة.
كانت موجة العداء والتعصب القومي الصربي التي أطلقها سلوبودان ميلوسيفيتش كافية لحمله في عام 1987 إلى مقعد رئاسة الحزب الحاكم في صربيا. ومن هذا الموقع، وفي مارس من العام التالي، قام ميلوسيفيتش بإلغاء وضعية الاستقلال الذاتي التي تمتع بها إقليما كوسوفا وفيوفودينا، برغم عدم دستورية هذه الخطوة. وقد كان لهذا القرار غير الدستوري آثار درامية. فبينما تم القضاء على الوضعية الخاصة لكوسوفا وفيوفودينا، فإنهما احتفظتا بممثليهما في المجلس الرئاسي، ولكن هذان الممثلان - بعد فرض السيطرة الصربية - كانا قد أصبحا مجرد صنائع لميلوسيفيتش، فضمنت صربيا تأييد الإقليمين، بالإضافة إلى تأييد جمهورية الجبل الأسود المتحالفة معها، وأصبح للمتعصبين من القوميين الصرب سيطرة مضمونة على نصف مقاعد المجلس الرئاسي الثمانية، فقضت هذه التطورات على الأساس السياسي ليوغوسلافيا كجمهورية اتحادية قائمة على تحقيق التوازن بين مكوناتها.
أتقن القوميون الصرب المتعصبون فنون التهييج والتحريض الجماهيري التي استخدموها لتعبئة وحشد تأييد المواطنين الصرب لهم، واستخدموا في هذا السبيل كل أساليب إثارة التعصب القومي الممكنة. لعبت الصحافة الصربية دورا مشهودا في هذا المجال، وذلك بمبالغتها في التركيز على المذابح والمآسي التي تعرض لها الشعب الصربي عبر تاريخه، بما في ذلك ما جرى منها على يد جماعات انتمت إلى قوميات تشارك الصرب الاتحاد اليوغوسلافي. وروجت هذه الصحافة لنظرية تقول بأن الشعب الصربي كان طوال تاريخه ضحية لمؤامرة من جانب الكاثوليكية والإسلام وألمانيا، بل وحتى من جانب مؤسسات الشيوعية الدولية. فالكاثوليكية والإسلام هي ديانات عالمية تناصب صربيا العداء بسبب مذهبها الأرثوذكسي الذي تتوحد فيه الكنيسة مع القومية. والشيوعية هي عقيدة أممية دولية معادية للقومية، ولهذا فإنها تسعى لكسر الروح القومية العالية لدى الصرب. أما ألمانيا فإنها كانت طول الوقت منحازة لكرواتيا وسلوفينيا على حساب صربيا. وهكذا رسمت الصحافة الصربية صورة مغلوطة لمؤامرة عالمية تستهدف صربيا وشعبها، الذي عليه أن يهب لمقاومة المؤامرة والمتآمرين.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 88 مشاهدة

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,863