أترى لو أنَّ أحدَنا التَمسَ من هرَّته الإفصاحَ عن العلَّة في إصاختها حين تسمعُ صوتَ صاحبِها إذ يُناديها باسمها الذي اجتَباه لها، فما يكون جوابها؟

لا يُداخلنَّك شَكٌّ في أنَّ الهرَّة لم تفهَمْ من نداء صاحبِها ما يفهَمُ هو من معاني النِّداء، بل كل شأنها حين تصيخ في دربة أعصاب أذنها، وتعودها حركة خاصَّة دربت بها على التكرار والإعادة والمراجعة، وذلك أنَّ مَسامِع الهرَّة كمَسامع كلِّ حيٍّ تصيخ والنَّبْأة حين تلقفُهُما الأذن، فإذا ما التَفتَتْ رأتْ في حركة وجه المنادي ونظرته وإشارته ما تفهَمُ به غريزةً أنَّ هذه كلَّها من معاني النِّداء الذي يُطلَب به الإجابة، فهي في المرَّة الأولى والثانية تعيرُه سمعَها، وتمنحه بصرَها، وتكاد تفقَهُ معنى إشارته لها بالمَجِيء إليه، فلا يَزال هو يلحُّ عليها، ولا تَزال هي تطمئنُّ إلى إشارته، وتتدرَّب على نِدائه، حتى تَنقاد لذلك أعصابُ السمع، ويَهدِيها المقدار المشترَك من الفَهْمِ في الحيوان كلِّه إلى الحركة نحوه، فما يُنادِيها بعدُ بما تعوَّدت عليه أُذناها من النداء إلا أجابَتْه سمعًا وطاعةً.

وكذلك الطفل حين ينمو على الأيَّام .. فهو لا يزال يسمعُ الكلمة إثْر الكلمة من أمِّه وأبيه وعَشِيرته التي تُؤويه لا يفهَمُ لها معنى، وليست عنده إلا أصواتًا مُبهَمة لا يُفرِّق بين صوتٍ منها وصوتٍ، حتى إذا بلَغ مبلغًا يظنُّ أهله أنَّه بدءُ انتِباهِه إلى الألفاظ والأشياء والمعاني، أخَذُوا يَنطِقون له اللفظ مُشِيرين إلى الشيء الذي تقعُ عليه عَيْناه مرَّة بعد مرَّة، فبذلك تبدأُ أذنُه في التدرُّب على هذه الأصوات، وتشتركُ العين مع الأذن في إدراك الشيء المشار إليه والتنبُّه له حين حُدوث هذا الصوت بعَيْنِه، فالطفل لا يكاد يعرفُ هذه الألفاظ ومَعانيها بديًّا إلا مقرونة في ذِهنِه بالإشارة إلى الشيء الذي تدلُّ عليه الكلمة أو المعنى الذي يُراد له اللفظ.

المصدر: مقدمة العلامة محمود شاكر على الأشمونى
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 85 مشاهدة
نشرت فى 26 إبريل 2015 بواسطة mohammedelaskar

عدد زيارات الموقع

21,074