البوسنة والسودان وكوسوفا والعراق والكونجو ورواندا وبوروندي والشيشان ولبنان. عندما يسمع أي منا واحد من هذه الأسماء فإن الصورة الأولى التي تأتي إلى ذهنه هي صورة مجتمع مدمَر يعيش أهله في حالة حرب مستمرة بين بعضهم البعض. في هذه المجتمعات تحول التنوع إلى نقمة وسبب لحالة مستمرة من حرب الجميع ضد الجميع، أو حرب الجميع ضد الوطن الذي يموت أبناؤه وتهدر موارده وتسقط هيبته فيصبح أمثولة بين الأمم.
ولأن مثل هذه الصراعات تستند إلى تاريخ طويل من انعدام الثقة والكراهية، فإنك ستجد كل طرف فيها وقد اقتطع من التاريخ وقائع وأسباب تبرر له ارتكاب أفظع الجرائم ضد الطرف الآخر. وستجد كل طرف من الأطراف المتورطة في هذه الصراعات وقد عاد بذاكرته إلى نقطة معينة في الزمن، فيعتبرها بداية التاريخ والصراع، لأنها النقطة التي وقع عليه عندها ما يراه ظلما لا يمكن السكوت عنه.
ومن طبيعتنا كبشر أن نحب ونكره، نصادق ونعادي. ولكننا عندما نفعل ذلك في حياتنا اليومية كأفراد، فإننا عادة ما تكون لدينا أسبابنا لذلك. فأنا قد أحب فلانا لأنه قدم لي معروفا جليلا أو لأنه خفيف الظل. كما أنني قد أكره علانا لأنه يثير المشكلات في وجهي. وبين الحب والكراهية توجد درجات عدة من المزج بينهما. فقد أحب هذا الشخص ولكن فقط كزميل مريح في العمل أو الدراسة، ولكني لا أحب أن أتخذه صديقا نقضي معا وقت الفراغ أيضا. وقد أحب هذا الشخص إلى حد معين، ولكنه يشعرني بالغيظ أو الملل إذا قضينا معاً وقتا أطول مما ينبغي. وقد أحب أن أقضي وقت التسلية والمرح مع فلان بسبب روح المرح التي يتحلى بها، ولكني لا أستطيع أن أتخذه صديقا أحكي له أسراري ومتاعبي لأنه ثرثار لا يحفظ سرا،…وهكذا.
غير أن الأمر يختلف عن ذلك في العلاقة بين الجماعات العرقية والثقافية. فإذا كنت في أمريكا مثلا، فإنه ليس من المستغرب أن تسمع زميلا أسود في العمل أو الجامعة يقول لك أنه يمقت البيض. وهو هنا لا يقصد أن يقول أنه بعد أن قابل كل الأفراد البيض في العالم، تبين له أنهم أشخاص ماكرين أشرار، ولكنه يقصد أنه هكذا يكره كل الجنس الأبيض، بما فيه خفيفي وثقيلي الظل، والمخلصين الأوفياء والآخرين الخبثاء.
وفي العادة فإنه لا يوجد تبرير لمشاعر الكراهية في مثل هذه الحالة، وعادة ما تظل المشاعر من هذا النوع قائمة ومتقدة، وغير قابلة للاهتزاز والشك، إلا بعد أن تتعرض لمشاعر وخبرات أقوى منها، والتي عادة ما تكون مشاعر وخبرات مغموسة في الدم والخراب. عند هذا يستفيق أصحاب الضمائر ليتبينوا مدى الضلال الذي أوقعوا أنفسهم فيه. والمشكلة هي أن مشاعر الكراهية والتعصب من هذا النوع تكون في أحيان كثيرة أقوى كثيرا من خبرات الدم والدمار، فتستمر لتغذي دورات جديدة من العنف والقتل. وفي هذه الحالة فإننا نكون إزاء أناس فقدوا القدرة على التسامح، وبالتالى على قبول الاختلاف والقدرة على التعايش مع الآخر المختلف عنهم، الذي باتوا يتصورونه ويصورونه بشكل مقيت كأنه الشيطان ذاته.

1 -
صراعات لا جدوى منها :
والعالم مليئ بأشكال الاختلاف بين البشر أفرادا وجماعات، غير أن الاختلاف الذي نركز عليه في هذا الفصل هو الاختلاف في الصفات الموروثة، أي تلك التي يولد المرء بها، أو التى يتعلمها في مراحل حياته المبكرة، فلا تكون له القدرة على تغييرها إلا بشكل هامشي لا يكاد يذكر. فالفرد منا لا يستطيع أن يغير اللون الذي ولد عليه، ولا يستطيع تغيير ملامح وجهه وجسده. ومع أن البعض يمكنه أن يجري عملية جراحية لتصغير أنفه أو فكه، فإن هذه التغييرات تظل هامشية من ناحية، كما أن البشر عادة لا يلجئون إليها إلا بشكل استثنائي وبأعداد قليلة من ناحية أخرى .
