<!--
<!--<!--
التقدم الإسلامي إلى مصر فتحٌ أم غزوٌ؟
دأب الكثيرون من المستشرقين المتعصبين وغيرهم من المؤرخين النصارى على طمس المعالم الإسلامية وتشويهها، والحط من شأن كل ما هو إسلامي، ووصمه بالعديد من التهم والتلفيقات، حيث عمدوا إلى الكتابة عن فترة الحكم الإسلامي لمصر من وجهة نظر متعصبة وكارهة للإسلام والمسلمين، فوقعوا في العديد من الأخطاء والمغالطات التاريخية، إما عن قصد أو نتيجة عدم الوقوف على الروايات التاريخية الصحيحة المتعلقة بالفترة الأولى لدخول الإسلام إلى مصر، وسنحاول خلال هذه السطور أن نتبين حقيقة الفتح الإسلامي لمصر وهل كان فتحًا أم غزوًا؟ حتى تتضح الصورة لكل من يبغي الحق والحقيقة ويعرف فضل الإسلام على مصر والمصريين.
غالبًا ما نجد أن المؤرخين النصارى يبدءون حديثهم عن دخول الإسلام إلى مصر تحت عنوان: (الأقباط تحت حكم العرب)، ثم يتبعونه بعنوان فرعي مثير وهو: (الغزو العربي لمصر).
وفي ظل الادعاءات الكثيرة – خلال الأيام الأخيرة - من قبل قيادات مسيحية وقساوسة بأن المسلمين جاءوا إلى مصر غزاةً وليسوا محررين لها من الغزو الروماني نجد أنفسنا مدفوعين إلى مناقشة قضية على جانب كبير من الأهمية لأنها ما زالت تشغل أذهان الكثيرين حتى الآن، وتنحصر في السؤال التالي: هل التقدم الإسلامي إلى مصر كان فتحًا أم غزوًا؟، أو نطرح السؤال بصيغة أخرى: هل الحملات العسكرية الإسلامية إلى مصر كانت موجهة ضد المصريين أم ضد الروم البيزنطيين؟
وللإجابة على هذا التساؤل يمكن القول إنه إذا كانت النوايا والدوافع التي تلقي بهذا السؤال طيبة وسليمة فإن الأمر يسير، وليس هناك اختلاف كبير بين أن نطلق على دخول الإسلام مصر فتحًا أم غزوًا، لأنه لا يعدو أن يكون خلافًا لفظيًّا، لأن الهدف النهائي سيكون موضع اتفاق من الجميع، وهو تخليص المصريين من الحكم البيزنطي الجائر، وإيصال كلمة الإسلام إليهم، ووضعهم على الطريق الصحيح لكي يختاروا لأنفسهم ما يريدون دون أن تقف في وجوههم العقبات أو المعوقات التي تتمثل في وجود سلطة أجنبية ليس من مصلحتها أن يصل المصريون إلى هذه الدرجة من الحرية، أو أن يفقدوا إحدى مستعمراتهم الغنية بخيراتها الوفيرة بدخولها في حوزة المسلمين ضمن إطار الدولة الإسلامية الناشئة.
ولكن إثارة السؤال بهذا الشكل يوحي بأن وراءه نوايا سيئة لا تبغي لهذا البلد ولا لأهله الخير، فقد استخدم بعض المستشرقين- ومن سار على نهجهم من المؤرخين النصارى في المشرق- كلمة الغزو ليوحوا بأن العرب المسلمين محتلون غاصبون، وأن المصريين لم يستفيدوا من هذا التطور سوى استبدال سيد بسيد لا همَّ له سوى التمتع بخيرات البلاد، وتسخير أهلها لمصالحهم الذاتية، وبذلك يبذرون بذور الفُرقة بين المسلمين والمسيحيين من المصريين، ثم لا تلبث الفُرقة أن تتحول إلى صراع بين الفريقين، وتجعل كلاًّ منهما يتربص بالآخر، ولعل الاستعمار الأوربي الحديث هو الذي كان يقف وراء هذه الآراء ويغذيها إعمالاً لمبدئه الشهير (فَرِّق تَسُد)، ولذلك ينبغي علينا أن نفرق تفرقة حاسمة بين الفتح والغزو حتى يتبين الحق، ونستطيع أن نستخدم كل كلمة من هاتين الكلمتين في موضعها الصحيح، ونحسم هذه القضية التي ما فتئت تُتَّخذ تُكأةً لإثارة العداوة والخصام بين المصريين.
