أخلاقيات التصويت ومسئولية الناخب
بدأ العد التنازلي لأهم اللحظات الفارقة في تاريخ مصر، إنها لحظة اختيار رئيس الجمهورية، لحظة لم تحدث في حياة أبناء هذا الجيل ولا الجيل الذي سبقه، إن المصريين اليوم بعد عدة عقود عجاف من القهر والتسلط والتزوير والغش من حقهم أن يرسموا صورة وضيئة لرئيس الجمهورية الذي يتمنون أن يروه على رأس السلطة التنفيذية في بلادهم ويفاخروا ويباهوا به أكثر الدول ديمقراطيةً ونزاهةً.
واليوم جاء دورنا كشعب واعٍ مر بمظالمَ كثيرةٍ ومصائبَ جمةٍ وفقرٍ وحرمان بعد أن سرق المفسدون أمواله وهربوها خارج البلاد وتآمروا على حياته ومستقبله، جاء اليوم الذي نختار فيه الرجل المناسب في المكان المناسب، ونعرف كيف نختار ومَن نختار لهذه الأمانة الثقيلة، إن حرصنا يجب أن يكون في المقام الأول على اختيار الإنسان المؤمن القوي الذي لا يخاف في الله لومة لائم، ويغلب على ظننا أنه جاد ومخلص لتحقيق مطالب شعبه وآماله.
وإذا كانت هذه اللحظة عزيزة ولم تكن لها سابقة في حياة الكثيرين منا فيجب علينا أن نتعامل معها بأرقي الأساليب وأنزه الطرق، وهنا يقع العبء الأكبر على الناخب واختياره، فالناخب يمثل الطرف الأهم في العملية الانتخابية؛ لأننا لو استطعنا أن تكون الانتخابات نزيهة شريفة فإن صوته هو الذي سيوجِّه نتائج الانتخابات إلى الجهة التي يريدها الشعب لتحقق آماله وأحلامه وطموحاته.
لذا كان من الضروري أن تتوفر في الناخب عدة أمور مهمة:
1- أن يكون واعيًا ومدركًا لقيمة صوته الانتخابي، فهذا الصوت لو وُضع في المكان الصحيح والمناسب فإنه يغير كثيرًا من الأوضاع المقلوبة والمغلوطة في بلادنا.
2- أن يكون مدركًا – وهذا هو الأهم – أن صوته أمانة فلا يضيعه ولا يمنحه إلا لمن يستحقه، وأن يدرك أن الإدلاء بصوته شهادة أمام الله، والشهادة يحرم كتمانها ويجب أداؤها مادام يترتب على كتمانها وصول الانتهازيين إلى مصدر القرار، أو وصول مَن ليس أهلاً لهذا المكان، وهذا يحدث كثيرًا نتيجة الجهل والسلبية، يقول ربنا تعالى: ((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)) (سورة البقرة، من الآية رقم 140)، وقال جل شأنه: ((وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) (سورة البقرة، من الآية رقم 283)، وإذا كان الإدلاء بالصوت شهادة، فهي إما أن تكون شهادة حق ينفع بها الناخب نفسه ووطنه، أو شهادة زور يضر بها نفسه ووطنه، ويُسال عنها بين يدي ربه تعالى.
3- أن يرفض الناخب كل أشكال التضليل والإغراء المادي أو المعنوي، وأن يذهب إلى صناديق الاقتراع لأنه – فقط – يشعر بالمسئولية تجاه وطنه، أما إن ظللنا أسرى لكل أشكال الإغراءات فلن تتغير أحوالنا، وإن تغيرت أحوال البعض منا إلى الأحسن نتيجة الاستجابة للإغراءات المادية، فإنه تغيرٌ مؤقتٌ سرعان ما يزول وتعود الأحوال إلى أسوأ مما كانت عليه، لذا نتمنى على جميع الناخبين ألا يؤثروا التحسن المؤقت لأحوالهم وأوضاعهم على التحسن الدائم المستمر.
ويجب على الناخب أن يشك فيمن يحاول شراء صوته وولائه، بأية طريقة، بالمال أو بالمنصب أوبقطعة الأرض أو بأي شيء آخر، فالذي يشتري الناخب اليوم يمكن أن يبيعه غدًا،وإن الناخب الذي يبيع صوته للمرشح، لا يحق له أن يطالبه بشيء بعد فوزه فيمقعد المسئولية، لأنه سيجيبه بأنك قبضت الثمن سلفًا، فماذا تريد مني أكثر منهذا؟
4- أن يكون الناخب إيجابيًّا في كل مراحل العملية الانتخابية: إيجابيًّا في الدفاع عن صوته وإرادته فلا يسمح بتزوير إرادته في أي مكان كان، فإن مهمة الناخب لا تنتهي بالإدلاء بصوته، بل تنتهي بانتهاء فرز الأصوات، وبالتالي يظل رقيبًا على العملية الانتخابية – التي هي حق أصيل له – حتى لا يعطي الفرصة لضعاف النفوس بالتلاعب أو التزوير أو تغيير إرادة الأمة لمصالح حفنة من المنتفعين بالفساد ومنعدمي الضمير والأخلاق.