وبالرغم من أننا نحرص على تعلم اللغات الأجنبية، بل إن مستوى معرفة بعضنا بلغة أجنبية قد يكون عاليا جدا، حتى يحسبه السامع من أهلها، فإن الأغلبية من البشر لا يستطيعون ذلك. فأغلب دارسي اللغات الأجنبية لا يعرفون منها سوى ما يكفيهم في أعمالهم وتعاملاتهم إذا كان تحصيل الرزق يحتاج ذلك. وفي كل الأحوال تظل للغة الفرد الأصلية مكانتها العالية، فالفرد منا يفكر باللغة التي نطق بها أول الكلمات عندما كان طفلا، وهي اللغة التي يكون بها أقدر على التعبير عن مشاعره ودخائل نفسه، لهذا فإن اللغة الأصلية لأي جماعة تستحق بحق الاسم الذي أطلقه عليها العلماء والدارسين، أي اللغة الأم، فهل هناك أكثر من الأم عطفا وحنانا على أبنائها؟
الأمر نفسه ينطبق على العقيدة الدينية. فالناس عادة لا يختارون دينهم، ولكنهم يرثونه من آبائهم، ويتعلمونه مع كلماتهم الأولى، وفي كل لحظة يشاهدون فيها آباءهم يمارسون شعائره في المنزل، وفي كل مرة يصطحبونهم فيها إلى دور العبادة. فقلة قليلة جدا من الناس هم الذين يعتبرون أنفسهم يهودا أو مسيحيين أو مسلمين أو هندوس أو بوذيين لأنهم، بعد أن درسوا كل هذه الديانات ومعها ديانات أخرى كثيرة في الهند والصين واليابان وأفريقيا، اهتدوا إلى أن دينهم هو الصواب. وفي أغلب المجتمعات يكون تغيير المرء للدين الذي وجد عليه آباءه أمرا في غاية الصعوبة، على الأقل لما يسببه ذلك له من قطيعة وعزلة عن أهله وعشيرته، الأمر الذي لا يستطيع أغلب الأفراد تحمله.
ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للانتماء القبلي. فالقبيلة بالنسبة لأبنائها هي الأهل، ومن منا يستطيع أن يغير أهله، فيجد لنفسه أعماما غير أخوة أبيه، وخالات غير أخوات أمه. ربما يمكن للمرء أن يسمح لصلاته بأهله بالتآكل والضعف، ولكنه لا يستطيع في كل الأحوال أن يهجر قبيلته لينضم إلى قبيلة أخرى.
فإذا كانت كل هذه الانتماءات هي من نوع الانتماءات الموروثة، والتي ليس للإنسان مسئولية عن اختيارها، فهل يجوز مكافأة الفرد أو عقابه على شئ لا يمكن اعتباره مسئولا عنه؟ بالطبع لا، أو هكذا يقول المنطق السليم. ومع هذا فإن تاريخ البشرية وحاضرها غنيان بمحاولات مكافأة الناس ومعاقبتهم على انتماءات ورثوها ولم يختاروها.
والصراعات بين الجماعات العرقية والثقافية هي في جوهرها محاولة من جانب إحدى الجماعات لمعاقبة جماعة أخرى على انتماءاتها الموروثة. ففي بعض البلاد التي توجد بها جماعات تتحدث لغات مختلفة، مثل تركيا التي يوجد فيها 15 مليونا من الأكراد المتحدثين باللغة الكردية، أو الجزائر التي يوجد فيها حوالي أربعة ملايين من البربر المتحدثين باللغة الأمازيغية، فإن محاولات إجبار هذه الأقليات على التحدث بلغة الأغلبية -اللغة التركية في حالة تركيا والعربية في حالة الجزائر- لا تؤدي إلا إلى إثارة الفرقة والصراع. فمن منا يحب لإبنه أن يكبر وقد عجز عن فهم لغة أبيه وأمه والتحدث بها. ومن منا يحب أن يجد الأغنيات التي طرب لها ممنوعة من البث الإذاعي والتليفزيوني لأنها منطوقة بغير لغة الأغلبية السائدة؟
ولأن إجبار الناس على التحدث بلغة الأغلبية هو أمر غير ممكن، خاصة إذا كانوا لا يعرفونها، فإن محاولات تغيير اللغة الأصلية للسكان تأخذ شكل محاصرة هذه اللغة الأصلية، وتضييق نطاق استخدامها بحيث لا تصبح مستخدمة سوى في البيت أو بين جماعات القرابة والأصدقاء. فعندما يكون التعامل مع الجهات الرسمية مقصورا على لغة الأغلبية، فإن المواطن من أبناء الأقلية اللغوية يجد صعوبة كبيرة في فهم القوانين والتعليمات، كما يجد صعوبة في قضاء مصالحه ومعاملاته مع الجهات الحكومية، بل إنه لا يستطيع أن يحصل لنفسه على وظيفة في هذه الجهات، أو في أي جهة تتعامل معها، بسبب عجزه عن التعامل باللغة السائدة ، فتسود البطالة بين أبناء الأقلية، ويتدهور وضعهم المعيشي، ويصبح التمييز اللغوي سببا في تمييز اقتصادي، فيسود الفقر بين أبناء الأقلية، وتزيد معه عوامل الاضطراب وعدم الاستقرار.