ما معنى الغزو؟
إن الغزو يعني أن تتقدم قوةٌ ما باقتحام أراضي دولة أخرى وفرض سيطرتها على أهلها وإحكام قبضتها عليهم؛ تحقيقًا لمصالحها الذاتية، وحفاظًا على أهدافها هي دون أن تضع في الاعتبار أية أهمية لأصحاب البلاد أو معرفة آرائهم والعمل على تحقيقها، أو الأخذ بأيديهم في مدارج الرقي والتقدم، وإنما تمارس سيطرتها عليهم، فتستنزف خيراتهم، وتقيد حرياتهم، وتفرض عليهم ما تشاء هي لا ما يريدون هم.
ومهما اختلفت وسائل الغزو من الاحتلال العسكري أو التسلل الاقتصادي أو الغزو الفكري فإن غاية الغزو واحدة، وهي تحكُّم قوةٍ ما بالقهر والجبروت في حياة ومصائر غيرها من الشعوب المحتلة.
فهل هذا ما فعله المسلمون عندما وفدوا إلى مصر؟؟ أم أنهم عندما جاءوا إليها إنما كانوا فاتحين يحطمون القيود والأغلال البيزنطية التي كانت تكبل المصريين، ويضعونهم في المستوى الإنساني الكريم أمام مسئوليتهم في اختيار أسلوب حياة جديدة في ظل تعاون سمح مع المسلمين؟؟ ولذلك لم يفرض المسلمون دينهم كرهًا على أحد من المصريين، ولو فعل المسلمون الأوائل ذلك ما وجدنا مسيحيًّا واحدًا في مصر الآن، كذلك لم يستبدَّ المسلمون بالمصريين أو يلغوا إرادتهم بإبعادهم عن الوظائف، ورفض المشورة منهم فيما يعود عليهم بالخير والنفع العام.
إن التاريخ ما يزال شاهد عدل على سماحة المسلمين الأول مع المصريين، ومن ثم أقبل المصريون عليهم، بل دخل كثير منهم الإسلام طواعية ورغبة، وبمرور الزمن اندمج المسلمون في حشود الشعب المصري، وأصبح الجميع شعبًا واحدًا هو الأصل الذي ننحدر منه الآن، والأهم من هذا وذاك أننا يجب أن نضع أمام الأذهان بعض الأسئلة، ففي الإجابة عليها فصل الخطاب:
هل جاء المسلمون إلى مصر ضد رغبة المصريين أم أن هؤلاء كانوا يتطلعون إلى قدومهم وتعاونوا معهم-على أعلى المستويات- منذ اللحظة الأولى؟
هل قاتل المسلمون المصريين أم قاتلوا البيزنطيين المحتلين؟
هل كان هدف الفتح الإسلامي المطامع المادية والرغبة في النهب أم أن الهدف الأول والأخير للمسلمين كان هو إيصال كلمة الإسلام إلى المصريين وإنقاذ المسيحيين المستضعفين في الأرض؟
إن الإجابة المنصفة على هذه الأسئلة هي التي تقطع عن يقين بأن تقدم المسلمين إلى مصر إنما كان فتحًا نعم به المصريون، ووجدوا فيه الفرصة المواتية للتخلص من الأجنبي الدخيل أولاً والتفرغ ثانيًا لمواصلة رسالتهم الخالدة في مناصرة الحق وبناء الحضارة الإنسانية الشاملة، وليس بعد شهادة التاريخ من شهادة، ولا بعد كلامه من كلام يقال.
د/ محمد علي دبور
أكاديمي وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
كلية دار العلوم – جامعة القاهرة
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
ساحة النقاش