للعقوبة في القوانين الوضعية خصائص ومميزات اكتسبتها بعد قرون عدة من البحث والتطور والتراكم المعرفي في مجال العلوم القانونية، وما قدمته المدارس القانونية الباحثة في الفكر العقابي والجزائي من اجتهادات ونظريات وما كشفته من خصائص ومميزات للعقوبة اعتمدت وأقرت في القوانين الجزائية الحديثة. أما الشريعة الإسلامي فالعقوبة فيها لم تكتسب خصائصها ومميزاتها من تطور أو اجتهاد العقل الإنساني في هذا المجال، وإنما ارتبطت هذه الخصائص بمفهوم العقاب وأساسه وأهدافه وكونه تشريعاً إلهياً منزلاً، فخصائصها مرتبطة بتشريعها وبأهداف التشريع العامة والأساسية في تحقيق مصلحة الفرد والجماعة، لذلك فخصائصها لن تنفك عن كونها هي الأخرى ضمانات حقوقية وتشريعية تصب في تحقيق مقاصد الشريعة المعتبرة. وبما أن العقوبات في الشريعة الإسلامية تنقسم بالنظر إلى نوع العقوبة وخطورة الجريمة إلى حدود وقصاص وتعازير، وتنقسم بالنظر لمصدرها إلى عقوبات مقدرة وعقوبات غير مقدرة، فسنتحدث عن خصائص العقوبة في الشريعة الإسلامية انطلاقاً من هذه التقسيمات لوجود مميزات واختلافات في بعض هذه الخصائص في كل من هذه العقوبات.
خصائص العقوبات المقدرة: الحدود والقصاص
1 - الشرعية:
عرَّف الفقيه الماوردي الجرائم بأنها: «محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزير»[1]، ومن خلال هذا التعريف نجد أن الجرائم التي يعاقب عليها حداً هي «محظورات شرعية» أي محرمات وجرائم، والشرع الإسلامي هو الذي جرَّم هذه الأفعال على عقوباتها كذلك، فهي معينة بوصفها جرائم، ومقدرة بوصفها عقوبات، بنصوص من القرآن والسنة واضحة الدلالة لا تحتاج إلى تفسير أو تأويل، وهذا ما يسمى في القوانين الوضعية بمبدأ «قانونية الجرائم والعقوبات» أو مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص». وجرائم الحدود وعقوباتها كلها منصوص عليها إما في القرآن أو السنة أو هما معاً. فبخصوص النص على جريمة الزنا يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً﴾[2]، وأما بخصوص الحد أو عقوبة الزاني غير المحصن فيقول عز من قائل: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ﴾[3] أما عقوبة الزاني المحصن فقد وردت في السنة المطهرة القولية والفعلية، حيث رجم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ماعزا، والغامدية اللذين أقرَّا بالزنا، والمرأة التي اعترفت بزنا العسيف(الأجير) بها[4].
وفي جريمة القذف وعقوبتها يقول عز من قائل: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾[5].
وفي تجريم شرب الخمر يقول سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[6]، وروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قوله: «كل مسكر حرام»[7] وحول عقوبة شرب الخمر، روى أبو هريرة قال: أُتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) برجل قد شرب فقال: اضربوه، قال أبو هريرة: فمنا الضارب بيده، ومنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، فلما انصرف، قال بعض القوم أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان»[8].
وفي تجريم السرقة وعقوبتها: يقول عز من قائل: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾[9].
وفي البغي والحرابة والردة، هناك عشرات الآيات والروايات والأحاديث النبوية التي تنص على تجريم هذه الأفعال وتحدد لها عقوبات خاصة، بل لقد عينت الشريعة العقوبة في جرائم الحدود تعييناً دقيقاً، بحيث لم تترك للقاضي أية حرية في اختيار نوع العقوبة أو تقديرها، حتى يمكن القول بأن هذه العقوبات ذات حد واحد حكماً، - وإن كان بعضها يحتمل أن يكون ذا حدين- فلا تسمح الشريعة للقاضي أن ينقص العقوبة أو يستبدل غيرها بها أو يوقف تنفيذها[10]، كما وردت أحاديث كثيرة تتحدث عن تفاصيل تنفيذ عقوبات الحدود مثل كيفية الرجم والجلد في الزنا أو القذف، وكيفية قطع يد السارق وتفاصيل أخرى حول حدود الجاني أو المقام عليه الحد.
وكذلك الأمر بالنسبة لجريمة القتل فقد أكدت النصوص القرآنية الواردة في عدة مواضع (سورة الإسراء، الآية 33 وسورة المائدة، الآية 45)، على شرعية القصاص القائم على المماثلة في الاعتداء على النفس وما دونها، وجاءت السنة النبوية تتعرض لتفصيلات المبدأ في الحض على عفو ولي الدم، وفي تحديد تفصيلات الدية، أنواعها ومقدارها[11].