5- أن يكون إيجابيًّا في توعية الآخرين إذا كان مؤهلاً لذلك، فإن كثيرين يحتاجون إلى التوعية وتقديم النصح لهم وتوجيههم إلى الأحسن والأفضل حتى لا يقعوا في براثن المخادعين والمنافقين وأصحاب المصالح.
6- أن يكون على وعي ومعرفة بمَن يختاره ليمثله ويحسن التعبير عن مشاكله وآماله، والناخب – في هذه الحالة - بين أمرين؛ إما أن يعرف مَن يختاره معرفة واضحة ويثق به ويكون على علم بقدراته وإمكانياته وأمانته ودينه، وإما أن يسأل عمن لا يعرفه حتى يكون اختياره صحيحًا ومناسبًا.
7- ألا يستمع الناخب إلى مَن يهاجم مرشحًا معينًا أو ينتقص من قدره أو يقلل من شأنه، وليعلم الناخب أن هذا هو أسلوب الحاقدين والمفلسين، وأن هذا المهاجم – هو ومرشحه – لو كان منافسًا شريفًا ما لجأ إلى مثل هذه الأساليب الرخيصة، وهنا يجب على الناخب أن يكون إيجابيًّا بالانصراف عن مثل هذه النوعية من المفلسين، ومعاقبته بحجب الثقة عن مرشحه وعدم التصويت له.
8- كما أن على الناخب أن يحذر من التصويت لأيتام النظام البائد ممن تلطخت أيديهم بدماء الأبرياء، وأسهموا في إهدار كرامة المواطن، وتخريب اقتصاد البلاد لمصالحهم الشخصية، وإضعاف مكانة الدولة خارجيًّا، فهؤلاء لا يريدون إصلاحًا ولا تغييرًا إلى الأحسن، وإذا زعموا الآن أنهم يريدون الإصلاح، فلنعلم أنهم كاذبون، فقد كانت الفرصة أمامهم، وكانوا في موقع المسئولية ولم يفعلوا شيئًا مما يزعمون الآن، وقد أثبتت التجربة أن هذا النموذج لا يصلح لشيء، وأن سعيه إلى المنصب ليس إلا للمحافظة على ما جنته يداه من الثروة المسروقة من الشعب، أو محاولة إعادة النظام الفاسد السابق، حيث كان هؤلاء من أهم المنتفعين بفساده، وليكن شعار الناخب مع أمثال هؤلاء هو قول الله تعالى: ((رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَىَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ)) (سورة القصص، من الآية رقم 17).
9- يجب على الناخب ألا يعتمد على الدعاية الانتخابية في الاختيار فأغلبها للتجمُّل والاستهلاك الإعلاميّ فقط، وليست للتطبيق العملي.
10- كما يجب عليه أيضًا ألا يعتمد على الاختيار على أساس الشهرة أو الوجاهة أو الميل العاطفي أو القرابة أو الشكل أو المظهر، فكثيرًا ما تكون هذه المعايير خادعة ولا تعبر عن شيء حقيقيّ.
11- كما يجب عليه أن يبتعد عن العصبية في الاختيار، فغالبًا ما تأتي العصبية بأشخاص لا يحسنون شيئًا ويفتقرون إلى كثير من الخبرة المطلوبة.
12- إن الناخب الواعي يجب أن يكون اختياره على أساس الكفاءة والخبرة والقدرة على الأداء والإنجاز؛ فقد علمتنا التجارب أننا بحاجة إلى الكفاءة والحزم والأمانة والإدارة الواعية لإنجاز المهام التي ننتظرها من الرئيس القادم، فالموقع مسئولية، والمسئولية ثقيلة جدًّا، يجب أن يتحمل أعباءها الناخب قبل المرشح للرئاسة من خلال التدقيق في هوية من سيمنحه صوته ويحمله الأمانة والمسئولية.
إننا من خلال الانتخابات الرئاسية المقبلة نجني أولى الثمار الحقيقية للثورة المصرية المباركة، ولأول مرة منذ عقود عديدة يتقدم المصريون لاختيار (رئيس الجمهورية)؛ ليعبر تعبيرًا حقيقيًّا عن الشعب، ويسعى إلى تحقيق مطالبه وآماله، بل يسعى لتخفيف مشاكله وأوجاعه، لننجح جميعًا في اجتياز المرحلة الانتقالية الصعبة التي نعيشها الآن، ونكمل بقية الخطوات نحو الدولة الديمقراطية التي يتمناها كل المصريين، لذا وجب على الجميع أن يكونوا عند مستوى الحدث الكبير الذي نعقد عليه الكثير من الآمال والطموحات، ونسأل الله أن يلهمنا الصواب والرشاد وأن يحقق آمال البلاد والعباد، إنه – سبحانه - كريم جواد.
د/ محمد علي دبور
أكاديمي وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
[email protected]
ساحة النقاش