أما في المدرسة ووسائل الإعلام ودواوين الحكومة فإنه عندما يصبح استخدام اللغة الأم ممنوعا، فإن الأجيال الجديدة تنسى تدريجيا لغة أهلها، الأمر الذي يثير غضب وحنق كل أب وأم يجدا أبناءهما وقد عجزوا عن التفاهم معهما، وينشأ لديهما إحساس بأنهم وأبناءهم ضحايا للتمييز والاضطهاد، ويهبون للدفاع عن لغتهم وهويتهم، فيثور الاضطراب والقلاقل وعدم الاستقرار، ويدفع المجتمع والوطن كله بأغلبيته وأقليته ثمن سياسة التمييز والاضطهاد.
وما ينطبق على اختلاف اللغة ينطبق على اختلاف الدين إلى حد كبير. فبالرغم من أننا قد اعتبرنا اللغة والدين من الخصائص التي يرثها الإنسان، إلا أننا لا يجب أن نغفل أنها ليست صفة طبيعية -بيولوجية أو تشريحية- مثل لون البشرة أو ملامح الوجه، تمثل جزءا لا يتجزأ من جسد الإنسان، ولكنها صفة ثقافية تتسرب إلى عقل الفرد وروحه وتستقر فيهما في مراحل العمر المبكرة، فتصبح جزءاً لا يتجزأ من موروثه الثقافي، وهي مجموعة من العلاقات والتقاليد والممارسات والطقوس الاجتماعية، تحيط بالفرد منذ نعومة أظافره، فلا يتصور نفسه خارجها، فتصبح جزءا لا يتجزأ من موروثه الاجتماعي.
هذا الفارق بين الموروث الطبيعي من ناحية، والموروث الثقافي والاجتماعي من ناحية أخرى، يجعل البعض يظنون أن لغة الإنسان ودينه هما من الأمور التي يمكنه تغييرهما بإرادته، فكما تعلم لغة آبائه وهو صغير يمكنه أن يتعلم لغة الأغلبية وهو كبير، وكما تبنى دين آبائه وهو صغير يمكنه أن يتبنى دين الأغلبية وهو كبير. وطبقا لهذا الرأي، فإنه مادام الفرد يتعلم لغته ودينه وليس مولودا بهما، فإنه في الحقيقة مسئول عنهما، وأنه لا غضاضة بالتالي في التمييز بين الناس على أسـاس الدين واللغة نظراً لأن الفرد يمكنه أن يتخلص من هذا التمييز إذا اتخذ قراره بالتحول إلى لغة الأغلبية أو دينها.
إلا أن ما لا يدركه هؤلاء المتحمسون هو أن الأشياء التي يتعلمها الإنسان في مراحل التنشئة الأولى تصبح لصيقة بالفرد منا، بل إنها تصبح جزءا من كيان الفرد نفسه، حتى أنه يكاد لا يمكنه تغييرها على الإطلاق، خاصة وأن تغييرها يمكن أن يترتب عليه تمزيق علاقاته بأهله وجيرانه وأصدقائه الذين تربى معهم على التحدث بلغة معينة، والإيمان بدين معين. وفي الحقيقة فإن الفرد المنتمي إلى أقلية دينية تتعرض للتمييز يكون ضحية لنوعين من الضغوط، ضغوط المتعصبين من أبناء الأغلبية الذين يطالبونه بالتحول إلى دينهم من ناحية، وضغوط أهله وعشيرته الذين يهددونه بالقطيعة والعزلة الاجتماعية إذا هو ترك دينهم، فهل يصح في مثل هذه الحالة أن نقول أن الفـرد حرا في تغيير ديانته؟ وربما كان هذا هو أحد الأسباب وراء نزول الآية الكريمة أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن (النحل 125)، لأن الله تعالى الذي خلق الأفراد والجماعات يعلم مدى ما يعانيه الفرد عندما يجد نفسه محاصرا بين هذه الضغوط المتعارضة، والتي حرص الله على تخفيفها، برحمته التي وسعت كل شيء.
<!--

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 73 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,867