والنص على هذه الجرائم وعقوباتها في القرآن والسنة لا يؤكد فقط شرعيتها وإنما يشير إلى خطورة هذه الجرائم وكونها اعتداء على ما اعتبرته الشريعة ضرورات لا تتحقق مقاصد الشريعة بالاعتداء عليها، لذلك لم تُترك لتعيين الخلق أو تقديرهم بل تكفل الله سبحانه وتعالى وهو العليم بما خلق وبما يضر الإنسان وما ينفعه بتعيين هذه الجرائم وتقدير عقوبات مناسبة لخطورتها ومدى تأثيرها السلبي على حياة الفرد والمجتمع الإسلامي بل الإنساني ككل.
ومن الأهمية التذكير بأن مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» من المبادئ الإسلامية الأساسية والشاملة، وليس فقط بما يتعلق بجرائم وعقوبات الحدود والقصاص والتعزير، وإنما نجد أن الإسلام لا يعاقب بعقوبة دنيوية أو أخروية إلا إذا سبق الإنذار والتبليغ والتجريم، يقول عز من قائل: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِين حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾[12].
وقوله تعالى: ﴿رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾[13]، ومن خلال هاتين الآيتين الكريمتين استخلص الفقهاء قاعدتين أصوليتين تفيدان معنىً واحداً ومضموناً واحداً وهو مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» أي لا يمكن عَدّ فعل أو تركه جريمة إلا بنص صريح يحرم الفعل أو الترك، فإذا لم يرد نص صريح فلا مسؤولية ولا عقاب على فعل أو ترك، وهاتان القاعدتان هما: الأولى: «لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود النص»، والثانية: «الأصل في الأشياء والأفعال الإباحة»[14].
ولما كانت الأفعال المحرمة لا تُعدُّ جريمة في الشريعة بتحريمها وإنما بتقرير عقوبة عليها، سواء كانت العقوبة حداً أو تعزيراً، فإن المعنى الذي يستخلص من ذلك كله هو أن قواعد الشريعة الإسلامية تقتضي: ألاَّ جريمة ولا عقوبة إلا بنص[15].
ويترتب على قاعدة «لا جريمة ولا عقاب إلا بنص» نتائج منها:
1 - عدم رجعية القانون والمقصود به أن المشرع لا يتناول بالعقاب أفعالاً ارتكبت قبل صدور التجريم، وهذا واضح في عقوبات الحدود، فالمسلمون كانوا يشربون الخمر قبل تحريمها وقد نزل هذا التحريم متدرجاً، لكن بعدما نزل النهي وتأكد على لسان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي حرم كل مسكر، فقد أصبح شرب الخمر والمسكرات محرماً ومعاقباً عليه، وكذلك الأمر بالنسبة لباقي جرائم الحدود، بل وغيرها من الجرائم والمعاصي، وهذا يؤكد أن الأصل في الشريعة الإسلامية هو أن استحقاق العقاب متوقف على سبق الإنذار به، وأن من يرتكب فعلاً ما أو يسلك سلوكاً ما لا يعاقب على هذا الفعل أو السلوك إلا إذا كان قد سبقه نص تشريعي يوجب ذلك العقاب[16]. فقد حرم الله سبحانه وتعالى الجمع بين الأختين في النكاح وقد كان معمولاً به، يقول عز من قائل: ﴿وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾[17]، كما حرم نكاح زوجة الأب قائلاً: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاء سَبِيلاً}[18]. وفي الآيتين معاً تكررت صيغة ﴿إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ﴾، وهذا يعني استثناء هذه الأفعال السابقة عند التحريم وعدم المعاقبة عليها بعد الإسلام، أما وقد نزل التحريم والنهي، فإن المقترف لها ولغيرها مما نهي عنه يعتبر عاصياً يستحق العقاب حداً أو تعزيراً إذا كان هذا الفعل من جرائم الحدود أو التعازير، أو الكفارة إذا كان الفعل من معاصي الكفارات، وهناك أمثلة أخرى كثيرة جاءت بصيغة عامة، لا يقتصر أثرها على موضع واحد، أو بمعنى آخر إنها وردت لتضع قاعدة عامة لها صفة الشمول، وهذه القاعدة هي أنه لا أثر رجعي للنصوص الجزائية على ما وقع من أفعال سابقة للعمل بها في الإسلام[19].
