4 - رسم الصورة السلبية للآخر :
ينتج عن هذا رسم صورة سلبية شديدة القتامة والسوداوية للآخر، وهو ما يسميه علماء الاجتماع والسياسة بالصور النمطية، بحيث تبدو كراهيتنا وعداوتنا له مبررة. وبعد أن كان للصراع أسبابه المتعلقة بالتنافس على الموارد، فإن طبيعة الصراع تتغير لتدور حول الصورة التي رسمها كل طرف للآخر. وتكتسب هذه الصور النمطية حياة خاصة بها، بحيث أنه حتى إذا زال السبب الأصلي للصراع واختفى، فإن الصور التي تكونت خلاله تستمر في الوجود، وتستمر في تعكير صفو العلاقات بين الطرفين، بل إنها قد تؤدي إلى منع التوصل إلى حل للصراع الأصلي بسبب الشكوك والمخاوف العميقة المتبادلة.
وبمجرد أن تصبح صفات الآخر وخصائصه الذاتية هي السبب في الصراع معه، دون علاقة واضحة بتباين واختلاف المصالح، فإن الطريقة الوحيدة المقبولة لحل الصراع هي أن يقوم الآخر بالتخلي عن صفاته، والتحول إلى كائن، فرد أو جماعة، طيب القلب ورقيق مثلنا.
ولكن لأن الصفات التي خلعناها على الآخر هي في الغالب من صنعنا نحن، فإن الآخر لا يعرف كيف يغير من نفسه، بل إنه عادة لا يعرف السبيل إلى ذلك. أكثر من هذا فإنه بدوره يفكر في أسباب الصراع وطرق حله بنفس الطريقة التي نفكر بها فى حله، فيطلق علينا صفات سلبية مماثلة للصفات التي أطلقناها عليه، وهو بدوره لا يرى حلا للصراع سوى بأن نقوم بتغيير أنفسنا. ولكن لأننا بدورنا لا نرى في أنفسنا الصفات التي يراها الآخر فينا، فإننا لا نعرف كيف نغير أنفسنا، ناهيك عن رفضنا لذلك لأننا نحب الحال التي وجدنا أنفسنا عليها. ولأن الصور النمطية لها حياتها القائمة بذاتها، ولأن تغيير الذات والصفات الجماعية هو أمر غير وارد حدوثه إلا بشكل استثنائي، فإن الصراعات والحروب تستمر.
عند هذه المرحلة تصبح الجماعة كالقطيع الذي يسير كله في اتجاه واحد، دون أن يكلف أي من أعضائها مشقة طرح التساؤلات. ويصبح الإيمان المطلق بالأفكار السائدة هو المادة اللاصقة التي تحافظ على وحدة الجماعة وتماسكها. أما إذا تجرأ أحد وطرح أسئلة قد يشتم منها الشك في القناعات السائدة، فإن الجماعة تنظر إليه بشك، وترى في تساؤلاته محاولة لإضعاف وحدتها. بل إنها قد ترى فيه خائنا، فتفرض عليه عقوبات قد تصل إلى حد القتل، ولكنها في أغلب الأحيان تقف عند حد فرض العزلة، فيصبح المتسائل معزولا بين أهله، لا يتعامل معه أحد، وإذا تعامل أحد معه فإنه ينظر إليه بريبة وربما احتقار، وهو موقف شديد القسوة، وعالي التكلفة، الأمر الذي يضع الأفراد في اختيار صعب بين النفاق والانصياع لإرادة الجماعة من ناحية، أو التعبير الحر عن الرأي وتحمل تكلفة ذلك من ناحية ثانية. وعادة ما يختار الناس الانصياع لإرادة الجماعة ومعتقداتها، فيحتفظون بتساؤلاتهم لأنفسـهم، ويضطرون لإعلان ما لا يبطنون، ويُظهرون حماسة كاذبة للآراء السائدة، حتى عندما يرونها تقود الجماعة كلها إلى الهوة السحيقة والكارثة.
وعند هذه المرحلة أيضا تصبح الأوضاع جاهزة للانفجار. فعند أول حادثة تهيج المشاعر المستثارة أصلا، ويهب الناس بالآلاف للانقضاض على الآخر الذي تكرست القناعة بأنه ليس إلا وحشا، فيكون الدمار والقتل والتخريب.
وفي حالات الصراع العرقي والطائفي والقومي من هذا النوع، فإننا نجد مثل هذه المواقف والاتجاهات على جانبي الصراع. فكل جماعة ترى في نفسها في موقع المضطهد والمظلوم والمستهدف، وأن وجودها ذاته يتعرض لخطر داهم ما لم تتصد بلا هوادة للتهديد الذي يمثله الآخر. وفي أغلب الحالات فإن تسوية مثل هذه الصراعات وتحقيق التصالح بين أطرافها يكون مستحيلا بسبب سيادة نفس الطريقة في النظر إلى الذات والآخر على جانبي الصراع، والمحزن أن الأمر يظل هكذا حتى تقع الكارثة، ويسقط الضحايا ويحل الدمار، الذي قد يكون كافيا لإيقاظ العقول، وتشجيع المتشككين الذين عجزوا في المراحل السابقة عن البوح بشكوكهم.
خـــــاتــــمــــة
كما يحدث بين الأفراد، فإنه يحدث بين الجماعات. فكل جماعة ترى كل الحق والمشروعية في مطالبها، وترى أن ما تطالب به لا يمثل سوى العدل، أما الطرف الآخر فإنه لديه الكثير من الموارد التي تسمح له بالتخلي عن بعضها، أو أنه لا حق له فيما يحوز بالفعل لأنه استولى عليها من لدنَّا في المقام الأول.
المهم في كل هذا أن الأفراد والجماعات يعجزون عن تخيل أنفسهم ولو للحظة واحدة في موقع الطرف الآخر، محاولين تصور كيف كان لهم أن يتصرفوا إذا وجدوا أنفسهم في محله، أو محاولين تفهم دوافعه واحتياجاته ومبرراته، وهو الشيء الذي ربما إذا فعلوه لتبينوا الأمور بشكل مختلف، ولاستطاعوا التعرف على بعض مظاهر الوجاهة في حجج الآخر ومطالبه، كما يستطيعون تبين بعض مكونات المبالغة والتزيد في مطالبهم.
القاعدة الذهبية للتعامل مع مشكلة الصراعات الطائفية والعرقية والقومية هي مساعدة الناس وتدريبهم على التسامح الذى يبدأ باتباع مبدأ عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك. فإذا كان التركي يحب للأقلية التركية في اليونان أن تتمتع بحق التحدث بلغتها القومية، فإن عليه أن يفعل نفس الشيء تجاه الأقلية الكردية في تركيا. وإذا كان المسلم يحب للأقلية المسلمة في الهند أن تمارس دينها ومعتقداتها بحرية تامة وبكل احترام، فإن على المسلمين في بلادهم أن يتيحوا نفس القدر من الحرية والاحترام لغير المسلمين الذي يعيشون بينهم. وهكذا..
هذه القاعدة الذهبية على بساطتها تمثل الخطوة الأولى على طريق تخفيف حدة الصراعات بين الجماعات الأولية. وبالطبع فإن تعود الناس على التسامح لن يكون بالأمر السهل، وإنما عملية طويلة معقدة، ولكن المهم أن نبدأ رحلة الألف ميل بدءا من هذه اللحظة.
ساحة النقاش