2 -
حلقة التعصب المفرغـة :
وربما يكون السؤال التالي هو على أي أساس يقوم العقل البشري باستبعاد بعض المعلومات وقبول بعضها الآخر؟ وتكمن الإجابة فيما نلاحظه في حياتنا اليومية من ميل الأفراد لتفسير المعلومات وتكوين الآراء على أساس من آرائهم السابقة. فإذا كان لدى واحد منا رأي مفاده أن جاره هو شخص عدواني لا يكن له الا كل شر، فإذا حدث وتلقى معلومة تفيد بأن جاره هذا قد أتى تصرفا ينم عن حسن النية، فإن صاحبنا عادة ما يذهب إلى عدم الاهتمام بهذه المعلومة، بل إنه قد يذهب إلى القول بأن هذا التصرف ليس إلا حيلة وجزءا من مؤامرة كبرى لا يقصد منها سوى الاستمرار في إيقاع الأذى. أي أن العقل البشري يتعامل مع المعلومات بغرض تأكيد آرائه المسبقة، فإذا كان لدى الفرد آراء متعصبة معادية لجماعة عرقية أو قومية أو طائفة ما، فإنه سيميل لتفسير أي معلومات جديدة تصل إليه لتأكيد هذا الرأي وليس تعديله، وهكذا فإن العقل البشري عندما يسيطر عليه التعصب يدخل في حلقة مفرغة تؤدي باستمرار إلى تثبيت الأفكار الراسخة مسبقا، وهذا هو بالضبط تعريف الشخصية المتعصبة كما يراها علماء النفس. وبينما يمكن لأي منا أن يقع في نفس الخطأ، فإن المتعصب يقع فيه طوال الوقت، خاصة عندما يتعلق الأمر بالقضية التي تستحوذ على اهتمامه وتعصبه.
والشخص المتعصب لا يرى نفسه على هذه الصورة، على العكس فإنه يميل لرؤية نفسه في صورة إيجابية، باعتباره إنسان عادل وموضوعي ونزيه وغير متحيز. أكثر من هذا فإنه يميل لرؤية نفسه في موقع الضحية، الذي يعاني من تعصب الآخرين ضده. أما إذا ضبطته متلبسا بممارسة التعصب، فإن هذا لا يسبب له حرجا أو إزعاجا، لأنه يعتقد بشدة بأنه ليس متعصباً، وبأن أفكاره ومواقفه تجاه الآخرين ليست سوى رد فعل ونتيجة لمواقفهم المتعصبة والمتحيزة ضده، وأن مواقفه بالتالي هي مجرد قراءة موضوعية للواقع الذي يتميز بتحيز الآخر ضده ورفضه له. أما هو نفسه فإنه إنسان طيب القلب ذو أخلاق كريمة، يعامل الآخرين بالعدل والحق، وأنه إذا كان يبدو منه ما يمكن اعتباره تعصبا وتحيزا ضد الآخر، فإن هذا ليس سوى مظهر خارجي ثانوي، وأن هذا المظهر يمكن له أن يتغير إذا تغير سلوك وموقف الآخرين منه، فموقفه إزائهم هو أولاً وأخيراً مجرد رد فعل لما يفعلونه تجاهه.
وسوف يدهشك أن تسمع نفس هذا التحليل -أو التبرير- من طرفين ينتميان إلى جماعتين متناحرتين، فقد تسمعه من هندوسي ومسلم في الهند، أو من أحد أبناء قبائل الهوتو وآخر من قبائل التوتسي في رواندا، أو من يهودي وكاثوليكي في بولندا، أو من أبيض وأسود في أمريكا، أو من أرجنتيني وبرازيلي في أمريكا الجنوبية، غير أن مثل هذا التشابه في الحجج المستخدمة على جانبي الصراع لا يجب أن يكون مدهشا على أي حال، فمثل هذا المنطق نسمعه في كل مرة نحاول فيها التوفيق بين زوجين أو جارين أو صديقين متخاصمين، وهو منطق يقوم على نفي المسئولية عن الذات، وتحميلها تماما للطرف الآخر. وبالتالي فإن كل طرف في مثل هذا الصراع يرفض القيام بأي مبادرة لإنهاء هذه الحالة من العداوة والبغضاء، فكل منهم يظن أنه بالفعل قد قام بكل ما يمكنه القيام به، وأن أي كسر لحلقة التعصب والكراهية لابد أن تأتي من ناحية الطرف الآخر، الأمر الذي لا يؤدي سوى إلى استمرار حلقة التعصب الجهنمية.