لكن الشريعة الإسلامية تتفق مع أغلب القوانين الوضعية على وجود استثناءين لقاعدة عدم رجعية التشريعات الجزائية، أولهما يتعلق بمصلحة المتهم[20]، والثاني بتطبيق قواعد الإجراءات الجزائية. لكن عدداً من الفقهاء المسلمين يضيف استثناء ثالثاً، في حالة ما إذا كان النص الجزائي متعلق بأمن المجتمع ونظامه، وهذا الاستثناء قال به الأستاذ عبد القادر عودة وخالفه عدد من الكتاب، فقد ذهب الأستاذ عودة إلى أنه «يجوز أن يكون للتشريع الجنائي الإسلامي أثر رجعي في حالة الجرائم الخطيرة التي تمس الأمن أو النظام العام، ومن الأمثلة على هذا الاستثناء: جرائم القذف والحرابة والظهار»[21].
ففي حد القذف يرى الأستاذ عودة أن الرأي الراجح يؤكد أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[22]، قد نزل بمناسبة حادثة الإفك، فإذا صح هذا الرأي كان لنص القذف أثر رجعي، إذ الثابت الذي لا خلاف فيه أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حدَّ القذفة، فكأنه طبق النص على وقائع سابقة على نزوله[23] وعلل الأستاذ عودة الأثر الرجعي لهذا النص بما ترتب عن الحادث الذي نزل فيه النص من آثار هدامة[24]. إلا أن الدكتور محمد سليم العوا، يرفض هذا الرأي ويرى بأن مصدر هذا القول وَهمٌ سابق إلى قائله من تتابع الآيات في سورة النور مبينة حد الزنى، فحد القذف، فأحكام اللعان، ثم قصة حديث الإفك وبراءة السيدة عائشة، أما ما أوردته مراجع التفسير، فهو أن ما نزل في شأن السيدة عائشة هو آيات العشر التي تبدأ بقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ إلى قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الآيات من 11 إلى 20). وذلك ما ورد في كتب السنة الصحيحة. وبذلك فإن آيات حد القذف تكون منفصلة في النزول عن آيات براءة السيدة عائشة، وإذا تبين هذا.. فإن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا عاقب قذفة السيدة عائشة (رضي الله عنها) يكون قد عاقبهم على فعل وقع منهم بعد أن جرَّمه القرآن وقرر عقوبته[25].
ويضيف الدكتور العوا بأن دعوى الرجعية هنا - وفي مثل تلك الحالة من حالات التشريع في العهد النبوي- لا تصح لأن أحكام الإسلام نزلت متدرجة مع الحوادث. فالحادثة تقع تتطلب حكماً، وينزل النص القرآني أو يأتي الأمر النبوي بالحكم فيطبق عليها، وتطبيق الحكم على الحادثة سبب النزول، لا يقال عنه إنه من رجعية التشريع إلى الماضي[26].
أما بخصوص حد الحرابة، فالأستاذ عودة يرى أن ما عليه الجمهور هو أن آية الحرابة نزلت في العرنيين، وهم قوم من عرنية، قدموا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فاجتووا المدينة، فأمر لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلقاح، وأمرهم أن يشربوا ألبانها وأبوالها فانطلقوا، فلما صحوا قتلوا الراعي واستاقوا النعم، فأرسل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أثرهم فجيء بهم، فأنزل الله تبارك وتعالى في ذلك قوله: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقيل: إن الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قطعوا الطريق وأفسدوا في الأرض، وروى ابن جرير أن الآية نزلت عتاباً للنبي، لأنه قطع أيدي العرنيين، وتركها دون حسم، وسمل أعينهم كما سملوا عين الراعي فنزلت الآية تحريماً للمثلة[27] وتكون الآية قد نزلت بعد عقابهم طبقاً لقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا}[28] وقد جاءت بحكم جديد ثابت لمثل الرواية الأولى أو الثانية، فإن الآية قد نزلت لعقوبة فعل سابق عليها، ومن ثم يكون لها أثر رجعي[29].
ويعلل الأستاذ عودة ذلك بالمصلحة العامة التي اقتضت ذلك، وإن كان يشير إلى أن وجود خلاف حول أسباب نزول الآيتين (آية القذف والحرابة) يدعو إلى الشك في أن الشريعة تجيز الرجعية في التشريع الجنائي[30]. وهذا الشك لا مبرر له بالنسبة للدكتور العوا لأن الآية في نظره قد نزلت بعد عقاب هؤلاء القوم من عكل وعرينه، وقد ورد التصريح في صحيح البخاري ومسند أحمد وسنن أبي داود عن ابن سيرين: «إن ذلك كان قبل أن تنزل الحدود»[31] وهنا كذلك لم يكن ثمة أي أثر رجعي لتطبيق آيتي الحرابة وتبقى القاعدة المقررة في التشريع الجنائي أنه «لا جريمة ولا عقوبة بغير نص»[32].
