<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

من الأخطاء القاتلة للثورة

بات مؤكدًا عند كل المتابعين للشأن المصري الآن أن الثورة المصرية انحرفت منذ فترة عن مسارها الصحيح، ورغم كل محاولات التفاؤل والاستبشار وحسن الظن إلا أن الواقع يؤكد يومًا بعد يوم صحة هذا التحليل، بل ويثبت أننا دخلنا فعلاً في نفق مظلم وبدأنا في التخبط والسير الارتجالي العشوائي دون أن نعرف أو نتأكد أين نضع أقدامنا، ودون أن نعرف هل نسير في الاتجاه الصحيح أم علينا أن نغير اتجاهنا؟ أو هل نفكر بطريقة صحيحة وإيجابية أم علينا أن نغير طريقة تفكيرنا؟ أو هل نحن فعلاً على مستوى الحدث الذي تمر به البلاد ونقدر له قدره أم استهنا به حتى كادت زمام الأمور أن تفلت من أيدينا إن لم تكن قد أفلتت بالفعل؟ أمور كثيرة أوقعتنا جميعًا في حيرة ولم نعد ندري أين الصواب وكيف الخلاص ومتى وكيف نصل إلى ما نتمناه من ثورتنا التي أريقت من أجلها الدماء، وأزهقت في سبيلها الأرواح؟.

إن الأحداث الأخيرة المتعلقة بملف الترشح لرئاسة الجمهورية وتجرؤ عدد من فلول النظام السابق على التقدم للترشح لهذا المنصب بدلاً من أن يتواروا خجلاً مما فعلوه بمصر والمصريين، وكذلك عودة الإعلام – خاصة الفضائيات- إلى سيرته الأولى للتسبيح بحمد أسياده القدامى وإظهارهم بمظهر الأبطال والمنقذين، وتبجح الحكومة المؤقتة وتهديدها بحل البرلمان رغم فشلها في التعاطي مع هموم المصريين ومشاكلهم، بل تعمدها عرقلة عجلة الإنتاج والسير بالاقتصاد المصري من سيء إلى أسوأ، أضف إلى ذلك تعالى المجلس العسكري وعدم استجابته لمطالب البرلمان ومطالب المصريين، كل هذا يؤكد أننا نسير في الطريق الخطأ، ونفكر بطريقة خاطئة، وأنه لابد من إعادة النظر في كل استراتيجيات الثورة وطريقة عملها.

لو أمعنا النظر في كل الخطوات التي مرت بها الثورة منذ اندلاعها حتى يومنا هذا لأدركنا بما لا يدع مجالاً للشك ودون أن نخدع أنفسنا بما حققناه من إنجازات أن الثوار وقعوا في أخطاء قاتلة تمثل السبب الحقيقي الآن وراء كل ما نعانيه من عرقلة وتباطؤ وتأخر، بل وارتداد سريع للخلف، وضياع لهيبة الثورة والثوار، وتتركز هذه الأخطاء في النقاط التالية:

1- إسناد أمور الدولة بعد تنحي مبارك إلى المجلس العسكري، فقد كان هذا الإجراء خطأً سياسيًّا فادحًا وقع فيها السياسيون المصريون، ولا أدري كيف وافقوا - منذ البداية - على أن يدير المجلس العسكري المرحلة الانتقالية؟ هل كنا مغيبين وفاقدي الوعي إلى هذا الحد؟ أو كنا مفتقرين إلى النظرة السياسية الصائبة؟ أو كنا ننظر تحت أقدامنا ولا ننظر إلى المدى السياسي البعيد؟ إنه لا فرق بين نظام مبارك والمجلس العسكري، فكلاهما منهج واحد وفكر واحد وطريقة واحدة في إدارة تلك البلاد المنكوبة التي يبدو أنها لا حظ لها في الحرية والاستقرار، وأنه كُتب عليها أن ترزح تحت سياط العسكر إلى يوم الدين؛ إما لغبائنا السياسي وعدم فطنتنا لمجريات الأمور، وإما لذكاء المجلس العسكري في وضع خطط محكمة لخداع الشعب والمكر به والتمويه عليه، ويبدو أن هذه الخطط قد انطلت على كثير من المصريين، فرضوا بالأمر الواقع واستكانوا للأوضاع الراهنة، وهذا كله نتيجة طبيعية لسياسة النفس الطويل التي ينتهجها المجلس العسكري مع المصريين منذ توليه إدارة البلاد، ويبدو أن هذه السياسة قد بدأت تؤتي أكلها على الوجه الذي يشتهيه أعضاء المجلس العسكري.

