<!--
<!--<!--<!--
هدم تماثيل الحضارات القديمة جريمة ضد التاريخ والأمة
للإسلام حكم معروف في (إقامة التماثيل) أو صنع (الصور المجسمة) وهو التحريم، الذي صحت به أحاديث نبوية كثرت واستفاضت واتفق عليها علماء الأمة السابقون ولاسيما الصور المعبودة من دون الله، وإن اختلفوا في الصور غير المجسمة: أي التي لا ظل لها حسب تعبيرهم.... وهذا كله في (التماثيل) التي يصنعها المسلمون ـ أو تُصْنَع لهم ـ بعد أن مَنَّ الله عليهم بالإسلام، وعرفوا منه الحلال من الحرام.
أما التماثيل التي صنعها الأقدمون قبل الإسلام، فهي تمثل تراثًا تاريخيًّا، ومادة حية من مواد التاريخ لكل أمة، فلا يجب تدميرها وتحطيمها باعتبار أنها محرمات أو منكرات يجب تغييرها باليد، بل هي دلالة على نعمة الله تعالى على الأمة التي هداها للإسلام، وحررها من عبادة الأصنام، التي وقع فيها آباؤهم الأقدمون.
ومن الدلائل على عدم وجوب هدمها أن المسلمين الأوائل فتحوا مصر – مثلاً- في عهد عمر بن الخطاب وفيها معابد وآثار وصور شتى، في الجيزة وفي الأقصر والكرنك وغيرها، فلم يشغل عمرو بن العاص ومن معه من الصحابة أمثال الزبير بن العوام وعبادة بن الصامت أنفسهم بإزالة آثار الوثنية المصرية في المعابد، بل اتجهوا إلى تحرير البشر أولاً، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
وكذلك فتح المسلمون أفغانستان- بلا ما وراء النهر- منذ القرن الأول الهجري، وتثبت الروايات التاريخية وجود أصنام كثيرة فيها عند الفتح، ورغم ذلك لم يفكروا في إزالتها وتدميرها، وهم خير قرون الأمة، كما كانوا أعظم قوة عسكرية في العالم يومئذ، ومع ذلك وسعهم السكوت على هذه المخلفات الأثرية القديمة، فقد كان المهم عندهم- كما قلنا- هو تحرير العقول والأنفس من عبادة غير الله تعالى.
ولا يكاد يخلو بلد فتحه المسلمون من بلاد الحضارات القديمة ـ في فارس والعراق والشام ـ من وجود آثار جاهلية في معابده وقصوره التاريخية، ومع هذا لم يهتم المسلمون الفاتحون ـ وهم خير منا اليوم ـ بمحوها وإزالتها، كما يفكر بعض المسلمين اليوم، وتعاقب على الأمة الآلاف من العلماء والفقهاء والمجتهدين ولم يتعرضوا لمثل هذه القضية لا من قريب ولا من بعيد، ولو كانت تشكل خطرًا على عقيدة المسلمين ما سكتوا عنها.
وإنما يُطلب هدم هذه التماثيل وأشباهها إذا كان من ورائها فتنة دينية يخاف شرها على عقيدة أبناء الأمة، فالواجب حماية الأمة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
فلو كانت هذه التماثيل في مصر أو العراق أو أفغانستان أو غيرها من بلاد المسلمين تُشَكِّل خطرًا عليهم في عقيدتهم، ويُخشى أن تفتن الناس عن عقيدة التوحيد، وتردهم إلى الوثنية القديمة التي حررهم الإسلام منها، لقلنا: يجب هدم هذه التماثيل وإزالتها، حفاظًا على عقيدة الأمة وتوحيدها.
ولكن من المؤكد أن المسلمين اليوم في هذه البلاد المذكورة لا ينظرون إلى هذه التماثيل إلا أنها من آثار إبداع الأقدمين في فن النحت ونبوغهم فيه، كما ينظر المصري المسلم إلى تمثال رمسيس –مثلاً- إلى أنه مجرد أثر من آثار الحضارة الفرعونية القديمة، التي تفننت في صناعة التماثيل، كما تفننت في علم التحنيط، وفي بناء الأهرام، وغيرها، وكذلك التماثيل المنصوبة في بعض ميادين القاهرة والموجودة في كليات الآثار.
ولا أحسب أن هناك مصريًّا واحدًا ينظر إلى هذه التماثيل في الجيزة أو الأقصر أو الكرنك أو غيرها نظرة فيها رائحة للعبادة أو التقديس.
ولهذا فإن من العقل والحكمة- والدين أيضًا - عدم التعرض لهذه التماثيل لخطورة تبعات هذا الإجراء من ناحيتين:
الأولى: أنه يتضمن الإنكار على من سبقنا من المسلمين في هذه الدول من عصر الفتح الإسلامي إلى اليوم، وقد كان فيهم العلماء الربانيون، والرجال الصادقون، والفقهاء المعتبرون، ولم يزيلوا هذه الأشياء التي يريد البعض إزالتها اليوم، وقد كانت موجودة من غير شك.
الثانية: أن العالم يعتبر هذه الآثار القديمة من الكنوز البشرية النفيسة، التي لا تقدر قيمتها بثمن، كما يعتبرها ملكًا للبشرية جمعاء، وإرثًا حضاريًّا وتاريخيًّا مهمًّا لا يجب إهداره، بل تجب المسارعة إلى حمايته والمحافظة عليه والإنكار الشديد على مَن يسعون أو يدعون إلى تدميره وإزالته.
د/ محمد علي دبور
أكاديمي وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
كلية دار العلوم - جامعة القاهرة
وعضو بالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ساحة النقاش