أما في ما يخص آية الظهار[33] فإن الأستاذ عودة يرى أن هناك اتفاقاً على سبب نزولها وأنها أطبقت على واقعة سابقة، مما يقطع بأن الشريعة تجيز أن يكون للتشريع الجنائي أثر رجعي[34]، وقد رد الدكتور العوا على ذلك مؤكداً أن الاستدلال بحكم الظهار على رجعية التشريع الجنائي إلى الماضي مما لا يمكن التسليم به، لأن الظهار من مسائل الأحوال الشخصية أو أحكام الأسرة، ولا علاقة بينها وبين الأحكام الجزائية حتى يستدل بها عليها، وإنما يصح الاستدلال في هذا الشأن بالنصوص الجنائية في الشريعة الإسلامية، أو بالنصوص التي تقرر قواعد عامة[35]، وهو رأي الشيخ محمد أبو زهرة كذلك[36].
ويرى الدكتور عبود السراج وبغض النظر عن صحة التطبيق بأثر رجعي للنصوص التي وردت في جريمتي القذف والحرابة، فإن هذا التطبيق لا يصلح أن يشكل قاعدة يبنى عليها القول بإمكانية رجعية النصوص الجزائية المتعلقة بأمن المجتمع ونظامه، وفضلاً عن ذلك فإستثناء النصوص الجزئية المتعلقة بأمن المجتمع ونظامه من مبدأ عدم رجعية التشريعات الجزائية، فيه خطر وضرر لا يتفق مع قواعد الشريعة الإسلامية، لأن ما طبق من قبل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، في جرائم الحدود والقصاص، لا يمكن أن يتخذ قاعدة في جرائم التعزير، المتروكة لولي الأمر كي يحددها حسب إرادته. ولما كانت جرائم الحدود والقصاص والديات قد فرغ منها نهائياً في عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يُخشى من صدور تشريع جديد فيها يمكن أن يكون له أثر رجعي، ولكن الذي يُخشى منه هو جرائم التعزير، حيث يمكن لولي الأمر أن يجد في فكرة سيادة أمن المجتمع ونظامه مبرراً، ليقرر تطبيق النصوص الجزائية على أفعال سبقت صدورها، فيخل بقاعدة أساسية من قواعد الشريعة[37].
ومن نتائج مبدأ «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص»، بالإضافة إلى عدم رجعية القانون، قصر التجريم وترتيب العقوبات على القانون المكتوب دون غيره من المصادر القانونية، والنص على عقوبات الحدود والقصاص في القرآن والسنة النبوية وإجماع المسلمين عليها، يجعل منها ضماناً شرعياً لحق أي مسلم ويحميه من تعسف المجتمع أو القضاء، كما أن النص على تجريم هذه الأفعال وإعلان عقوباتها وشيوع ذلك بين أفراد المجتمع الإسلامي، يساهم في تحذير المسلمين من اقترافها، ويبث في نفوسهم الخوف من العقوبة التي تنتظرهم، وهذا ما قامت به آيات كثيرة عندما حذرت المسلمين والمؤمنين بشكل واضح ومباشر من هذه الجرائم وغيرها، يقول عز من قائل: ﴿تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾[38] وفي آية أخرى يقول سبحانه وتعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا}[39].
والخلاصة: فمبدأ «قانونية الجرائم والعقوبات» أو «لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص» -كما مر معنا- لم تعرفه التشريعات الجنائية إلا حديثاً حيث أعلن عنه أول مرة بعد الثورة الفرنسية ونص عليه قانون العقوبات الفرنسية سنة 1810م[40]أما قبل ذلك فكان القضاة يتحكمون في تحديد الجرائم وتعيين عقوبتها، والناس لا يعرفون ما لهم وما عليهم، وهذا يعني أن القوانين الوضعية لم تتوصل إلى ما وصل إليه الفقه الإسلامي إلا بعد أكثر من عشرة قرون[41].
وهذه القاعدة أو المبدأ يتم تطبيقه في الفقه الإسلامي في أحد إطارين، إطار جامد «جرائم الحدود والقصاص» حيث أتى النص مفصلاً للفعل المكون للجريمة ومحدداً للعقوبة، وإطار مرن في «جرائم التعزير» حيث تبين النصوص الأفعال التي تُعدُّ- أو يمكن أن تُعدُّ- جرائم تعزيرية ويترك تحديد العقاب عليها للسلطة المختصة في الدولة الإسلامية، تراعي في تقريره وتوقيعه ظروف الزمان والمكان وشخص الجاني[42].