2- التلكؤ في إصدار قانون العزل السياسي أو قانون إفساد الحياة السياسية لفلول النظام السابق وإهمال هذا الملف المهم، لقد كان الهدف من هذا القانون منعَ كل مَن شارك في إفساد الحياة السياسية سابقًا من المشاركة في العملية السياسية لمدة زمنية محددة تتيح لهؤلاء أن يتطهروا من أعمالهم الشائنة السابقة، وأن يوطنوا أنفسهم على التعامل بنظافة وشرف مع المرحلة الجديدة التي تمر بها البلاد، إن هذا القانون له أهمية كبيرة، حيث يفتح أمام هؤلاء باب التوبة السياسية لينخرطوا في المجتمع من جديد بفكر جديد وسياسة جديدة أساسها الشفافية والصدق والحرص على مصلحة الوطن.

لقد تم خداع الثوار وخداع الشعب المصري بأكمله وإغراقه في معارك جانبية ومسائل هامشية بهدف التغطية على هذا القانون ونسيانه تمامًا، وها نحن الآن نجني مرارة هذا التقصير وذاك الإهمال، فقد قفز إلى السفينة الوطنية عدد ممن قامت الثورة – أساسًا – ضد سياساتهم العقيمة مستغلين عدم وجود تشريع قانوني يمنعهم من الترشح لهذا المنصب ومتحدِّين كل مشاعر المصريين الشرفاء ومستقوين بالمجلس العسكري الذي يسخِّر لهم كل إمكانيات الدولة الأمنية والعسكرية ليحققوا مآربهم في الوصول إلى سدة الحكم وإن رغمت أنوف المصريين جميعًا. 

لقد نسينا أن شعار الثورة كان: ((الشعب يريد إسقاط النظام))، وقد أسقطنا رأس النظام، ونسينا أن نتأكد من موت النظام نفسه، فالثورة لم تكن بالتأكيد ضد شخص مبارك، وإنما كانت ضد نظام مبارك بجميع أركانه، كانت ضد كل الشخصيات التي تصدرت المشهد السياسي والأمني والاقتصادي والثقافي والتعليمي في العهد البائد، وتسببوا بسياساتهم العقيمة في تأخر البلاد وتراجعها.

3- عدم وجود مجلس رئاسي مدني لإدارة المرحلة الانتقالية، تتبعه حكومة وحدة وطنية أو حكومة مدنية لإدارة هذه المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد، وتكون مهمة المجلس العسكري حماية مؤسسات الدولة والمحافظة عليها فقط؟ فالمجلس العسكري لا يُحسن العمل بالسياسة، وهذه ليست مهمته، وليست لدية الخبرة السياسية التي تؤهله لإدارة هذا الشأن المهم، وبالتالي فمن الطبيعي أن يخضع لكثير من الضغوط والأفكار من هنا وهناك، ويميل إلى هذا تارة وإلى هذا تارة أخرى، ويظل دائمًا في حالة تردد، وهذا يفسر لنا سر منهج المماطلة والتسويف الذي يتبعه المجلس العسكري منذ اللحظة الأولى لتوليه إدارة شئون البلاد، فليس لديه منهج واضح ومحدد لهذه المرحلة، ويفتقد لرؤية إستراتيجية جامعة للخروج من الأزمة، ومعظم قراراته بالونات اختبار إما أن تستمر أو لا تستمر، وأحيانًا تغلب عليه الطبيعة الديكتاتورية التي تربى عليها مع النظام السابق، أو التي تفرضها عليه الطبيعة العسكرية لرجال الجيش، فلا يسمع لهذا أو ذاك، ويصدر ما شاء من القرارات بليل متبعًا سياسة: ((اللي مش عجبه يخبط دماغه في الحيطة))، فهل مصر – في هذه المرحلة الحرجة – تحتمل مثل هذا التهريج السياسي؟ سؤال يجب علينا جميعًا أن نجيب عليه بكل صدق وأمانة إذا كنا نريد الخير والاستقرار لمصرنا الحبيبة.

4- الإهمال المتعمَّد لتطهير مؤسسات الدولة، خاصة مؤسسة الإعلام ومؤسسة الداخلية، أما عن الإعلام فحدِّث ولا حرج، فما زالت الأبواق التي تنفخ في الفتنة والوجوه التي سئمنا من نفاقها وتملقها هي التي تتصدر المشهد الإعلامي دون أن نشهد أو نشعر بأدنى تغيير في هذه المؤسسة المهمة، فكان من الأولويات التي لا تقبل التأجيل أو التسويف في المرحلة السابقة تطهيرُ الإعلام كخطوة أولى ومهمة؛ لأنه بدون تطهير الإعلام فإن أي شيء سوف نقوم به في الاتجاه الصحيح ليس له معنى ولا فائدة منه؛ لأن الإعلام الموجَّه المغرض سوف يفسده، ولذلك لابد من القيام بثورة تطهير شاملة للإعلام ليتحول من إعلام يخدم جهة معينة ووجهة نظر واحدة إلى العمل في خدمة الشعب المصري فقط، وأن يطرح جميع وجهات النظر المختلفة، وأن يتبنى مبدأ: ((الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية)).