لقد تحاربت الشعوب والجماعات كثيرا، فتحاربت قبائل الرعاة مع الفلاحين، وتحاربت قبائل الفلاحين مع بعضهم، وخيضت حروب من أجل نشر الأفكار والعقائد، وخيضت حروب أخرى من أجل الدفاع عن النفس خوفا من تهديد الآخر.
في سياق هذا كله حدث الكثير من التجاوزات والمآسي والجرائم، فمات أبرياء من أطفال وشيوخ، واغتصبت نساء، وهدمت بيوت، وخربت مزارع. وكان الخاسر في كل مرة يكظم غيظه ويستجمع قوته حتى يصبح قادرا على الانتفاض من أجل الثأر ورد الأذى لقاهريه. فعندما يتبدل الحال، وتصبح للمظلوم اليد العليا، فإنه يرد الصاع صاعين، ويعيد تكرار مشاهد القسوة التي كان هو نفسه ضحية لها في الماضـي، فيفعل بالضبط ما اعتاد انتقاد الآخر عليه، ويرتكب نفس الجرائم التي طالما اعتاد استنكارها.
من أجل الثأر تبدأ دورة جديدة من الصراع، فيسقط أبرياء جدد، وتنهدم بيوت أخرى، وتغتصب نساء أخريات. وفي كل مرة يسقط فيها ضحايا جدد، وفي كل مرة تتجدد فيها الآلام، فإن جدار عدم الثقة والكراهية يصير أكثر سمكا وارتفاعا.
فإذا أراد العقلاء وقف نزيف الدم والخراب وإنهاء الصراع عبر تقصي أسباب الصراع والكراهية، فإن الطريق في أغلب المرات يكون مسدودا، فكل جماعة لديها من الأسباب ما يكفي لتبرير المزيد من الصراع، ولكل جماعة أن تجد في تاريخ الصراع الطويل ما يكفيها من ذخيرة المبررات لتدعيم مواقفها ومطالبها، فتاريخ الصراع طويل، والأحداث فيه كثيرة، ولكل طرف أن ينتقي منه ما يكفيه حجة ومبررا.
ففي أغلب الصراعات بين الشعوب والجماعات يكـون النظر للماضي طريقا للمزيد من الصراع والكراهية. ولا مخرج من دورة العنف الجهنمية هذه سوى أن يقف العقلاء من كل طرف ليتدبروا ماذا يجري وما جرى، وليقرروا البدء من جديد. وبالتأكيد فإن هناك حقوقاً مطلوب ردها إلى أهلها، ومطالب متبادلة في حاجة لتسوية، وإجراءات وترتيبات لمنع تكرار مآسي الماضي مرة أخرى في المستقبل. كل هذا لابد من التفكير فيه، وكل هذه مشكلات لابد من حلها، ولكن دون أن تكون الكراهية والرغبة في الثأر هي الحافز، وإلا تكررت فصول الماضي الأليمة مرة أخرى.
فالثأر هو من بين المشاعر البشرية غير النبيلة، لأنه عنف لا هدف له سوى إيقاع الأذى بالآخر، ودون أن يكون في ذلك بالضرورة تحقيق لمكسب أو بناء لمستقبل، أو تأمين لحياة أجيال جديدة. وكم رأينا في جنوب مصر من شباب في زهرة العمر يدفع مستقبله وربما حياته كلها ثمنا للأخذ بالثأر، فتضيع حياة جديدة دون أن يرد الثأر للقتيل روحه ولا لليتيم أبيه.
وبالرغم من أن مشاعر الكراهية والتعصب العرقي والطائفي والقومي تكون عادة بدون مبرر مقنع لأي مراقب من الخارج، فإنه من الممكن ملاحظة ودراسة العملية التي تتكون وفقا لها هذه المشاعر. فعادة ما تكون نقطة البداية هي تنافس أفراد ينتمون لجماعات مختلفة على الموارد، وقد تكون الموارد موضوع النزاع مادية مثل الصراع على الأرض والثروات الاقتصادية، أو معنوية مثل حالات الصراع على النفوذ السياسي والمكانة الاجتماعية. فأبناء إحدى الجماعات قد يكونون أكثر ثراء بشكل مثير للاستفزاز أو الإحساس بعدم العدالة لدى الآخرين، كما قد يحتكرون مناصب الحكم والسلطة بما يثير لدى الآخرين شعورا بالقهر والخضوع. كما قد يبدأ الصراع عندما يسعى أبناء بعض الجماعات للفوز بالاعتراف والاحترام الرمزي، وهو ما يحدث عندما يشعرون أن رموزهم ومقدساتهم لا تلقى الاحترام الكافي، أو أنهم لا يتلقون معاملة محترمة متساوية مع ما تلقاه الجماعات الأخرى.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 105 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

274,433