2 - القضائية:
المقصود من قضائية العقوبة هو أن السلطة القضائية هي المسؤولة عن توقيع العقوبات الجنائية، والقاضي أو المحكمة المعنية من طرف السلطة القضائية هي التي تعلن وتفرض العقوبات الجزائية، لأن قضائية العقوبة تتمة لشرعيتها «فلا عقوبة إلا بنص ولا عقوبة إلا بحكم قضائي»[43] ولا يقدح في الالتزام بهذا المبدأ أن يعترف المتهم بجريمته اعترافاً صريحاً، أو تكون الجريمة المنسوبة إليه متلبساً بها، أو يرضى هو بتنفيذ العقوبة، ففي كافة الأحوال تمتنع إدانته والحكم عليه بعقوبة دون أن يجسد هذه العقوبة حكم قضائي. وليس ذلك المبدأ الحديث سوى اللازمة المنطقية لمبدأ الفصل بين السلطات، كما أنه تعبير عن اندثار نظام الانتقام الفردي، وصيرورة الاختصاص بتطبيق العقوبات الجنائية من احتكار السلطة القضائية[44].
وقد كانت صلاحيات القاضي قبل الثورة الفرنسية واسعة في مجال التجريم والعقاب، وهذه السلطة التحكمية للقضاة كانت مخلة بالعدالة ومنتهكة لحقوق الإنسان، لذا طالبت المدارس العقابية بتحديد هذه السلطة عن طريق مبدأ «شرعية الجرائم والعقوبات»، وأصبح القاضي بعد إقرار هذا المبدأ ناطقاً بالعقوبة فقط، والتي كانت ذات حد واحد في الغالب، ما انعكس بدوره سلباً على مفهوم المساواة والعدالة، لأن لكل جريمة ظروفها ودوافعها الخاصة ولكل مجرم درجة مسؤولية تختلف عن غيره، لذلك ليس من العدل أو المساواة أن تكون هناك عقوبة واحدة لكل المجرمين.
ومن ثم طالبت بعض المدارس العقابية بتوسيع صلاحية القاضي ليس في التجريم أو إنشاء عقوبات جديدة لم ينص عليها المشرع أو القانون، وإنما في اختيار العقوبة المناسبة لكل جريمة ومجرم انطلاقاً من العقوبات المنصوص عليها، والتي تحقق أهداف السياسات العقابية المعتمدة، وبالتالي فالعقوبة الجزائية لا يمكن توقيعها إلا بناء على حكم قضائي صادر عن محكمة جزائية، والقاضي الجزائي هو الذي يحاكم المتهم، ويقرر جرميته، ويحدد مقدار وجنس العقوبة التي يستحقها، ويشرف على تنفيذها[45].
أما في الشريعة الإسلامية فمما لاشك فيه أن السلطة القضائية كانت ولا تزال جزءاً من النظام الإسلامي لأن العدل هو الغاية من رسالات الله عز وجل، وإقامة الحق والعدل هي التي تشيع الطمأنينة وتنشر الأمن، ومن أهم الوسائل التي يتحقق بها القسط، وتحفظ الحقوق، وتصان الدماء والأعراض والأموال، هي إقامة النظام القضائي الذي فرضه الإسلام[46]. وقد ثبت أن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم) كان القاضي الأول في الدولة الإسلامية[47]، وجاء في عدد من الروايات أنه بعث الإمام علي (عليه السلام) وأبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل إلى اليمن للقضاء[48]، وبعد انتقاله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الرفيق الأعلى باشر الخلفاء من بعده القضاء بأنفسهم.
لذلك فقد أجمع المسلمون على مشروعية تعيين القضاة والحكم بين الناس، لما في القضاء من إقامة العدل وإحقاق الحق، وإشاعة الطمأنينة، ونشر الأمن، وصون الدماء والأعراض والأموال، ورفع التظالم، وفصل التخاصم، بل صرح الفقهاء -كما نقل الماوردي في الأحكام السلطانية- بأن أحد واجبات الإمام العشرة: تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصفة، فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم[49] وقد تحدثت كتب الفقه والحديث مطولاً عن وظيفة القضاء وصفات القضاة[50] والشروط المطلوب توافرها فيمن يتولى القضاء في المجتمع الإسلامي[51].