وقل مثل ذلك عن تطهير وزارة الداخلية، فقد سمعنا كلامًا كثيرًا حول هذه الخطوة المهمة دون أن نرى أثرًا ملموسًا لهذا الكلام على أرض الواقع، وكأن هناك داخل هذه الوزارة قوةً خفيةً لا تريد هذا التطهير ولا تريد أن يحدث التغيير، والعجيب أننا استسلمنا لهذا الواقع وانشغلنا بأمور أخرى أقل أهمية من هذه الخطوة الحاسمة.

5- السكوت على المحاكمة الهزلية لمبارك ورموز نظامه الفاسد، إن هذه المحاكمات تمثل إهانة كبيرة للثورة والثوار، ومسرحية هزلية الغرض منها تخدير الشعب وإسكاته، أو قل: استغفاله والضحك عليه، فحتى الآن لم يصدر حكمًا واحدًا يروي غلة هذا الشعب ويُذهب غيظ قلبه ويشفي صدور الموجوعين من أبنائه، وأعتقد أنه لن يصدر مثل هذا الحكم لسببين، أولاً: لأننا تخلينا عن هذه القضية المهمة وتركناها جانبًا وانشغلنا أو شُغلنا عنها عمدًا بسفاسف الأمور، ثانيًا: أنه هكذا وُضعت الخطة للضحك على شعب مصر الطيب، وها هي الأيام تثبت أننا كنا نعيش في خدعة كبيرة، فصارت صدمتنا أكبر وصار جرحنا أعمق.

6- اختلاف الإسلاميين وتفرقهم، فقد استطاعت الأغلبية الإسلامية أن تحقق إنجازات كبيرة، وصار لها صوت مسموع وقوة لا يُستهان بها ويعمل لها الجميع ألف حساب، لكن سريعًا ما دبَّ الخلاف والشقاق بينهم، ووقعوا ضحية السعاية المغرضة للوقيعة بينهم، وظهر المرض العضال بين أبناء الحركة الإسلامية ألا وهو التعصب للأشخاص على حساب المشروع الإسلامي الذي يتبنونه، ولم يكونوا عند مستوى الحدث المهم الذي تمر به البلاد، وإن لم ينتبهوا إلى مثل هذه الأخطاء ويسعون إلى تصحيح مسارهم وتوحيد كلمتهم فسيفقدون كثيرًا مما حققوه، وسيفقدون – وهذا هو الأهم – ثقة المصريين في مشروعهم.

وقد بدأت تلوح في الأفق خيوط مؤامرة إقصاء الإسلاميين وإزاحتهم من المشهد السياسي المصري، وقد استغل منافسوهم هذا التناحر الحادث بينهم، ولم يعد العلمانيون والليبراليون يتحملون تلكم الديمقراطية التي جاء ت بالإسلاميين، وعادت الصحف القومية والفضائيات إلى نغمتها القديمة في مهاجمة الإسلاميين وإظهارهم بمظهر المتآمر على الثورة والباحث عن مصلحته الشخصية دون اعتبار لمصلحة الوطن ومصلحة المصريين.

إننا لا نريد أن نبكي على اللبن المسكوب، فليس هذا من العقل في شيء ولا من الحكمة، ولكن العقل يدعونا إلى التوقف قليلاً لنعيد ترتيب أوراقنا ونعيد حساباتنا، ونتعرف على العراقيل التي تقف في طريق ثورتنا، لأننا إذا وقفنا على أخطائنا بصدق وشفافية فإننا نستطيع أن نتدارك هذه الأخطاء ونتجنبها ونصحح ما يمكن تصحيحه منها لتمضي قاطرة الوطن في طريقها الصحيح نحو الهدف الصحيح.

إننا نعيش معركة حقيقية من أجل نجاح الثورة المصرية، والمقاتل الحاذق والسياسي الماهر لا يصح أن يترك وراءه ما يعرِّض جهوده وإنجازاته للخطر، بل عليه أن يكون حريصًا على القضاء على كل جيوب المقاومة المضادة مهما كانت ضعيفة، ولا يستهين بشيء مهما كان قليلاً، لأن مرور الوقت كفيل بأن يتيح للضعيف أن يقوى وللقليل أن يكثر حتى يشكل عقبة حقيقية وخطرًا مؤكدًا على إنجازات الثورة.

إننا لا نبتغي من وراء هذا النقد والتحليل للأحداث التي مرت بها ثورتنا إلا أن نقف على أخطائنا ونصحح مسارنا وننتبه إلى الأخطار المحدقة بنا وبثورتنا وببلدنا الحبيب، فتشخيص الداء أول طريق العلاج.

د/ محمد علي دبور

أكاديمي وباحث في التاريخ والحضارة الإسلامية

وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

[email protected]

 

 

   

 

المصدر: مقال شخصي

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

81,193