وبما أن عقوبات جرائم الحدود والقصاص منصوص عليها في القرآن والسنة، فإن عمل القاضي هنا هو الرجوع إلى هذين المصدرين التشريعيين لإعلان العقوبة المقررة بعدما تكتمل لديه شروط التجريم المعتبرة شرعاً كذلك، فإذا ثبتت الجريمة سواء بالإقرار أو البينة وانتفت جميع الشبهات، لم يبق للقاضي من دور سوى النطق بالعقوبة المقدرة شرعاً ومباشرة تنفيذها، ولا يحق له أن يعطل حداً من حدود الله، أو يشرع عقوبة جديدة غير منصوص عليها، لأنه لو فعل ذلك فسينطبق عليه قول الله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾[52]، وقوله عز وجل: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[53].
لكن النطق أو إعلان العقوبة ليس هو فقط ما يقوم به القاضي في عقوبات الحدود والقصاص، وإنما له دور مهم وأساسي في تحقيق العدالة، فقبل النطق بالعقوبة يقوم القاضي بالتأكد من توافر أركان الجريمة لتطبيق الحد، كشهادة أربعة شهود عدول في الزنا، رأوا الفعل في وقت واحد «كالميل في المكحلة»، أو التأكد من صحة الإقرار لسقوط الحد برجوع المقر عن إقراره[54].
وكذلك إمكانية تخفيف العقوبة وإن كان الأصل عدم تخفيف العقوبة في جرائم الحدود، لأن الحد حق لله تعالى، وليس للقاضي المساس بهذا الحق، لكن فقهاء المسلمين أقروا الخروج على هذه القاعدة في جريمة السرقة، عندما تقع للحاجة فلا يستوجب القطع، ويمكن المعاقبة عليها بعقوبة تعزيرية[55]. وفي القصاص لابد للقاضي من التأكد من شروط توقيعه، مثل البلوغ، ومعرفة قصد الجاني، لأن عدم القصد يُحوِّل فعل القتل من عمد إلى شبه العمد أو القتل الخطأ، وقد يتعذر استيفاء القصاص فتجب الدية. أو أي عقوبة تعزيرية أخرى، وكذلك هناك العفو والصلح[56]، وهذه القضايا يَفصِلُ فيها القاضي ويحسم أسباب النزاع فيها بين المتخاصمين.
وكذلك التأكد من خلو الفعل الجرمي من أية شبهة تدرأ عقوبة الحد[57]، لأن مع أي شبهة تتحول العقوبة الحدية إلى عقوبة تعزيرية، فتتسع سلطة القاضي في اختيار العقوبة الملائمة لخطورة الجريمة أو الحق المعتدى عليه والكفيلة بتحقيق الردع والانزجار، وسنتحدث بعد قليل عن سلطة القاضي في التعازير وعلاقتها بقضائية هذه العقوبات.
بالإضافة إلى ذلك لديه سلطة تفسير النصوص، إذا وجد غموضاً أو خفاء في دلالتها، أو تضارباً بين عباراتها، إذا كان مجتهداً، وإذا لم يكن مجتهداً فإن عليه أن يأخذ تفسيرها من أحد المجتهدين[58]. أو المذهب الفقهي الذي يقلده أو يعتمد تفسير المذهب الفقهي الرسمي للدولة[59].
إن مسؤولية القاضي في الشريعة تتجاوز -كما قلنا سابقاً- النطق بالعقوبة الحدية أو إعلانها حكماً، لأن تحقيق العدالة وتطبيق أحكام الشريعة على الوجه الأكمل والحقيقي منوط بما يقوم به القاضي من تحرٍّ وبحث ومعرفة ظروف وملابسات كل جريمة ودرجة مسؤولية أي مجرم، وعدالة القاضي وصدقه ورغبته وحرصه الشديد على تحقيق العدالة الإلهية في الأرض، لذلك عَدَّ الإسلام منصب القضاء من المناصب الخطيرة وعَدَّ مسؤولية القاضي جسيمة.
وفي كتب الفقه والحديث أبواب خاصة بالقضاء، تحتضن عشرات الروايات وأقوال العلماء تحض القاضي على الاجتهاد وبذل الوسع في تحري الحق والعدل، وتحذره من السقوط في الخطأ أو الظلم، وتَعِدُ القاضي العادل بالجنة والرضوان كما تتوعد القاضي الظالم أو الجاهل بالعذاب الأليم في الآخرة، يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾[60] وعن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن القاضي العادل ليجاء به يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أن يكون قضى بين اثنين في ثمرة قط»[61]، وعنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً يقول: «القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاضي في الجنة، قاضٍ قضى بالهوى فهو في النار، وقاضٍ قضى بغير علم فهو في النار، وقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة»[62].
3 - مبدأ المساواة في العقوبة:
يقصد به أن نصوص القانون التي تقرر العقوبات تسري على جميع الأفراد دون تفرقة بينهم، فالمشرع إذ ينص في القاعدة الجنائية على عقوبة ما فإن هذه الأخيرة تصبح قابلة للتطبيق على كافة الأفراد الذين ينتهكون هذه القاعدة[63]. وقد كان القانون الوضعي حتى أواخر القرن الثامن عشر يميز بين المواطنين في المحاكمة وفي توقيع العقوبة حتى جاءت الثورة الفرنسية فجعلت المساواة أساساً من الأسس الأولية في القانون[64].
وقد تطور مفهوم المساواة أمام القانون مع تطور البحث في أسباب الجريمة واختلاف الدوافع ودرجات المسؤولية ما يجعل توقيع عقوبة واحدة على جميع المجرمين بعيداً عن تحقيق المساواة الحقيقية والواقعية، وهذا ما جعل المدرسة التقليدية تطالب بتوسيع صلاحيات القاضي في اختيار العقوبة الملائمة لكل مجرم، بحيث أصبح «الفعل الواحد يعاقب عليه بعقوبات متنوعة ومختلفة»[65]، لكن المساواة الواقعية أو الحقيقية ما زالت بعيدة المنال في القوانين الوضعية، لوجود استثناءات يقرها القانون نفسه وهي من مظاهر اللامساواة[66].
أما في الشريعة الإسلامية فإن مبدأ المساواة أمام القانون يرتكز على مبدأ المساواة العامة التي أقرها الإسلام حين اعتبر الناس سواسية كأسنان المشط، «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى»[67]، وكل الناس من آدم وآدم من تراب، والتفاضل الحقيقي بينهم هو في التقوى وهو مقياس إلهي، فالله سبحانه وتعالى هو الأعلم بمن هو المتقي والمطيع لأوامره والملتزم بشريعته التزاماً حقيقياً، والشريعة منزلة من طرف الله سبحانه وتعالى والناس أمامها متساوون، لا فرق بين رئيس أو مرؤوس، أو بين غني أو فقير، أو بين رجل أو امرأة، بل تطبق عليهم جمعياً دون محاباة لأحد أو تمييز لسبب من الأسباب.
وهذا ما أوضحه وأكده الحديث الصحيح المروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، عندما، طُلب منه أن يعفو عن سارقة من قريش، فصعد المنبر وخاطبهم قائلاً: «إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، و إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها»[68] إن فاطمة بنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان لها أن تسرق، لكن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله إنما يرسخ في أذهان المسلمين أن حدود الله لا تجب فيها الشفاعة أبداً مهما بلغ شرف المعتدي لأنها من حقوق الله، وأن فاطمة ابنته -وهو خاتم الأنبياء والمرسلين وقائد الدولة- هي والمرأة المخزومية المتهمة بالسرقة سواسية أمام حكم الشريعة، فمن تلبس بالجرم طبق في حقه الحد كائناً من كان[69]. وهناك أحاديث كثيرة تنهى بشدة عن الشفاعة في الحدود أو التمييز بين المسلمين في تطبيق الحدود في سائر العقوبات.
والمساواة في عقوبات الحدود واضحة لأن الشريعة عينت العقوبة وحددتها، ولا يجوز للقاضي أو الحاكم الشرعي استبدالها بغيرها فإذا اكتملت شروط التجريم اُعتدِّبها شرعاً وجب تطبيق العقوبة المقررة للجريمة دون زيادة أو نقصان، ودون الأخذ بالحسبان أوضاع الجاني الشخصية، مرتبته الاجتماعية، ومدى تجاوبه مع العقوبة. فالحدود تخضع لمبدأ المساواة المطلقة في إقامتها[70] أما في جرائم القصاص فالمماثلة والمساواة واضحة بين العقوبة والجريمة، يقول تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}[71]. وإذا كان المسلمون متساوين أمام الشريعة فهم متساوون أمام القضاء، من جهة خضوعهم لولايته، والإجراءات المتبعة في إقامة الدعوى، وأصول المرافعة، وقواعد الإثبات وتطبيق النصوص وتنفيذ الأحكام، ووجوب تحري العدالة بين الخصوم فلا فرق بين فرد وفرد، بل حتى الأعداء يظفرون بعدالة القضاء والمساواة أمامه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}[72]، وقال تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾[73].
بل إن المساواة التي أعلنها الإسلام في عالم القضاء وطبقتها رجاله الصلحاء، لا يوجد لها نظير في سائر الأنظمة الأخرى[74]. يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظته وإشارته ومقعده ومجلسه»[75]. ويقول الماوردي الشافعي: «يتميز مجلس الحكام عن مجالس غيره في أن الحاكم يساوي بين الخصمين في مقعدهما والنظر إليهما، وكلامه معهما، ولا يخص أحدهما بترتيب، ولا نظر ولا كلام[76].
بل طالب العلماءُ بالتسوية بين الخصمين، ليس فقط في السلام والكلام والإذن بالدخول في المجلس والتكريم، بل «يستحب للقاضي أن يساوي بينهما حتى في الميل القلبي»[77]، وهذا أقصى درجات المساواة أمام القضاء. كما جرت السنة الإسلامية على محاكمة الخلفاء والولاة، وتقديمهم إلى ساحة القضاء، فيما إذا كان لهم خصم، وإذا كانت لهم دعوى على أحد فإنهم يرفعون أمرهم إلى القاضي ليحكم بينهم. فهذا الإمام علي (عليه السلام) في أيام خلافته، فَقَدَ درعاً له فوجده عند يهودي، فادعى ملكيته، فرفع الإمام علي (عليه السلام) أمره إلى القاضي فحكم لصالح اليهودي، فما تأثر الإمام علي (عليه السلام) وانصاع للقضاء[78].
والخلاصة: مبدأ المساواة من أهم المبادئ الإسلامية المستفادة من نصوص الشريعة العامة المقررة للمساواة بين الناس، وقد قررت الشريعة الإسلامية هذا المبدأ أمام النصوص الجنائية تطبيقاً كاملاً[79]. ولم تقر أيًّا من الاستثناءات الموجودة في القوانين الوضعية[80].
شخصية العقوبة:
وهذا المبدأ الذي تنبته القوانين الوضعية نتيجة لمبدأي المسؤولية الأخلاقية والحرية الفردية[81]، وهو كذلك من المبادئ العامة الأساسية في الشريعة وليس فقط في عقوبات الحدود والقصاص، يقول عز من قائل: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾[82]، ويقول أيضاً: ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى﴾[83].
وفي آية أخرى يقول جل شأنه: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[84] أي لا يحمل أحد ذنب غيره، ولا يجازى بذنب غيره[85]، وفي الحديث عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه»[86] وفيه إشارة لشريعة الانتقام التي كانت سائدة في العصر الجاهلي حيث المنتقم (فرداً كان أم قبيلة) يسرف في القتل ويطلب في سبيل ذلك غير القاتل بالقاتل، والعدد بالواحد، والرجل بالمرأة، والحر بالعبد، بل كان العرب في الجاهلية كثيراً ما يأخذون الإنسان بالبهيمة[87].
ومبدأ شخصية المسؤولية الجنائية تعُدُّ الفقهاء من القواعد المطلقة في الشريعة الإسلامية، وقد طبق تطبيقاً دقيقاً، فلا يسأل الشخص عن فعل غيره مهما كنت صلة قرابته أو صداقته به[88]، ولم يعرف هذا المبدأ إلا استثناء واحداً وهو تحميل العاقلة الدية[89]، مع الجاني في القتل شبه العمد والخطأ، بل من الفقهاء من عَدَّه تطبيقاً للمبدأ وليس استثناء منه[90]، وقد رأينا كيف أن مبدأ شخصية العقوبة في السياسات العقابية الحديثة لا ينفك عن شرعيتها وعدالتها، وهذه العدالة لن تتحقق إلا إذا جاء العقاب منسجماً وملائماً لدرجة المسؤولية وأهداف العقاب، وبما أن لكل فعل جرمي ملابسات ودوافع مختلفة باختلاف المجرمين، فإن العقوبة ستكون هي كذلك مختلفة ومتنوعة، وقد أعطيت للقاضي سلطة تقديرية واسعة في هذا المجال، أي في اختبار العقوبة المناسبة لدرجة المسؤولية وخطورة الجريمة وأهداف الردع والإصلاح أو التأهيل، لكن الشريعة الإسلامية قيدت سلطة القاضي بما فرضته من جزاء في جرائم الحدود والقصاص، فليس له أن ينشئ عقوبة خاصة وليس له أن يتعدى المقدار المحدد سلفاً[91].
فإذا ثبتت الجريمة بالإقرار أو بالبينة أو بالوسائل الأخرى المعُتدِّ بها، وجب عليه إعلان العقوبة المقررة وتنفيذها، وإذا تخلف ركن أو شرط من شروط التجريم الشرعية أو ظهرت له شبهة ما، هنا فقط تكون لدى القاضي سلطة أوسع في اختيار عقوبات تعزيرية بديلة، يراعي فيها الردع والانزجار، والتأهيل والإصلاح، بالإضافة -طبعاً- إلى تحقيق العدالة ورد المظالم وإحقاق الحق.

